قريتي و رسائل من الماضي
بقلم : أحمد زكريا
صاح السائق .. وصلنا يا بهوات … حمد الله على السلامة ..نزل من العربة المتهالكة .. ثم نظر إلى الحقول المترامية الأطراف .. ثم أخذ نفسا عميقا ..مستنشقا رنسائم قريته المميزة .. خليط من رائحة الزرع و الماء و الهواء و الدواب .. طرق باب بيت ريفي صغير .. السلام عليكم .. و عليكم السلام .. ازيك يا بن عمي الغالي وحشتنا .. وحشتوني كلكم .. و بعد الإفطار المنقوع في السمن البلدي .. من فضلكم عايز العجلة .. أروح بيها الغيطان .. أصلها وحشتني جدا .. طب استنى الغدا .. لا انتم عارفين .. أيوة يا سيدي عارفين .. مش بتحب في بلدنا غير الغيطان وقت الفجرية و العصاري و العسل بالقشطة و عيشنا المرحرح .. ضحكوا جميعا .. ثم ذرع الطرقات الضيقة وسط الحقول .. و أخذ يتذكر .. حبه الأول و باكورة مشاعره .. و قصائده الأولى .. التي ألفها بين أعواد الذرة .. و سنابل القمح و رحيق الزنابق البرية و أصوات العصافير و رفيف أجنحة الحمائم متنقلا بين أبراجه ..إنها قريته الجميلة .. التي ما زال يعتبرها حبيبته الأولى .. يغسل همومه فيها على ضفة الترعة .. متوضآا من مياه ساقية قديمة عجوز , التي مازال صريرها يذكره بأحداث كبيرة مرت بها قريته
ـ إنها القرية التي يحبها و يشعر في كنفها بالأمان و الطمأنينة , كأنها أم رؤوم تحتضن ولدها بعد طول غياب .. نقاء هوائها العليل ونسمات الفجر المشبع بالندى الرطيب المبلل شفاه الزهر و أوراق الشجر و ألوان الثمر .. رحيق نوار البرسيم .. حتى نهيق الحمار و نعيق الغراب .. كل ذلك يرسم في مخيلته لوحة فوتوغرافية كاملة .. تحوي تفاصيل الحياة الريفية .. ترتسم في أعماق ذكرياته .. يغمض عينيه .. يخلع نعليه .. يسرح في تفاصيل ماضيه .. تاركا نفحات النوار الزكية تداعب قميصه .. مستلقيا تحت ظل شجرة الصفصاف التي طالما حكى لها عن كل أسراره و شهدت حبه الأول .. مختلسا حياته في هذه اللحظات الرائعة من قبضة الزمن .. يرشف عبير الهدوء و صفو الهناء .. على حافة الترعة متذكرا قريته و رسائل من الماضي لا تزال تحيا في صدره .