ما أقبحه من مخلوق وضيع، كم تألّـه وتعبّد وسبّح ومجّـد، قضى زمنًا طويلًا وهو على هذه الحال، وفي لحظة سريعة حلّت عليه لعنةُ الله وغضبُه فأصبح من الخاسرين، وأول المنتكسين = إنه إبليس الطريد، -لا إله إلا الله- لا تسل: كيف زاغ رشدُه، واستكبر وأبى السجود = وهو يعلم عظمة الله وأليم عقابه = لا تسل كيف انتكس وابتلس، فإنه لا يأمن من مكر الله إلا القوم الخاسرون.
عالم آتاه الله العلم وميزَه به وآتاه الآيات البينات وفضله على كثير = لكنه أخلد إلى الدنيا وباع دينه بعرَض قليل ، ولا تقل كيف انتكس ؟ تدبر كلام ربنا في وصف حاله فيا حسرة على العباد " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون " هذان المثلان وغيرهما إنما أخبرنا الله بهما لنكون على حذر ووجل من أن تزيغ القلوب وتضل الأفئدة، أوليس رسولنا صلى الله عليه وسلم هو من خاف على نفسه وهو أمينه على وحيه ! ، وخافه على أمته ، يكاد قلبي يتقطع وأنا أقرأ ما رواه الإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح من حديث أنس قال كان النبي يكثر أن يقول يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك قال فقلنا يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا قال فقال نعم إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله عز وجل يقلبها ، وقد كان أكثر قسمه صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري " لا ومقلب القلوب " من أجل أن يذكر نفسه وغيره بفقره وحاجته إلى مولاه وأنه مهما بلغ العبد فإنه معرَّض للبلاء والفتنة مهما بلغ علمه ، وارتفعت مكانته : مالذي جعل بعض من صحب النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أسلم وبلغ رتبة الصحبة أن يرتد على عقبيه ولا حول ولاقوة إلا بالله وفيهم نزلت هذه الآية : كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم
إن أعظم سبب لحصول الانتكاسةوغلبة الشهوة هو التهاون بحدود الله، واقتراف الذنوب دونما خوف أو وجل أو تأنيب ضمير، تقرأ النفوس هذا التهديد ولكن ..!! " يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون " فمن لم يستجب لأوامر الله بقلبه وجوارحه فهو معرّض بأن يحول الله جل وعلا بينه وبين الإيمان ، فهو مقلب القلوب يقلبها حيث شاء ويصرفها حيث شاء ، فالعبد بين الرغبة والرهبة والرجاء والخوف لا يأمن فتنة ، ولا يعلم خاتمة وعاقبة ، وأنّى له ورسولنا صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيحين في حديث بداية خلق الإنسان ونهايته في حديث ابن مسعود رضي الله عنه وفيه (وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار) وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال (إن الرجل ليعمل الزمن الطــويل بعمل أهل الجنة ثم يختم له عمله بعمل أهل النار) ولما كان هذا الأمر في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بهذه المكانة أصبح يستشعره في كل وقت ، تذكرتُ حاله لما مر صلى الله عليه وسلم بديار ثمود وقوم صالح = تذكّر أليم بطشه وشدةَ مكره ، وهاله وأفزعه ، وخاف على نفسه ، أتراه نسي أنه رسول الله ؟! أتراه ما عرف رحمة الله ؟! يا ويح نفوس ٍ ما فزعت ولا خافت ، ماذا فعل [ رسول الله ] روى الشيخان من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال لما مر النبي بالحجر قال لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي
ووجه هذه الخشية أن البكاء يبعثه على التفكر والاعتبار فكأنه أمرهم بالتفكر في أحوال توجب البكاء من تقدير الله تعالى على أولئك بالكفر مع تمكينه لهم في الأرض وإمهالهم مدة طويلة ثم إيقاع نقمته بهم وشدة عذابه وهو سبحانه مقلب القلوب فلا يأمن المؤمن أن تكون عاقبته إلى مثل ذلك فمن مر عليهم ولم يتفكر فيما يوجب البكاء اعتبارا بأحوالهم فقد شابههم في الإهمال ودل على قساوة قلبه ، وغفلته ، وعدم خشوعه ، فلا يأمن أن يجره ذلك إلى العمل بمثل أعمالهم فيصيبه ما أصابهم وهذا من شدة خوفه صلى الله عليه وسلم وتوقيره لربه
ألسنا من يعمل المعصية وننسى أننا اقترفنا ذنوبًا، ونخرج إلى الناس ننتظر المديح والثناء والإطراء ،هاهم رسل الله يخافون الانتكاس ولا يأمنون من مكر الله ، هاهم يخافون عقوبة الذنب ولا أدل من قول نبي الله صالح عليه الصلاة والسلام وهو يقول لقومه [ ياقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وءاتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير "
عجبت أشد العجب عندما ذكرت هدي النبي صلى الله عليه وسلم في سفره = واستشعاره لهذه القضية، فلما كان السفر وتغير المكان عاملًا قويًا للتحول والتغير والانتكاس كما هو ظاهر في واقع بعض الناس اليوم عند سفرهم إلى بلاد الكفار ونحوهم ، فعهدك بالرجل مواظبا على الصلاة لا يجالس إلا الأخيار جادا في حياته ، بعيدا عن الإسفاف والجهل إذا به بعد الإجازة والسفر قد تغير حاله ، وفسد خلقه ومزاجه ، فكان رسولنا صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن سرجس - إذا أراد السفر يستعيذ من الحور بعد الكون أو الكور وهو الرجوع من الإيمان إلى الكفر أو من الطاعة إلى المعصية وأعم من ذلك الرجوع من شيء إلى شيء من الشر والعياذ بالله وكلنا يعلم أسفار النبي صلى الله عليه وسلم لأجل ماذا فهو إما في هجرة أو غزو أو حج وعمرة ودعوة ومع هذا يردد هذا الدعاء العظيم عند سفره وهذا غاية في الخوف والحذر فقل لي بربك كيف تفسر عدم المبالاة عند بعض الناس عندما يقارف المعاصي والذنوب إما بترك واجب أو فعل معصية فلا يستشعر خطر هذا الأمر ونهايته،! بل يريك من التكبر والأنفة ما يجعلك تأسف له وتحزن عليه وأنت تراه في خطر عظيم ، فما أشد خطر الكبر بمقارفة المعصية وما قصة ذاك الرجل ببعيد عنا وقد كان يجر إزاره من الخيلاء ، تعجبه نفسه وهو مرجل جمته إذ خسف الله به في الأرض فهو يتجلجل إلى يوم القيامة كما في الصحيحين وأما أهل الإيمان فإنهم إذا فعلوا معصية أو إثما أو فاحشة ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله " وإذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون " وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه كما في صحيح البخاري إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال بيده وأشار فوق أنفه
فما أهون العباد على الله إذا هم عصوه، ونسوه،
فما حيلتي وحيلة العصاة أمثالي، قد مللنا من أنفسنا وتفريطنا، الأمر جلل وخطير، والحادي والسائق قريب ولا زالت نفوسنا منشغلة بما يضرها ولا ينفعها، لازالت سياط التأنيب رطبة غضة طرية على مسامعنا فما بالها ؟ ما بالها ؟ أتراها مستدرجة من حيث لا تعلم ؟ فناشدتك الله يا نفس أفيقي !!
منقول