فتوح أوروبا (1).. تحرير أنطاكية
كتبه/ محمد سرحان
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
تحرير أنطاكية(1):
في أواخر القرن الرابع الهجري حيث بدأ ميزان القوى بين أوروبا النصرانية والشرق المسلم يميل لمصلحة أوروبا، فلم يُضع الأوربيون هذه الفرصة الذهبية السانحة؛ فهب منهم الفارس الطامع في الأسلاب، والتاجر المتطلع إلى نفائس المشرق، والمرابح المندفع وراء الثروة، والفرنسي الهارب من المجاعة والطاعون، والمتدين المهووس التائق -"المشتهي"- إلى رشفة من ماء الأردن أو لمسة من جدران كنيسة القيامة، هب هؤلاء جميعًا يلبون دعوة البابا "أريان الثاني" إلى الحصول على الغفران إن هم خلَّصوا قبر المسيح من أيدي المسلمين، واتجهوا نحو الشرق الإسلامي.
وقد خاطوا الصليب على أكتافهم اليمنى فاندفعوا كالسيل لا يقف في وجهه شيء، ولا تصده عن غايته قوة، حتى وصلوا إلى أنطاكية أول قلعة من قلاع المسلمين، وأعظم حصن يفصل بينهم وبين "البيزنطيين"، وذلك سنة إحدى وتسعين وأربعمائة للهجرة، فنهض لهم واليها بجيشه وقارعهم دونها ما وسعه الجهد، ولكن المدينة سقطت في أيدي الصليبيين.
وكونوا منها ومما حولها أول إمارة للصليبيين في بلاد الإسلام، ودعيت هذه الإمارة باسم: "إمارة الرها" أو: "إمارة أنطاكية".
نزل سقوط المدينة العظيمة على المسلمين نزول الصاعقة فقامت الشعوب الإسلامية تلح على حكامها المتصارعين المتنازعين أن ينقذوا أنطاكية؛ فأذعنوا لذلك، وأرسلوا طائفة من جيوشهم؛ لتحرير المدينة المنكوبة، فحاصرتها الجيوش الإسلامية حصارًا شديدًا حتى تجرع الصليبيون الشقاء صنوفـًا، والعذاب ألوانـًا حتى أكلوا لحم الميتة، وشاء أحد القساوسة أن يشد من عزم الصليبيين المحاصرين فأخبرهم بأن أحد القديسين أبلغه أن الحربة التي طعن بها السيد المسيح -على زعمهم-(2)، مدفونة في موضع من أنطاكية، وأن عليهم أن يخرجوها، وأن القديسين سيحاربون معهم، ونبش الصليبيون الأرض واستخرجوا الحربة المزيفة المدسوسة؛ فجن جنونهم فرحًا بها، واندفعوا يقاتلون المسلمين حتى فكوا الحصار عن أنفسهم، ورسخت أقدامهم في المدينة العظيمة.
ومنذ ذلك اليوم غدت إمارة أنطاكية منطلقـًا للصليبيين وطريقـًا إلى بيت المقدس، وشجى "شوكًا" في حلوق المسلمين، وقذى في عيون السكان وما جاورها من بلاد الشام.
وبقي الأمر على هذا الحال ما يقارب قرنين من الزمان؛ ظهر خلالها قائدان كبيران من أعظم قواد المسلمين هما: الملك العادل "نور الدين محمود زنكي"، والبطل الفاتح المظفر "صلاح الدين الأيوبي"، لكن أيًا من القائدين الكبيرين لم يكتب له فتح المدينة العظيمة على الرغم من الهزائم التي أنزلها صلاح الدين بالصليبيين، وظلت أنطاكية تنتظر: اليوم العظيم، والفاتح العظيم.
أما اليوم: فهو الرابع عشر من رمضان سنة ست وستين وستمائة.
أما القائد: فهو بطل ظل على مدى سبعة عشر عامًا يشرق في أرض المسلمين ويغرب؛ ينازل التتار الوثنيين، ويقارع الصليبيين الباغين فما فُلَّ له سيف، ولا لانت له قناة، ولا انكسر في موقعة، حتى ألقى الله مهابته ورعبه في قلوب أعدائه وأعداء الله، ذلكم هو القائد البطل: "الظاهر بيبرس".
لم يعمد "الظاهر بيبرس" إلى فتح أنطاكية إلا بعد أن هيأ دولته وشعبه لهذا الأمر العظيم، ووطد ملكه، وعزز جيشه، وفتح بلادًا كثيرة على الطريق إلى أنطاكية؛ فخضد -"قطع"- شوكة التتار، وقطع أوصال الصليبيين، وغدت الفرصة سانحة أمامه، واتخذ بيبرس -رحمه الله- الأسباب المعينة على هزيمة الأعداء، واتخذ لنفسه أسلوبًا ومنهجًا عسكريًا فريدًا قوامه الصرامة في التعامل مع الأعداء، ووضع الخطط الحربية المناسبة، والسرية التامة في كل تحركاته وتوجهاته حتى مع جنده وقادته؛ فتهاوت أمامه المدن والقلاع، وطهرها من رجس الصليبيين.
حتى كان الموعد مع أنطاكية جمع بيبرس جمهرة جنوده في بلاد الشام، أتى بهم من مصر، والموصل، والحجاز، ومن كل مكان، واستقدم المنجنيق من دمشق، وحملها على ظهور الجمال فلما ناءت بها -"ثقلت عليها"- الجمال؛ حملها الأمراء والأجناد والقواد على الرقاب، وأخذ السلطان نفسه يعمل في جر الأخشاب مع البقر كما يقول المؤرخون! ولم يكن بين هذا الجيش اللجب رجل واحد يعلم إلى أين المسير!!
وأمر "بيبرس" بإبطال الخمور والمنكرات، وبنى مسجدًا في حمص، وهكذا كان معظم قادة المسلمين يقدمون الأعمال الصالحة قبل جهادهم، ويطهرون البلاد من المعاصي والمنكرات؛ لعلمهم أن ذلك هو طريق النصر، وما خذل المسلمون وما هزموا إلا بما قدمت أيديهم.
ودب الرعب في قلوب حكام الإمارات الصليبية التي ظلت باقية في العالم الإسلامي إلى ذلك الوقت، والتي كانت أنطاكية واحدة منها؛ فأرسلوا وفودهم تعرض عليه الهدنة ودفع الجزية فـَقَبـِل مهادنة أكثرهم، واستنكف -"رفض"- عن مهادنة بعضهم، وكان وفد أنطاكية من الذين ردوا على أعقابهم خائبين، وبذلك تمكن الداهية المحارب من التفرد بفريسته، وضمن لنفسه ولجيشه أن ينازلها وحيدة من غير معين، معزولة من غير سند.
ولم يكن ذلك الاستعداد كله عبثـًا: فأنطاكية مدينة من أعظم مدن العالم مناعة لها سور ممرد طوله اثنا عشر ميلاً، وعلى هذا السور ثلاثمائة وستون برجًا، وفي هذه الأبراج عشرون ألف شرفة يطوف عليها كل يوم وليلة أربعة آلاف حارس على التناوب.
وبلغ الجيش الإسلامي مشارف المدينة في يوم الجمعة من أيام رمضان المباركة، فكان ذلك شرف زماني ترجى فيه إجابة الدعوات، وأرسل المسلمون للنصارى يطلبون منهم الاستسلام؛ حفظـًا لأرواحهم، لكنهم لم يفعلوا؛ فهب المسلمون ليؤدوا فريضة الجهاد؛ لإعلاء كلمة الله، وهم يؤدون فريضة الصيام طاعة لله.
والتحم جند الله مع جند الشيطان في معارك حامية الوطيس دامت أربعة أيام متواليات، وفي غرة الرابع عشر من رمضان دخلت جيوش المسلمين المدينة الحصينة، وأنزل المسلمون من فوق بروجها راية الصليب، ورفعوا مكانها راية الإسلام، وسمعت من فوق شرفاتها أصوات المؤذنين بعد أن كانت تجلجل عليها دقات النواقيس، وكتبت كتب البشائر لأنحاء العالم الإسلامي بهذا النصر العظيم، والفتح الكبير.
فطوبى للشهداء الصائمين الذين فاضت أرواحهم عند أسوار أنطاكية، وأيديهم مشدودة على مقابض السيوف.
وشربة من ماء الكوثر للعطاش الذين ماتوا وفي أكبادهم ظمأ إلى الماء لا يفوقه إلا ظمؤهم إلى الشهادة.
وكان ملك أنطاكية خارجها فأرسل له السلطان "بيبرس" كتابًا يخبره بهذا الفتح ويصف له الوقعة، ويدعوه إلى الاستسلام، كتاب كله عز وفخار، واستعلاء بدين الله -تعالى- "انظره في كتاب: من معارك المسلمين في رمضان".
للاستزادة:
حدث في رمضان للدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا.
ري الظمآن للشيخ سيد العفاني.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أنطاكية مدينة في تركيا بناها أنطيغونيا، وأتمها من بعده سلقوس سنة 300 قبل الميلاد وأصبحت ثالث مدن الإمبراطورية الرومانية.
(2) قال الله -تعالى-: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) (النساء:157)، وقال الله -تعالى-: (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا . بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ) (النساء:157-158).