من وجوه الاستعاذة بالله من الشيطان عند قراءة القرآن
بكر البعداني
قال ابن القيم في إغاثة اللهفان (ص 92 - 94): "فأمر سبحانه بالاستعاذة به من الشيطان عند قراءة القرآن، وفي ذلك وجوه:
منها: أن القرآن شفاءٌ لما في الصدور؛ يذهب لما يلقيه الشيطان فيها من الوساوس والشهوات والإرادات الفاسدة؛ فهو دواء لما أمره فيها الشيطان، فأمر أن يطرد مادة الداء ويخلى منه القلب؛ ليصادف الدواء محلًّا خاليًا، فيتمكن منه ويؤثر فيه؛ كما قيل:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ♦♦♦ فصادَف قلبًا خاليًا فتمكَّنا
فيَجيء هذا الدواء الشافي إلى القلب قد خلا من مُزاحم ومضادٍّ له، فينجع فيه.
ومنها: أن القرآن مادة الهدى والعلم والخير في القلب؛ كما أن الماء مادة النبات، والشيطان نار يحرق النبات أولًا فأولًا، فكلما أحسَّ بنبات الخير من القلب سعى في إفساده وإحراقه، فأمر أن يستعيذ بالله عز وجل منه؛ لئلَّا يُفسد عليه ما يحصل له بالقرآن.
والفرق بين هذا الوجه والوجه الذي قبله: أن الاستعاذة في الوجه الأول لأجلِ حصول فائدة القرآن، وفي الوجه الثاني لأجل بَقائها وحفظها وثباتها.
وكأن من قال: إن الاستعاذة بعد القراءة لاحظَ هذا المعنى، وهو لعَمر الله مَلحظ جيد، إلا أن السنة وآثار الصحابة إنما جاءت بالاستعاذة قبل الشُّروع في القراءة، وهو قول جمهور الأمة من السلف والخلف، وهو محصِّل للأمرين.
ومنها: أن الملائكة تدنو من قارئ القرآن، وتستمع لقراءته، كما في حديث أُسيد بن حُضير: لما كان يَقرأ ورأى مِثلَ الظُّلة فيها مثلُ المصابيح، فقال عليه الصلاة والسلام: ((تلك الملائكة)).
والشيطان ضد الملك وعدوُّه، فأمَر القارئ أن يطلب من الله تعالى مُباعدة عدوِّه عنه؛ حتى يحضره خاصُّ ملائكته، فهذه منزلة لا يجتمع فيها الملائكة والشياطين.
ومنها: أن الشيطان يجلب على القارئ بخيله ورَجِله؛ حتى يشغله عن المقصود بالقرآن، وهو تدبره وتفهمه، ومعرفة ما أراد به المتكلم به سبحانه، فيحرص بجهده على أن يَحول بين قلبه وبين مقصود القرآن، فلا يكمل انتفاع القارئ به، فأمر عند الشروع أن يَستعيذ بالله عز وجل منه.
ومنها: أن القارئ يناجي الله تعالى بكلامه، والله تعالى أشدُّ أذَنًا[1]للقارئ الحسن الصوت بالقرآن، من صاحب القينة إلى قينتِه[2]، والشيطان إنما قراءته الشعر والغناء، فأمر القارئ أن يطرده بالاستعاذة عند مناجاة الله تعالى، واستماع الربِّ قراءته.
ومنها: أن الله سبحانه أخبر أنه ما أرسل من رسول ولا نبي ﴿ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ﴾ [الحج: 52]، والسلف كلهم على أن المعنى[3]: إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته.
قال الشاعر[4] في عثمان:
تمنَّى كتابَ الله أولَ ليلِه ♦♦♦ وآخِرَه لاقى حِمامَ المقادرِ
فإذا كان هذا فعله مع الرسل عليهم السلام، فكيف بغيرهم؟! ولهذا يغلط القارئ تارة ويخلط عليه القراءة ويشوشها عليه، فيخبط عليه لسانه، أو يشوش عليه ذهنه وقلبه، فإذا حضر عند القراءة لم يعدم منه القارئ هذا أو هذا، وربما جمعَهما له، فكان من أهم الأمور: الاستعاذة بالله تعالى منه.
ومنها: أن الشيطان أحرصُ ما يكون على الإنسان عندما يهمُّ بالخير أو يدخل فيه، فهو يشتد عليه حينئذ ليقطعه عنه، وفي الصحيح[5] عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن شيطانًا تفلَّت عليَّ البارحة، فأراد أن يقطع عليَّ صلاتي...))؛ الحديث.
وكلما كان الفعل أنفعَ للعبد وأحبَّ إلى الله تعالى، كان اعتراضُ الشيطان له أكثر.
وفي مسند الإمام أحمد[6] من حديث سَبرة بن أبي الفاكهِ أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((إن الشيطان قعَد لابن آدم بأطراقه، فقعد له بطريق الإسلام، فقال: أتُسلم وتذَر دينك ودين آبائك وآباء آبائك؟ فعصاه، فأسلم. ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال: أتهاجر وتذر أرضك وسماءك، وإنما مثَل المهاجر كالفرس في الطول؟ فعصاه وهاجر. ثم قعد له بطريق الجهاد - وهو جهاد النفس والمال - فقال: تُقاتِل فتُقتَل فتُنكَح المرأة ويقسَم المال؟ قال: فعصاه فجاهد))! فالشيطان بالرَّصَد للإنسان على طريق كل خير.
وقال منصور عن مجاهد رحمه الله: "ما من رُفْقة تخرج إلى مكة إلا جهَّز معهم إبليسُ مثلَ عدتهم"؛ رواه ابن أبي حاتم في تفسيره[7].
فهو بالرصَد ولا سيما عند قراءة القرآن؛ فأمر سبحانه العبد أن يحارب عدوه الذي يقطع عليه الطريق، ويستعيذ بالله تعالى منه أولًا، ثم يأخذ في السير، كما أن المسافر إذا عرَض له قاطعُ طريق اشتغل بدفعه، ثم اندفع في سيره.
ومنها: أن الاستعاذة قبل القراءة عنوانٌ وإعلام بأن المأتيَّ به بعدها القرآن، ولهذا لم تُشرع الاستعاذة بين يدَي كلام غيره، بل الاستعاذة مقدِّمةٌ وتنبيهٌ للسامع أن الذي يأتي بعدها هو التلاوة؛ فإذا سمع السامعُ الاستعاذةَ استعد لاستماع كلام الله تعالى، ثم شُرع ذلك للقارئ وإن كان وحدَه؛ لِما ذكَرنا من الحِكم وغيرها. فهذه بعض فوائد الاستعاذة".
[1] قال ابن القيم في روضة المحبين ونزهة المشتاقين (ص 268): "والأذَن بفتح الهمزة والذال مصدر أَذِن يَأذَن إذا استمع؛ قال الشاعر:
أيها القلب تعلل بدَدَن ♦♦♦ إن قلبي في سماعٍ وأذَن"
[2] روي هذا في حديث ضعيف أخرجه ابن ماجه برقم: (1340)، وابن حبان برقم: (659)، والحاكم (1/571)، وأحمد (6/ 19 - 20) وغيرهم - من حديث فَضالة بن عُبيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لَلهُ أشدُّ أذَنًا إلى الرجل الحسَنِ الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته))، وانظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة رقم: (2951).
[3] انظر: تفسير القرطبي (2/ 6)، والشوكاني (2/ 6)، وفيها وجهان؛ انظر: أضواء البيان (5/ 284).
[4] قيل: هو لكعب بن مالك، وقيل: لحسان بن ثابت، وهو يتكلم عن عثمان أنه كان يَقرأ القرآن من أول النهار، ومات آخر النهار وهو يقرأ القرآن، فجعل (تمنى) هنا بمعنى: قرأ وتلا، فهذا شاهدٌ من كلام العرب.
[5] هو في البخاري رقم: (449)، ومسلم رقم: (541)، عن أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[6] أخرجه أحمد (3/ 483)، والنسائي (2/ 58) وغيرهما بنحوِ ما ذكَره، وهو حديث صحيح، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم: (2979).
[7] انظر الدر المنثور (3/ 426) للسيوطي.