لماذا أدخل أصبعه في جحر العقرب؟!
عبد الرحمن بن عبد اللّه السحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
هذا أحد العلماء وهو كَهْمَس بن الحسن الحنفي البصري.
قال عنه الذهبي: من كبار الثقات، وكان - رحمه الله - بـرّاً بأمه، فلما ماتت حج، وأقام بمكة حتى مات.
فماذا بلغ من بِـرِّه؟
قيل: إنه أراد قتل عقرب، فدخلت في جحر، فأدخل أصابعه خلفها، فضربته، فقيل له، قال: خفت أن تخرج فتجيء إلى أمي تلدغها!
تلقّى لسعة العقرب بدلاً من أمـه!
إن بر الوالدين من الأعمال الصالحة التي يُتقرّب بها إلى الل،ه كما في قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار، والقصة في الصحيحين، وفيها:
فقال واحد منهم: ((اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران، فكنت آتيهما كل ليلة بلبنِ غنم لي، فأبطأت عليهما ليلة، فجئت وقد رقدا، وأهلي وعيالي يتضاغون من الجوع، فكنت لا أسقيهم حتى يشرب أبواي، فكرهت أن أوقظهما، وكرهت أن أدعهما فيستكنَّا لشربتهما - أي يضعفا -، فلم أزل أنتظر حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا، فانساخت عنهم الصخرة حتى نظروا إلى السماء)).
وإن بر الوالدين مما يبلغ معه العبد المنزلة العالية عند الله، بل يبلغ منزلة عند الله بحيث لو أقسم على الله لأبرّ الله قسمه كما في قصة أويس القرني - رحمه الله - حيث قال عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن، كان به برص فبَرَأ منه إلا موضعَ درهم، له والدةٌ هو بـها بـرٌّ، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل)) رواه مسلم، وكان قال ذلك لعمر - رضي الله عنه -، وفي رواية لمسلم: ((إن خير التابعين رجل يقال لـه أويس، وله والدة، وكان به بياض، فمروه فليستغفر لكم)).
وإن بـرّ الأمهات يبلغ بصاحبه الدرجات العُلى:
روى البخاري من حديث أنس بن مالك أن الرُّبيِّع بنت النضر - عمة أنس أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا نبي الله ألا تحدثني عن حارثة؟ - وكان قتل يوم بدر أصابه سهم -، فإن كان في الجنة صبرتُ، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء، قال: ((يا أم حارثة!! إنـها جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفـردوس الأعلى)).
هو حارثة بن النعمان - رضي الله عنه - ويُقال "حارثة بن سراقة"، وترجم الحافظ ابن حجر في الإصابة لاثنين بينما رجّح في الفتح أنه واحد.
هذا الرجل أوصلَه بـرُّه إلى الجنة:
فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بينا أنا أدور في الجنة سمعت صوت قارئ، فقلت: من هذا؟ فقالوا: حارثة بن النعمان، قال: كذلكم البر، كذلكم البر، قال: وكان أبـرَّ الناس بأمِّـه)) رواه الإمام أحمد وابن حبان والحاكم، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، وهو كما قال.
فما هو البر؟
سُئل الحسن ما برّ الوالدين؟
قال: أن تبذل لهما ما ملكت، وأن تطيعهما في ما أمراك به؛ إلا أن تكون معصية. رواه عبد الرزاق في المصنف.
من أجل هذه الفضائل المجتمعة في بر الوالدين؛ حرص السلف على البر بآبائهم فهذا عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - يبـرّ ابن صاحب أبيه بعد موت أبيه فعن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أنه كان إذا خرج إلى مكة كان له حمار يتروّح عليه إذا مـلّ ركوب الراحلة، وعمامةٌ يشد بـها رأسه، فبينا هو يوماً على ذلك الحمار؛ إذ مرّ به أعرابي، فقال: ألست ابن فلان بن فلان، قال: بلى فأعطاه الحمار، وقال: اركب هذا، والعمامة أُشدد بـها رأسك، فقال له بعض أصحابه: غفر الله لك أعطيت هذا الأعرابي حماراً كنت تروّح عليه، وعمامةً كنت تشدُّ بـها رأسك، فقال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - يقول: ((إن من أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولِّي))، وإن أباه كان صديقاً لعمر - رضي الله عنه -. رواه مسلم.
وكان أبو هريرة - رضي الله عنه - من أبـرّ الناس بأمه.
ومن أجل ذلك بكى الشعراء أمهاتهم:
بكى الشعراء آبائهم لِمَا كانوا يرجون من بِرِّهم، والإحسانِ إليهم، ومن أجمل من رثى وبكى والديه الشاعر عمر بـهاء الدين الأميري، وما قالَه في والدَيْه:
أبتي وأمي موئلي ومَنــاري بكما اعتزازي في الورى وفَخَاري
يا شعلتين منيرتين أضـاءتا قلبي الفَتِيَّ بأبهجِ الأنوارِ
يا مقلتينِ من الكرى قد فَرّتا سهراً عليّ مخافـةَ الأكدار
ما كنت أحسَبُ قبل تـركِ حِماكُما أني أحبُّكما بذا المقـدار
وقال في شأن أمِّه:
أنتِ التي داريتِني فَنَمَوتُ في أحضان عطفِكِ خاليَ الأكدار
أنتِ التي أنشدتِني لحنَ الوفا وسهرتِ من أجلي إلى الأسحار
أنتِ التي قبّلتِني وبَسَمتِ لي وضممتِني وأنا الصغير العاري
أنت التي لقَّنتِني آي الهدى والحبَّ والإحسانِ واسمَ الباري
أرشدتِنِي ونصحتِني ومنعتِني وعدلتِ بي عن منهج الأشرار
ولما ماتتْ أمُّه بكاها ورثاها، فلامُه بعضُ أصحابه، فقال:
يا صحبُ لا تعذلوني في البكاء وقدْ فقدتُ أمي، فقلبي ليس من حجرِ
قلبي قـد انتزعت منه حشاشتُـه في فجأةٍ، والردى لونٌ من القدرِ
ودّعتُها قبل شهـرٍ في ارتقابِ غدِ اللقيا وعِشنا معاً بالروحِ في سفري
وعدتُ في لهفةٍ حرّى لأصحبَها فما لها لا تُناديني: هلا عُمـري
ولا تمـدُّ يداً نحوي تُعانِقني ولا تُساءل عما جـدَّ من خَبري
وقد حرّم الله أقل ما يكون من العقوق وهو كلمة "أف" الموحية بالتّضجّر، المشعرة بالتذمّر قال - سبحانه وتعالى -: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا)، ثم أمر ببرهما والإحسان إليهما فقال: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا).
قال مجاهد في قوله - تعالى -: (فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ) ذا بلغا من الكبر ما كان يليان منك في الصغر فلا تقل لهما أف". رواه ابن أبي شيبة، وقال: "حين ترى الأذى، وتميط عنهما الخلاء والبول كما كانا يميطانه عنك صغيراً، ولا تؤذهما".
وقال ابن كثير - رحمه الله -: "يقول - تعالى - آمراً عباده بالإحسان إلى الوالدين بعد الحث على التمسك بتوحيده، فإن الوالدين هما سبب وجود الإنسان، ولهما عليه غاية الإحسان، فالوالد بالإنفاق، والوالدة بالإشفاق" انتهى.
وأمر الله - سبحانه وتعالى - بالإحسان إلى الوالدين ولو كانا مشركين قال- تبارك وتعالى -: (وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا) قال القرطبي في التفسير: نزلت في سعد بن أبي وقاص فيما روى الترمذي قال: "أنزلت فيّ أربعُ آيات، فذكر قصة، فقالت أم سعد: أليس قد أمر الله بالبر؟ والله لا أطعم طعاماً، ولا أشرب شراباً؛ حتى أموت، أو تكفر" قال: فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها.
وروي عن سعد أنه قال: "كنت بارّاً بأمي، فأسْلَمْتُ، فقالت: لتدعنّ دينك أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعير بي، ويقال: يا قاتل أمه! وبَقِيَتْ يوماً ويوماً، فقلت: يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني هذا، فإن شئت فكلي، وإن شئت فلا تأكلي، فلما رأت ذلك أكلت"، فلا طاعة للوالدين في المعصية.
قال الحسن: "إن منعته أمه عن العشاء في الجماعة شفقة لم يطعها" علّقه البخاري.
وقال - سبحانه - وبحمده: (وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا).
فتأمل الأمر بالإحسان إلى الوالدين، وإن كانا على الشرك؛ بل وإن كانا يدعوان ابنهما إلى الشّرك، فالإحسان مطلوب وإن كانا على الشرك قالت أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما -: قدمت عليّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستفتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت: إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصِل أمي؟ قال: ((نعم، صِلي أمك)) رواه البخاري ومسلم.
ومن هنا ينبغي التنبّه إلى أمر يقع فيه بعض الصالحين أو الصالحات وهو الغلظة والجفاء في حق الوالدين أو أحدهما إذا كان لديه منكرات أو مُخالفات، وحُجّتهم في ذلك أنه يُنكر المنكر، وأنه يُغلظ عليه لأجل ما وقع في من مُنكر، فأقول:
إيهما أعظم المنكرات والمخالفات والمعاصي أو الشرك بالله - عز وجل -؟
ونحن أُمِرنا أن نُحسن إلى والدينا وإن كان منهما ما كان، ماذا لو تألفت قلب والدك ببرِّه، والإحسان إليه؟
ماذا لو تألّفت قلبه بهدية؟
ماذا لو تألفت قلب والدتك بعمرة؟
أو بهدية، أو بزيارة أليس أولى؟
أليس أسرع الطرق إلى القلوب هو الإحسان؟
هل أنت تُريد أن تنتصر لنفسك؟
أم أنك تُريد الهداية لهما وزوال المنكر؟
إن أولى الناس بحسن الصحبة، وطيب المعاشرة؛ هي الأم لما لها من حق عظيم، ثم الأب جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟
قال: ((أمك)).
قال: ثم من؟
قال: ((ثم أمك)).
قال: ثم من؟
قال: ((ثم أمك؟))
قال: ثم من؟
قال: ((ثم أبوك)) كما في الصحيحين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.