أحكام التأديب
الشيخ صلاح نجيب الدق
الحمد لله الذي له ملك السموات والأرض، يحيي ويميت، وهو على كل شيءٍ قدير،هو الأول والآخِر، والظاهر والباطن، وهو بكل شيءٍ عليم،والصلاة والسلام على نبينا محمد، الذي أرسله الله هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إليه بإذنه وسراجًا منيرًا، أما بعد:
فإن التَّعزير (التأديب) في الشريعة الإسلامية له أحكام، أحببت أن أذكر بها نفسي وإخواني الكرام.
بسم الله الرحمن الرحيم
تعريف التَّعزير:
التَّعزير في اللغة:
التَّعزير: مشتق من العزر، وهو الرد والمنع والتأديب، يقال: عزرت فلانًا؛ أي: أدَّبْته وفعلت به ما يردعه عن القبيح؛ (لسان العرب لابن منظور جـ 4 صـ 562).
التَّعزير في الشرع:
التَّعزير: عقوبةٌ تأديبية على جنايةٍ أو معصيةٍ لا حد فيها، ولا قِصاص ولا كفارة، أو حدود لها عقوبة مقدرة، حدَّدها الشرع، ولكن لم تتوفر فيها شروط إقامتها على الجاني؛ (المغني لابن قدامة جـ 12 صـ 523).
أنواع المعاصي:
المعاصي ثلاثة أنواعٍ:
الأول: فيه الحد، ولا كفارة فيه؛ كالسرقة، وشُرب الخمر، والزنا، والقذف.
الثاني: فيه الكفارة، ولا حد فيه؛ كجِماع الزوج لزوجته في نهار رمضان، أو في أثناء الإحرام.
الثالث: لا حد فيه ولا كفارة، ولكن فيه التَّعزير؛ (إعلام الموقعين لابن القيم جـ 2 صـ: 76).
أمثلة لِما فيه التَّعزير:
سرقة ما دون النصاب، أو الغصب، أو الاختلاس، أو الجناية على إنسانٍ بما لا يوجب حدًّا ولا قِصاصًا ولا دِيَةً، أو شتم إنسانٍ بما ليس بقذفٍ (أي بالزنا)، مثل: يا كافر، يا فاسق، يا خبيث، يا خائن، يا كلب، يا حمار، يا كذاب، يا فاجر، يا آكلَ الربا، يا شارب الخمر، يا سارق، ونحو ذلك؛ (المغني لابن قدامة جـ 12 صـ 523).
• روى البيهقي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، في الرجل يقول للرجل: يا خبيثُ، يا فاسق، قال: ليس عليه حد معلوم، يعزِّر الوالي بما رأى؛ (إسناده حسن) (إرواء الغليل للألباني حديث: 2393).
ما لا يجوز فيه التَّعزير:
لا يجوز التَّعزير بحلق اللحية، ولا بتخريب المساكن، وقلع البساتين، والزروع، والثمار والشجر، كما لا يجوز التَّعزير بقطع الأنف، ولا بقطع الأذن، أو الشَّفَة، أو الأصابع؛ لأن ذلك لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحدٍ من الصحابة رضي الله عنهم؛ (فقه السنة ـ للسيد سابق جـ 2 صـ 591).
حكمة مشروعية التَّعزير:
شرع الله تعالى عقوبات مقدرة لا يزاد عليها ولا ينقص منها، على جميع الجرائم المخلة بمقومات الأمة؛ مِن حفظ الدِّين، والنفس، والعِرض، والعقل، والمال،وشرَع من أجل حفظِ ذلك عقوباتٍ وحدودًا زاجرة؛ لتنعَم الأمَّة بالأمن والطمأنينة،ولهذه الحدود شروط وضوابط قد لا يثبت بعضها، فتتحول العقوبة من عقوبة محددة إلى عقوبة غير محددة يراها الإمام، تحقق المصلحة، وتدرأ المفسدة، وهي التَّعزير؛ (موسوعة الفقه الإسلامي ـ لمحمد التويجري جـ 5 صـ 195).
الفرق بين الحد والتَّعزير:
(1) الحدود يتساوى في إقامتها الناس جميعًا، بينما التَّعزير يختلف باختلاف أحوال الناس.
فإذا حدثَتْ زلَّةٌ من رجل شريف في قومه، غير معروف بالفساد، فإنه يجوز العفو عن زلته.
• قال الإمام الماوردي (رحمه الله): تأديب ذي الهيبة من أهل الصيانة يكون أخفَّ مِن تأديب أهل البذاءة والسفاهة.
• روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقيلوا ذوي الهيئات عَثَراتهم، إلا الحدودَ))؛ (حديث صحيح) (صحيح أبي داود للألباني حديث: 3679).
• قال شمس الحق العظيم آبادي (رحمه الله): اعفُوا عن أصحاب المروءات والخصال الحميدة، وذوي الوجوه من الناس، الذين لا يجاهرون بالمعاصي، ولكن تقع منهم بعضُ الزلات؛ (عون المعبود جـ 12 صـ 26: 25).
(2) الحدود لا تجوز فيها الشفاعة بعد أن تُرفَع إلى الحاكم، بينما التَّعزير يجوز فيه الشفاعة؛ (الأحكام السلطانية ـ للماوردي صـ: 347: 346).
• روى أبو داود عن عبدالله بن عمرو بن العاص: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تعافَوُا الحدودَ فيما بينكم؛ فما بلغني مِن حدٍّ فقد وجَب))؛ (حديث صحيح) (صحيح أبي داود للألباني حديث 3680).
• روى أبو داود عن صفوان بن أمية قال: كنت نائمًا في المسجد عليَّ خميصة (نوع من القماش) لي، ثمن ثلاثين درهمًا، فجاء رجل فاختلسها مني، فأخذ الرجل، فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر به ليقطع،قال: فأتيته فقلت: أتقطعه من أجل ثلاثين درهمًا؟ أنا أبيعه وأُنسِئُه (أي أؤجِّله) ثمنها،قال: ((فهلَّا كان هذا قبل أن تأتيني به))؛ (حديث صحيح) (صحيح أبي داود للألباني حديث 3693).
(3) إقامة الحدود مسؤولية الحاكم أو نائبه فقط، بينما يقوم بالتَّعزير الحاكم وغيره.
(4) لا تقام الحدود على الصغير، ولكنه يعزر تأديبًا.
(5) في الحدود يحبس المشهود عليه حتى يسأل عن الشهود، وأما في التَّعزير فلا يُحبَس المشهود عليه.
(6) الحدود تُدرَأ بالشبهات، والتَّعزير يقام مع وجود الشبهات؛ (حاشية ابن عابدين على الدر المختار جـ 4 صـ 60).
(7) الحدود لا تسقط بحالٍ، بخلاف التَّعزير فإنه قد يسقط.
(8) الحدود لم توجَد في الشرع إلا في معصيةٍ، بخلاف التَّعزير؛ فإنه تأديب يتبع المفاسد، وقد لا يصحَبُها العصيان في الحالات؛ كتأديب الصبيان والمجانين استصلاحًا لهم مع عدم المعصية.
(9) الحدود لا تسقط بالتوبة، إلا الحرابة والكفر؛ فإنهما يسقط حدهما بالتوبة إجماعًا؛ لقوله تعالى: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ﴾ [المائدة: 34]، ولقوله تعالى: ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ ﴾ [الأنفال: 38].
وأما التَّعزير فيسقُطُ بالتوبة.
(10) الحدود لا يدخُلُ فيها التخيير، إلا في الحرابة،وأما التَّعزير فيدخل فيه التخيير.
(11) الحدود معلومة وثابتة، لا تختلف باختلاف الزمان والمكان، وأما التَّعزير فيختلف باختلاف الزمان والمكان؛ (الفروق للقَرافي جـ 4 صـ: 209: 208).
(12) الحدود لا تجوز فيها الكفالة، وأما التَّعزير فيجوز فيه الكفالة، إن كان لحق العباد؛ (فتح القدير لابن الهمام جـ 7 صـ 165).
حكم التَّعزير:
التَّعزير مشروع بالقرآن والسنَّة والإجماع.
أولًا: القرآن:
يقول الله تعالى: ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ﴾ [النساء: 34].
من المعلوم أن هذه العقوبات المذكورة في هذه الآية الكريمة ليست حدًّا؛ لأنها موكلة إلى الزوج، وهو لا يملِك إقامة الحدود، فتكون تعزيرًا؛ لأن هذا حق الزوج؛فالآية الكريمة أمرت الزوج باتباع سبيل هَجْرِ زوجته في الفراش، باعتباره وسيلة من وسائل علاج النشوز، والهجر نوع من أنواع التَّعزير، فإن لم ينفع الهجر، فقد أمره القرآن باتباع سبيل آخر، وهو ضرب الزوجة ضربًا غيرَ شديد، والضرب من أنواع التَّعزير.
ثانيًا: السنَّة:
(1) روى الشيخان عن أبي بردة الأنصاري، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: ((لا تجلدوا فوق عشَرة أسواطٍ إلا في حد من حدود الله))؛ (البخاري حديث 6850/ مسلم حديث 1708).
(2) روى أبو داود عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مُرُوا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضرِبوهم عليها وهم أبناء عَشْرٍ، وفرِّقوا بينهم في المضاجع)) (أي في مكان النوم)؛ (حسن صحيح) (صحيح أبي داود للألباني حديث 466).
في هذا الحديث الشريف بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم مشروعية تعزير الأبناء بالضرب لتأديبهم وتعليمهم أمور دينهم.
(3) روى الترمذي عن معاوية بن حيدة: أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلًا في تهمةٍ، ثم خلَّى عنه؛ (حديث حسن) (صحيح الترمذي للألباني حديث 1145).
(4) روى أبو داود عن عبدالله بن عمرو بن العاص، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه سئل عن الثمر المعلق؟ فقال: ((من أصاب بفيه من ذي حاجةٍ غير متخِذٍ خُبْنةً (لا يحمل منه معه)، فلا شيء عليه، ومن خرج بشيءٍ منه، فعليه غرامة مثليه، والعقوبة))؛ (حديث حسن) (صحيح أبي داود للألباني حديث 1504).
ثالثًا الإجماع:
أجمع العلماء على مشروعية التَّعزير.
يقول الإمام ابن القيم (رحمه الله): اتفق العلماء على أن التَّعزير مشروع في كل معصيةٍ، ليس فيها حد، وهي نوعان: ترك واجبٍ، أو فعل محرمٍ؛ (الطرق الحكمية لابن القيم صـ: 93).
شروط التَّعزير:
يشترط في الشخص الذي تطبق عليه عقوبة التَّعزير أن يكون عاقلًا فقط، فيعزر كل إنسان عاقل، ذكرًا كان أو أنثى، بالغًا أو صبيًّا عاقلًا؛ لأن هؤلاء، غيرَ الصبي، من أهل العقوبة، أما الصبي فيعزر تأديبًا، لا عقوبة، بما يُصلِحه.
فكل من ارتكب منكرًا أو آذى غيره بغير حقٍ، بقولٍ أو فعلٍ أو إشارةٍ - فللإمام تعزيره بما يُصلِحه ويردَع غيره؛ (موسوعة الفقه الإسلامي - لمحمد التويجري جـ 5 صـ 196).
التَّعزير بين الوالد وأبنائه:
لا تعزير على الوالد إذا شتم ولده، كما لا يُقتَل الوالد بولده.
• روى ابن ماجه عن عمرَ بن الخطاب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يقتل الوالدُ بالولد))؛ (حديث صحيح) (صحيح ابن ماجه للألباني حديث 2157).
• روى ابن ماجه عن جابر بن عبدالله: أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن لي مالًا وولدًا، وإن أبي يريد أن يجتاح (أي يأخذ) مالي! فقال: ((أنت ومالكَ لأبيك))؛ (حديث صحيح) (صحيح ابن ماجه للألباني حديث : 1855).
ويعزَّر الولد إذا شتَم أباه، وذلك عند مطالبة الوالد بذلك؛ (الأحكام السلطانية - للماوردي صـ: 346).
إثبات جريمة التَّعزير:
تثبُتُ جريمة التَّعزير بالاعتراف والبينة الواضحة؛ (الفقه الإسلامي - لوهبة الزحيلي جـ 7 صـ 5604).
مقدار عقوبة التَّعزير:
عقوبة التَّعزير ليس لها مقدار محدد، وإنما يرجع ذلك إلى اجتهاد الحاكم وتقديره، وللحاكم أن يختار العقوبة التي تناسب الجاني وحجم الجناية، بشرط ألا تخرج عما أمر الله تعالى به، أو نهى عنه، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص والجرائم، والأماكن والأزمان،ولا حد لأقل التَّعزير، ولا لأكثره، بل يرجع إلى اجتهاد الحاكم، حسَب المصلحة، وحسَب حجم الجريمة؛ (موسوعة الفقه الإسلامي - لمحمد التويجري جـ 5 صـ 199).
• قال الإمام النووي (رحمه الله): ذهب الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى جواز الزيادة على عشَرة أسواطٍ؛ (مسلم بشرح النووي جـ 6 صـ 238: 237).
• روى ابن أبي شيبة عن سعيد بن المسيب، في جاريةٍ كانت بين رجُلين (أي شركة بينهما)، فوقَع عليها (أي جامَعها) أحدهما، قال: (يُضرَب تسعةً وتسعين سوطًا)؛ (إسناده صحيح) (إرواء الغليل للألباني حديث : 2398).
• قال الإمام مالك بن أنس (رحمه الله): لا حد لأكثر التَّعزير، فيجوز للإمام أن يزيد في التَّعزير على الحد إذا رأى المصلحة في ذلك، مجانبًا لهوى النفس؛ (فتح القدير لابن الهمام جـ 5 صـ: 349).
التَّعزير بالقتل:
ذهب بعض الفقهاء إلى جواز القتل تعزيرًا في جرائمَ معيَّنةٍ، وبشروطٍ مخصوصةٍ، إذا اجتهد ولي أمر المسلمين (الحاكم) ورأى المصلحة في ذلك،مثل: قتل الجاسوس المسلم إذا تجسَّس على المسلمين، والشخص الذي يفرِّق بين جماعة المسلمين، وغيرهما ممن لا يندفع شرهم إلا بالقتل؛ (الموسوعة الفقهية الكويتية جـ 12 صـ 263)، (الفقه الميسر صـ 380).
• قال الإمام مالك وابن القاسم وسحنون، وابن عقيلٍ من الحنابلة (رحمهم الله): للحاكم قتل الجاسوس المسلم إن رأى في ذلك المصلحةَ؛ (الموسوعة الفقهية الكويتية جـ 16 صـ 314).
• قال الإمام ابن تيمية (رحمه الله): المفسِد إذا لم ينقطع شرُّه إلا بقتله، فإنه يقتل؛ (السياسة الشرعية لابن تيمية صـ 99).
• روى مسلم عن أبي سعيدٍ الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا بُويِعَ لخليفتين، فاقتلوا الآخِرَ منهما))؛ (مسلم حديث : 1853).
• روى مسلم عن عرفجة الأشجعي رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَن أتاكم وأمرُكم جميعٌ (أي مجتمع) على رجلٍ واحدٍ، يريد أن يشُقَّ عصاكم، أو يفرِّقَ جماعتَكم، فاقتلوه))؛ (مسلم حديث : 1852).
• روى الشيخانِ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه (في حادثة حاطب بن أبي بلتعة قُبَيل فتح مكة)، قال: فقال عمر: يا رسول الله، دَعْني أضرِبْ عنق هذا المنافق، فقال: ((إنه قد شهِد بدرًا، وما يدريك لعل الله اطلع على مَن شهد بدرًا فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم))؛ (البخاري حديث: 4274/ مسلم حديث: 2494).
• قال الإمام ابن القيم (رحمه الله): في هذا الحديث جواز قتل الجاسوس، وإن كان مسلمًا؛ لأن عمر - رضي الله عنه - سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قَتْلَ حاطب بن أبي بلتعة لما بعث يخبر أهل مكة بالخبر، ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يحِلُّ قتله إنه مسلم، بل قال: ((وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدرٍ، فقال: اعملوا ما شئتم))، فأجاب بأن فيه مانعًا مِن قتله، وهو شهودُه بدرًا، وفي الجواب بهذا كالتنبيه على جواز قتل جاسوسٍ ليس له مثل هذا المانع، وهذا مذهب مالك، وأحد الوجهين في مذهب أحمد، وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يقتل، وهو ظاهر مذهب أحمد، والفريقان يحتجون بقصة حاطب،والصحيح: أن قتله راجع إلى رأي الإمام، فإنْ رأى في قتله مصلحةً للمسلمين، قتله، وإن كان استبقاؤه أصلحَ استبقاه؛ (زاد المعاد لابن القيم جـ 2 صـ 372: 371).
• روى الشيخانِ عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، قال: أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم عينٌ (أي جاسوس) من المشركين وهو في سفرٍ، فجلس عند أصحابه يتحدث، ثم انفتل (أي انصرف)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اطلبوه واقتلوه))،فقتله (سلَمةُ)، فنفَّله (أي أعطاه) سَلَبَه؛ (البخاري حديث (3051/ مسلم حديث 1754).
من يقوم بالتَّعزير؟
التَّعزير، كالحدود والقِصاص، خاص بولي الأمر (الحاكم) أو نائبه، وليس لأحدٍ حق التَّعزير، إلا لمن له ولاية التأديب مطلقًا؛ كالأب والزوج والسيد والمعلم؛فالأب له تأديب ولده الصغير، وتعزيره للتعلم والتخلق بأحسن الأخلاق، وزجره عن سيئها، وأمره بالصلاة، وضربه عند الحاجة، والأم كالأب في أثناء الحضانة،وللزوج تأديب زوجته وتعزيرها في أمر النشوز وأداء حق الله تعالى؛ كإقامة الصلاة، وأداء الصيام، والبُعد عن المحرَّمات، أداءً لواجب القوامة عليها، ونصحًا لها.
والسيد يعزِّر عبيده في حق نفسه، وفي حق الله تعالى؛ من ترك واجب، أو فِعل محرَّم،والمعلم يؤدب تلاميذه بما يُصلِح أحوالهم، ويحسِّن أخلاقهم؛ (موسوعة الفقه الإسلامي - لمحمد التويجري جـ 5 صـ 199).
• قال الله تعالى: ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ﴾ [النساء: 34].
• روى الشيخان عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيَّتِه، الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيَّته، والرجل راعٍ في أهله، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده، ومسؤول عن رعيته))؛ (البخاري حديث 893/ مسلم حديث 1829).
• روى أبو داود عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مُرُوا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضرِبوهم عليها وهم أبناء عَشْرٍ، وفرِّقوا بينهم في المضاجع)) (أي في مكان النوم)؛ (حسن صحيح) (صحيح أبي داود للألباني حديث 466).
أنواع العقوبات التَّعزيرية:
التَّعزير عقوبة تختلف باختلاف الناس، واختلاف المعصية، واختلاف الزمان، واختلاف المكان،والعقوبات التَّعزيرية أنواع، منها:
(1) تعزير يتعلق بمنزلة الشخص في المجتمع؛ كالتوبيخ، والتشهير، والعزل عن المنصب.
(2) تعزير يتعلق بتقييد الإرادة؛ كالحبس والنفي.
(3) تعزير يتعل ق بالأموال؛ كالغرامة ومَنْع التصرُّفِ في المال.
(4) تعزير يتعلق بالأبدان؛ كالقيد والجَلْد والقتل.
(5) تعزير يتعلق بالأبدان والأموال؛ كجلد السارق من غير حِرز، مع إضعاف الغُرْم عليه؛ (موسوعة الفقه الإسلامي ـ لمحمد التويجري جـ 5 صـ 197).
الجمع بين أنواع التَّعزير:
يجوز الجمع بين عدة أنواع من التَّعزير.
• روى الطحاويُّ عن عطاء بن أبي مروان، عن أبيه قال: أُتِيَ علي بن أبي طالب بالنجاشي الحارثي (الشاعر) قد شرب الخمر في رمضان، فضربه ثمانين، ثم أمر به إلى السجن، ثم أخرجه من الغد فضربه عشرين، ثم قال: إنما جلدتك هذه العشرين لإفطارك في رمضان، وجُرأتِك على الله عز وجل؛ (إسناده حسن) (إرواء الغليل للألباني حديث : 2399).
• روى ابن أبي شيبة عن عمير بن نميرٍ، قال: سُئِل ابن عمر عن جاريةٍ كانت بين رجلين (أي: شركة بينهما)، فوقع عليها (أي جامَعها) أحدهما، قال: (ليس عليها حدٌّ، هو خائنٌ، يقوَّم عليه قيمتها، ويأخذها)؛ (رجال إسناده ثقات) (إرواء الغليل للألباني جـ 8 صـ 157).
الموت من التأديب المعتاد:
اتفق الأئمةُ الثلاثة: أبو حنيفة، ومالك، وأحمد (رحمهم الله) على أن الإمام لا يضمن الموت من التأديب المعتاد؛ لأن الإمام مأمور بالحد والتَّعزير، وفعل المأمور لا يتقيَّدُ بسلامة العاقبة.
(المغني لابن قدامة جـ 12 صـ 527) (الموسوعة الفقهية الكويتية جـ 10 صـ 25).
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله رب العالمين.
وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين