حرب الهوية.. الحرب على الإسلام
أ. د. فؤاد محمد موسى
إن كلَّ عاقل له بصيرة يرى أن معظم الحروب في الكرة الأرضية من أفغانستان وكشمير وكاراباخ وفلسطين واليمن وسوريا وليبيا والصومال وغيرها الكثير - هي حرب واحدة، هدفها واحد.
ففي حقيقة الأمر، إن أعداء الأمة لم ولن يتركوها على هُويتها الإسلامية وثقافتها الإيمانية، بل يكيدون لها الليل والنهار، على مر العصور ليزحزحونا عنها، ويطمسوها عنا، بتذويب الهوية الإسلامية والقضاء على مقومات كيانها، وعلامات القوة فيها، واحتوائها بأخلاق الضعف والانحلال والإباحية.
قال تعالى: ﴿ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ﴾ [البقرة: 217]، ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾ [البقرة: 120]، ﴿ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ﴾ [النساء: 89]، ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ﴾ [البقرة: 109].
وإن كان استمرارُ الصراع الفكري وبقاءه محتدمًا هو قضاء الله تعالى، فإن دفع الناس بعضهم ببعض، وضرب الباطل بالحق أيضًا سنة ثابتة من سنن الله تعالى؛ ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ﴾ [البقرة: 251]، والذي ينبغي أن ينتبه له أهل الإسلام أن الآخرين يحرصون على هوياتهم مع اجتهادهم في تذويب هوية المسلمين، وطمس معالمها، والنَّأْي بهم بعيدًا عن دينهم؛ حتى لا يعود الإسلام إلى الساحة مرة أخرى.
لقد بدأ أعداءُ الإسلام منذ اللحظة الأولى لنزول الوحى في معاداته ومحاولة طمس هويته، ووصفه بأنه أساطير، أو سحر، أو ما إلى ذلك.
ومرَّت العصور وازدهر الإسلام، وأصبح له دولة تمتد شرقًا وغربًا، تحمل راية الإسلام هوية ربانية، حتى تكالبت عليها الأمم في عصر الخلافة العثمانية، ورغم هذا لم يستطيعوا طمس هذه الهوية من الخارج حتى جاء مصطفى كمال أتاتورك الذي أسس مقوِّمات جدية للهوية التركية، فاصلًا الرابط الديني عن الرابط القومي، فتمَّ إلغاء استخدام اللغة العربية في الدولة، واستبدال الحروف العربية بحروف أخرى في اللغة التركية، ومنع الآذان في المساجد، وأعلنت الهوية التركية كتحرُّر وطني من الإسلام... وهكذا ضربت الهوية الإسلامية من داخلها بتغيير الثقافة والتعليم على يد أبناء الأمة، والتي لم يقدر عليها الأعداء من الخارج.
لقد توالت عملية طمس الهوية الإسلامية بعد ذلك بالغَزْو المركب، تولَّاه نابليون بمدفعه ومطبعته، والحملة التي نجح فيها القس دانلوب بقلبه ميزان التعليم الإسلامي، وإقامته على أساس الفصل بين الدين والحياة، لتتخرَّج أجيال متغربة من المثقفين بينها وبين هويتها حواجزُ نفسية.
ومنذ غزو نابليون بونابرت لمصر عام 1798، مرورًا بغزو فرنسا للجزائر، واحتلال مصر من قبل القوات البريطانية في أواسط القرن التاسع عشر، ثم احتلال فلسطين في 1918 على يد القوات الإنجليزية أيضًا ولبنان وسوريا على يد القوات الفرنسيَّة، ثم العراق على يد قوات إنجليزية أخرى في الفترة نفسها، ثم إنشاء دولة إسرائيل عام 1948، ثم الهجوم الثلاثي على مصر عام 1956 (إسرائيل، فرنسا، إنجلترا)، ثم الجسر الجوي الأمريكي لمساندة القوات الإسرائيلية عام 1973.
لقد توالت عمليات طمس الهوية الإسلامية بكل السُّبل، ونحن ننظر إلى الغرب مشدوهين ومترددين وبالكثير من انفصام الشخصية، وبالريبة والحيرة في كثير من الأحيان، وبالإعجاب بالقوة والمنجزات العلمية والمادية والحيوية الظاهرة في كل الميادين؛ من الأفلام، والحلقات التلفزيونية، والأغاني، والصحف والمجلات، والمدارس والجامعات الغربية المنتشرة في بلاد الإسلام، وتخرج الآلاف من أبناء الأمة بالفكر الغربي، الذين يحملون راية التغريب، ويعتبرون أن التمسك بالهوية الإسلامية تخلُّف ورجعية إلى العصور الوسطى.
كما أن الهوية الإسلامية اليوم تُواجه بعدَّة أطروحات مضادَّة، وفكر متناقض، وتبدأ المواجهة بهويات عَلمانيَّة شرقية وغربية، منها ما يسمى: الفكر اليساري، والفكر اليميني؛ كالماركسية والليبرالية، أو الاشتراكية، أو الرأس مالية...، وعند طرح الهوية الإسلامية كهوية للأمة الإسلامية يقال: إن هذا نوع من الأنانية والرجعية على حدٍّ سواء.
كما تعاني الهوية العربية الإسلامية من هجمة غربيَّة وأمريكية تحت اسم العَوْلمة في كل مجالات الحياة، وهي في حقيقتها تذويبٌ للهوية الإسلامية في هوية العولمة الغربية؛ لقمعها والقضاء عليها باسم الإرهاب والتخلُّف، وعدم مواكبتِها للتقدُّم العلمي والحضاري.
فالعَوْلمة عملية تهدف إلى هَيْمنة الفكر والثقافة الغربية على الثقافات الأخرى بدعوى التعاون والتواصل، وإزالة الحدود والمسافات بين الدول والشعوب، فالدول الغربيَّة لديها قدرات استثنائية للتَّغَلْغُل، وبالتالي للتأثير؛ لذلك فالعولمة تمثل خطرًا مُدمِّرًا على الشعوب والأمم التي تفتقر إلى ثوابت ثقافية، والشعوب الضعيفة اقتصاديًّا، والمتخلفة تنمويًّا، فهذه لا تملك أن تقاوم الضغوط الثقافية، أو تصمد أمام الإغراءات القويَّة لتحافظ على نَصاعة هوياتها، وطهارة خصوصياتها، على عكس تلك التي تملك رصيدًا ثقافيًّا وحضاريًّا غنيًّا، والتي تملك التنمية الاقتصادية والاجتماعية في موازاةٍ مع العمل من أجل تقوية الاستقرار، وترسيخ قواعده على جميع المستويات، ولا يقتصر تأثير العولمة على الجانب الاقتصادي والسياسي، بل يتعدَّاه إلى الجوانب الأخرى، وخاصة فيما يتعلَّق بالناحية الثقافيَّة والإيديولوجيَّة والدِّينيَّة.
كما أن هناك جانبًا آخرَ غاية في الخطورة؛ ألا وهو دعوةُ البعض إلى هُويَّة أخرى غير الهُوية الإسلاميَّة؛ مثل الدعوة إلى الهُوية العربيَّة باسم القومية العربيَّة، والتعصب لها وحدَها بدون أن تقترنَ بالإسلام، بدعوى التقدُّم والمدنيَّة، رغم أن الإسلام لا ينْفَكُّ عن العروبة أبدًا، وأن الإسلام كان العاملَ الأول في بناء الدول العربية.
ومن مكايد أعداء الإسلام في هدم الهوية الإسلامية استخدامُهم وسائلَ كثيرة لتجزئة الأمة الإسلامية الواحدة، بإحياء عناصر الاختلاف السياسي والطائفي، والعِرقي، والمذهبي، واللُّغوي... وكلُّها نعرات الجاهلية الأولى.
ومما لا يخفى على أحد أن من أعظم التحديات التي تواجهها الهوية الإسلامية المفارقة بين المبادئ الإسلامية ذاتها سلوكًا والتزامًا؛ أي: إن هناك هُوَّة كبيرة فاصلة بين القيم والسلوك، وبين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، فهي فتنة ثقافية واضمحلالٌ للقدرة على التمييز بين الصواب والخطأ، وعجزٌ عن اتِّخاذ القرارات المصيرية؛ فهي أزمة تجتمع فيها مسارات سياسية وعقَدِية، وفكريَّة ثقافيَّة وتنمويَّة اجتماعيَّة، تجتمع كلها لتشكِّل أزمة التكوين الثقافي والسلوكي والعَقَدي والفكري لذلك الشباب المسلم الذي ينتشر في ربوع الأرض.
إن هناك تراجعًا كبيرًا في الانتماء العقَدي للشباب المسلم، إلى جانب تنامي عوامل التفكُّك في الأبعاد الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهذا قد سمح لهؤلاء الشباب - مع هذا التفكُّك والضعف - بالارتباط بالفكر الغربي، وأصبح هو مصدرَ التلقِّي والتوجيه، وأصبح القبول بمقولات وسلوكيات وطريقة تفكير الغرب شيئًا طبيعيًّا، وربما يتنامى ذلك أيضًا للاعتقاد!
ويمكنك أن ترى أزمة الهوية الإسلامية في الشباب الذين يُعلِّقون علم أمريكا في عنقهم، وفي سيارتهم، وحتى في سعيهم البهيمي في إشباع شهواتِهم، وظهر من فتيات الإسلام كذلك من تعرَّت، وتفسخت، وتركت حجابها، وفي المسلمين الذين يتخلَّوْن عن جنسيَّة بلادهم الإسلامية ويفتخرون بالفوز بجنسية البلاد الكافرة، وفي المذيع المسلم الذي يعمل بوقًا لإذاعة معادية لدينِه من أجل حَفْنة دولارات... وفي أستاذ الجامعة الذي يسبِّح بحمد الغرب صباحَ مساءَ.
كما نجد فئات وشرائح ومؤسسات في المجتمعَيْنِ العربي والإسلامي تعمل ****ل للثقافة الغربية؛ وذلك بتقديم المساعدات المالية لمشاريع أبحاثها، وعقد الندوات واللقاءات التي تدعم توجهاتها الثقافيَّة للهيمنة على الثقافتين العربية والإسلامية، ونجد مجموعة من المراكز والمؤسسات التي تؤثِّر مباشرة على الثقافة العربية؛ مثل: الجامعات التبشيريَّة، ومراكز اللغات والترجمة، ومؤسسات خيرية، ومدارس أجنبيَّة يتمثَّل دورها جميعًا في التأثير الفكري والتربوي واللغوي على طلبة العلم والمعرفة، وفرض مناهجها وأفكارها مع التقليل من مواد اللغة العربية والتربية الإسلامية، ثم القيام بالتبشير والتنصير (والخطورة كل الخطورة تَكمُن في تخريج هذه الأجيال على النَّهْج المريب من التغريب)، وهي أجيال لن تعودَ لها صلةٌ بماضيها وتراثها وثقافتها، ولن يكون لها ولاءٌ ولا انتماءٌ لآبائها وأقرانها ممن يتخرجون في المدارس العربية، وكأننا بذلك نعمل على إيجاد حالة من الانفصام في شخصية المجتمع وبِنيته الأساسية، تبدو آثاره في ظاهرة استعلاء لُغويٍّ، ومباهاة بلغة الغرب وثقافاتهم وإعلامهم.
والصراع الكبير اليوم في أكثر من بلد عربي وإسلامي هو صراع التعليم، وتفريغه من كل ما يُنْشِئ الروح الإسلامية، والعقلية الإسلامية، والنفسية الإسلامية، ومحاولة استغلال فترة غياب الهُوية.
إن هذه التحديات والمخاطر التي تتعرض لها المجتمعات العربية والإسلامية لا بدَّ للأنظمة التعليمية والتربوية من مواجهتها بصورة حاسمة؛ فمن خلال التربية يمكن أن تتحدد القِيَم، والمعارف، والمهارات، والسلوكيات التي تتطلبها الأمة، بل وتتحدد التنمية الاقتصادية، والاجتماعية، كما تساعد التربية في عملية التغلُّب على المعوِّقات والمشكلات، التي تعتبر بمَثابة قيود على الأمة تمنع انطلاقتها.
وأول ما نبدأ به من هذا الجهد هو تصحيح منهج التلقِّي من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وسيرة السلف الصالح رضوان الله عليهم؛ أي: من الأسس الإسلامية للتربية، وليس من أفكار دخيلة ومنحرفة، ثم تأتي مرحلة اشتقاق أهداف هذه التربية من هذه الأسس، ثم تتوالى عملية بناء المناهج التربويَّة، وتتلوها مهمَّة التربية على هذا البناء الصحيح الذي تُرجى معه الثمرة.