الصحوة الإسلامية والانقطاع التربوي
محمد الجيفان
من فضل الله - عزَّ وجلَّ - أنْ مَنَّ على الأُمَّة الإسلاميَّة بِتِلك الصَّحوة المباركة، التي شَملتْ كلَّ مناحي الحياة، وقد تنوَّعت وتعدَّدتْ جهودُ تِلك الصَّحوة المباركة، والتي شمِلَت الصَّحوة العلميَّة والمنهجيَّة، والعقائديَّة والدعويَّة والتَّربويَّة، بل حتَّى السياسيَّة والجهاديَّة، وكلُّها كانتْ جهودًا مباركةً، نفع الله بِها الأمَّة - أفرادًا وجماعاتٍ - فكتب اللهُ أجْرَ أولئِك النَّفَر، وتِلْكُم الجماعات، الَّذين قامتْ على جُهودهم تلك الصَّحوة المباركة.
أحببتُ أن أقِفَ مع ذلك التَّيَّار، الذي اختار الخطَّ التَّربويَّ له مسلكًا وطريقةً للمُساهمة في بناءِ صرْحِ هذه الصَّحْوة المباركة، والذي أنتج لنا نتاجًا حقَّق التَّوازُن في جَميع أمورِه، مبتعدًا عنِ الشَّطَط والإفراط أوِ التَّفريط، وقدَّم تَجرِبةً نوعيَّة مُباركةً رائِدة، لكنَّها كانتْ حبيسةَ الأدْراج، كعادتِنا في كثيرٍ من تَجاربِنا الدَّعويَّة المتميِّزة، في عدم تقْييدها ونقْلِها مكتوبةً للأجْيال القادمة؛ للوقوف عليْها ودراستِها وتَقْيِيمِها والاسْتِفادة منها.
وقد عمِل هذا التَّيَّار السَّلفي التَّربوي على ركائِزَ ثلاثٍ، هي:
تعليم العِلْم الشرعي القائم على الدليل، والتَّربية في المحاضِنِ التَّربويَّة البسيطة، ومِن ثَمَّ القيام بالدَّعوة.
وفي الحقيقةِ لقَدْ عمِل هذا التَّيَّار التَّربويُّ عملاً رائدًا في التَّعليم العامّ، من خِلال الجمعيَّات المدرسيَّة، والذي كان قاعدةَ الانطِلاق في العمل التَّربويِّ الجامعي، الذي شكَّل عملاً نوعيًّا مع قيادات المستَقْبل في بلدانِها، سواءٌ في التَّخصُّصات الشَّرعيَّة أم التَّخصُّصات الأكاديميَّة الأُخْرى، وكانت الجهود مع قلَّة الإمكانات والخبرات، وقلَّة الكوادر والطَّاقات وضعْفِ منهجيَّة التَّخطيط بالأساليب العلمية.
ولكنْ نتيجةً لضعف الخبرات التَّخطيطيَّة، وضعْف التَّنظيم في العمل؛ حصَل الارْتِباك بعد تخرُّج الأعداد الهائلة من طلبةِ الجامعات، الذين تميَّزوا بالاستقامة الظاهرة، والانضِباط المنهجي مع حَمْلِهم التَّخصُّص في الشّهادات العلميَّة الشرعيَّة وغيْر الشرعيَّة، ممَّا أوْجَد الحاجة لشِبْه المحاضِن السَّابقة كمنهجيَّة وليس كأسلوب، بمعنَى وجود الارتِباط العمليِّ دون الصُّورة البسيطة السَّابقة داخل المحاضِن التربوية؛ وذلك لاستيعاب تلك الطاقات الصاعِدة في ظلِّ عدَم توجُّه هذا التَّيَّار السلفي للعمل، من خلال التنظيمات والجماعات، بحيثُ يَكونُ هناك كيانٌ تَفيءُ إِلَيْه هذه الجموع لتستظلَّ بظلِّه الوارفِ؛ لعدم قناعة هذا التَّيَّار بِسلامة مسلك التَّنظيمات السياسيَّة والجماعات الدَّعويَّة تَحتَ أيِّ مُسمًّى، وإنَّما من خِلال الارتِباط بالقيادات الوُسْطى لهذا التَّيَّار السلفي، والمرتبِطة بالقيادات الشرعيَّة من العُلماء وطلبة العلم، وكان ذلك سببًا للانْقِطاع التَّربوي الذي نتحدَّث عنْه، فقد تخرَّجت تلك الجموع لتبدأَ في العطاء، على خلفيَّة تلك الجهود التربويَّة البسيطة التي قُدِّمتْ لها، على ضعْفٍ في الإمكانات والتَّأْهيل، وكان يغلبُ عليْها الطابع الفردي للأشخاص المؤثِّرين، مع جهودٍ بسيطةٍ للاجْتِماع والتكاتُف والتَّواصل.
أحسَبُ أنَّ ذلك التَّيَّار التَّربويَّ يعيش حالِّيًّا أبْهى صوَرِه من حيثُ توفُّر الإمكانات والطَّاقات المتحمِّسة والمؤهَّلة، والمتخصِّصة في التَّخطيط والتَّنظيم والتَّأليف والإلقاء، ومن توفُّر المنابر الإعلاميَّة على أعلى مستوى، من حيث القنواتُ الفضائيَّة والمجلات والصُّحف والمواقع الإلكترونيَّة، والتي كانت تفتقد في وقت سابق، وليس من خلال الشَّريط الذي يَخنق أحيانًا كثيرة، وكذلك توفُّر الإمكانات المادِّيَّة من خلال المشاريع التِّجاريَّة ومشاريع التَّعليم الخاصِّ، ولكن أين من يجنِّد تِلْكَ الطاقات وتلك الإمكانات؛ لتأصيل ذلك المنهج التَّربوي، وإعداد المناهج المؤصّلة من قِبَل المتخصِّصين في إعداد المناهج التربوية، وتأهيل الكوادر التي تقوم بالعمل، فلئِن كان نِتاج ذلك التَّيَّار هذه المساهمة الفاعِلة في هذه الصَّحْوة المباركة مع ضعْفِ الإمكانات، وضعْفِ التأهيل للعاملين، وعدم وجود المناهِج المنظَّمة، وعدم وجود الخُطَط القائمة على الأسس التخطيطيَّة الاستراتيجيَّة، فكيف سيكون النِّتاج في ظلِّ توفُّر الإمكانات الحالِّيَّة الكبيرة.
إنني أدعو أصحابَ ذلك التَّيَّار التَّربوي النَّوعي للوقوف قليلاً، والمراجعة والمحاسبة، وإعادة ترتيب الأوْراق، فليس صحيحًا أن يكون هذا التَّيَّار، الذي قدَّم للأُمَّة هذا النتاج المباركَ والموفَّق من هذه التَّجربة الثرية - بعد أن قطفْنا ثمرة ذلك العمل التَّربوي بصورته البَسيطة - أن يقِف موقِفَ الفرح بِهذه المكاسب فحسْب، وخصوصًا وقد أصبحنا نرى ذلك التَّراجُع، وذلك التغيُّر لدى بعض نتاج ذلك التَّيَّار، الذي افتقد الولاء للمنهج الذي تربَّى عليه، ولَم يجد ما يذكِّره بذلك التَّيَّار إلا تذكُّر تلك المواقف التَّربوية الدَّعوية التي تلقَّاها في الصغر، بل إنَّ البعض قد ناصَبَه العداءَ والتَّشهير.
كما أدعو أصحابَ ذلك التَّيَّار التَّربوي إلى رَصْد التَّجربة السَّابقة وتقْيِيمها، والاستِفادة من الإمكانات التي توفَّرتْ في أيْدي أفرادٍ من ذلك التَّيَّار، وإعادة الأمور إلى نصابِها، وخصوصًا في ظلِّ الإمكانات الكبيرة للمؤسَّسات الخيريَّة، والجمعيَّات والمراكز، التي يقوم عليها أفرادٌ وجماعاتٌ هم نتاج ذلك المنهج التَّربوي المبارك، خصوصًا ونَحنُ نرى ضعف التواصُل، والذي يتمثَّل في توفُّر الكوادر المعطَّلة، مع احتِياج تلك الجهات الخيريَّة المؤسَّسية للطَّاقات، وغاب الرَّابط الموصِّل بين الكوادر والمؤسَّسات؛ لضعف التواصُل المنهجي بين قيادات التَّيَّار الوُسْطى، والتي نالها ما نالها من نصيبِ الضَّعف، بل والتخبُّط في البحث عن أي أسلوب لإشْغال الوقت والعمل الدَّعويِّ العشوائيِّ، من خلال بعض الرحلات الدَّعوية غير المخطَّطة؛ لإلقاء بعض المحاضرات والكلِمات، أو من خلال اللجوء للعمل الاحتِسابي غير المنظَّم، وغيرها من الأعمال البسيطة في التَّخطيط والتنظيم، والتي ولَّدها - فيما أظنُّ - ذلك الارتِخاء والضَّعف في تواصُل عمل ذلك التَّيَّار التَّربوي بشَكْلِه السابق، مع أنَّ الجِهات المؤسَّسية النظاميَّة التي هي نتاجٌ لذلك التَّيَّار يُمْكِن أن تكون مظلَّة رسميَّة للعمل مرَّة أخرى.
كما أدعو أصحاب ذلك التَّيَّار التربوي لوضْعِ منهجٍ تربويٍّ مقنَّن للمَحاضِن التَّربويَّة، في المراحل العمريَّة الأوليَّة في التعليم العام وفي التعليم الجامعي، ثُمَّ الكوادر التي دخلت سوق العمل التعليمي وغيره، من خلال المراكز القائمة، يشتمل على منهجِ التَّعليم والتَّربية، ومنهج تأْهيل الطَّاقات التي ستعمل في ذلك المجال، ويشمل توفيرَ الإمكانات المادِّيَّة مع تَحديد خطَّة زمنيَّة لتنفيذ ذلك المنهج، سواء في التعليم العام أم الجامعي أم ما فوق الجامعي، من الموظَّفين وغيرِهم، وكذلك المحاضن التَّربويَّة النِّسائيَّة، والتي لم يَكُنْ لَها ذلك الجهد في المرحلة السَّابقة لأسبابٍ مُختلفة.
كما يحتاج ذلك التَّيَّار لإعادة التَّرابُط بين أفرادِه وخرِّيجيه والمنتسبين له، وقد تشعَّبتْ بِهم الأعمال والوظائف والاهتمامات، وإيجاد ذلك الرَّابط الرُّوحي - إن صحَّت العبارة - للتَّواصُل والتَّرابُط، وإعادة ما تقطَّع من الأواصر، بتحديد اللقاءات الدَّوريَّة الأسبوعيَّة والشهريَّة والسنوية؛ لتجديد العلاقة، وإعادة ترميم ما تهدَّم من المنهج، وتقوية مَنْ ضعُف، وتثبيت مَنْ هو قائم، وتوجيه الطَّاقات للأعمال المؤسَّسية القائمة، والتي تَحتاج - بل تعاني - من قلَّة الكوادر والطَّاقات.
وأخيرًا؛ ما هذا المقال إلا لشَحْذِ الهِمَم وللفت الانتباه، وهي - كما أظنُّ - أمانةٌ في أعناق مَن ساهم في تأسيس وانتِشار هذا التَّيَّار التَّربوي، من طلبة العِلْم والدُّعاة والمربِّين، ليُعيدوا لِهذا التَّيَّار بريقَه، وليستفيدَ الجميع من تجربتِه في مناطق العالم الإسلامي كلِّه، ولكن بشكْلٍ منهجي مدروس مُخطَّط ومكتوب.
وصلى الله على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحْبِه أجمعين.