أيها المصلحون، اصبروا وصابروا ورابطوا
خميس النقيب
إن مضايقات واستفزازات العلمانيين وتوابِعهم - خاصة في مراحل التغيير - لا يَصبِر عليها إلا رجال صامِدون، لديهم همَّة عالية وعزم متين، ولا يتوقف عن الانسِياق وراءها أو الرد الفوري عليها إلا من ثبتَتْ قدماه على مبادئ العمل البصير، وانْخرَط في سِلك الدعوة الربانية، فهم يكذِبون ويُنافِقون ويُداهِنون، وكل يوم يتلوَّنون ومع ذلك يَشكُون ويصرخون ويلطمون! (ضربني وبكى، وسبقني واشتكى!) تمرُّدٌ على التأسيسية، وتَطاولٌ على الرئيس ومؤسَّسته الرئاسية، وإعاقة مشروع النهضة بكل الوسائل شرعية وغير شرعية، فقط لقتْل الآمال العريضة، وذبْح الأهداف المجيدة، وتصدير الخيْبة الجديدة!
نعم، فلكل إنسان آمال عريضة، وأهداف قريبة وبعيدة، ولكن تَعترِضه أشواك، وتقف في طريقه معوِّقات، لا بدَّ له من قوة تأخذ بيده، وتسند ظهرَه، وتَشد من أزْره؛ تُذلِّل له العَقبات، وتُذهِب عنه المعوقات، وتُنير له الطريق، إنها قوة الإيمان والمصابرة، وإذا كان العبد صابرًا محتسِبًا، كان عزيزًا بدينه، قويًّا بعقيدته، غنيًّا بإيمانه، ثابتًا بصبره وجَلَده، فإذا جاء النصر وانقلبتِ الموازين لتأخُذَ وضعَها الطبيعيَّ بعد مصابرة ومثابرة، كان للدُّعاة فيها - كما هو في القرآن - استِمْساك وثيقٌ بِحبْل الله، وعملٌ واعٍ على هُدى من سُنن الله، وإعْراض واضح عن ردود الفعْل الوقتية، بعيدًا عن حظوظ النفس فتكون بلا جدوى، بل عمَل هادئ متواصِل، وصبر ساعةٍ، ثمَّ يفرح المؤمنون بنصر الله، وتتجرَّع الحثالة الباغية مرارة الخِزْي والنَّدم، وها هو ذا القرآن الكريم يصِف كيْد بطانة السوء، ثم يوجِّه المؤمنين بهذا الهدْي الرفيع؛ ﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ [آل عمران: 120].
وقد مرَّ بمِثل هذه المحن - التشويه والتعويق والصد والعناد - طريق الأنبياء الكرام، فتحلوا بالصَّبر بمعناه الإيجابي، صبْر الاستِعلاء لا صبر الاستسلام، صبر النهوض لا صبر القعود، صبر الأمل والعمل لا صبر القنوط والكسل، صبر يشمَل التحمل والسعي ليكون التغْيير بعد ذلك، فتحمَّلوا الأذى المادي والنفسي من الفئات التي أعْماها الصَّد العقيم، والمكسب الفاني السقيم، وواجهوا ذلك بالشِّعار الربَّاني الرائع: ﴿ وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ [إبراهيم: 12]، ولم يكن الصبر ذلَّة وانهزامًا، وإنَّما كان زادًا لعمل تغْييري شامل، من شأنِه اجتِثاث الدَّاء من أصله، كيف؟!
الاستِعانة بالله، والصبر على رضاه، والعمل على تقواه: من عوامل النصر والتمكين؛ ﴿ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الأعراف: 128].
ولمَّا صدَق المصلحون الربانيون في السعي والصبر، لم يعُدْ يَعنيهم تَهديد البُغاة ووعيد الطغاة، بل كان ذلك آخِر تَخطيط لهؤلاء قبل البوار؛ ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ﴾ [إبراهيم: 13]، وما أشبَه اللَّيلة بالبارحة! لكن عند هذا الحدِّ من الطُّغيان والغطرسة تأخذ السنّة الربانية مداها، وتأخذ الأوامر الربانية مجراها، كيف؟! ﴿ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ﴾ [إبراهيم: 13- 14].
إن الرجولة الحقة مبنيَّة على الصبر والتماسك، أما الجزع والاسترخاء فلا يَقوم عليهما خُلُق، ولا ينبني عليهما عمَل، ولا يوصل بهما إلى نجاح، ولا يَنتُج عنهما فلاح، ثم إن الحياة ليست لونًا واحدًا، فإن الجو يصفو ويَغِيم، والصحة تَقوى وتَضعُف، والأيام تُقبِل وتدبِر، وربك يَخلق ما يشاء ويختار، وكل شيء عنده بمقدار، فلا يجب أن تتعثَّر الخطى مع بلايا الأيام، ونكبات الدهر، وبُعْد الغاية، ووعثاء الطريق.
وحراس العقيدة، وأهل الحق، وحاملي الأمانة - أجدرُ الناس بمعرفة هذه الحقيقة والنزول عن حُكمها، فمن ظنَّ أن طريق الإيمان مفروشة بالأزهار والرياحين، تَحفها أنضج الثمار وأعظم البساتين، فقد جهِل طبيعة الإيمان بالرسالات؛ ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا ﴾ [البقرة: 214]، الجنة إذًا لا بد لها من ثمن، وهي سلعة غالية، وقد دفَعه أصحابُ الدعوات من السابقين، فلا بد أن يدَفعه إخوانُهم من اللاحقين.
هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبر في مكة على عداوة المشركين، وفي المدينة على كيْد المنافقين واليهود، ويقاوم الاستِدراج؛ ((لا أريد أن يتحدَّث النَّاس أنَّ محمدًا يقتُل أصحابه))، ويرفُض الاستِعجال؛ ((لقد كان فيمَنْ قبلكم يُمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمِه وعظمِه، لا يردُّه ذلك عن دينِه، ولكنَّكم تستعْجِلون))، ويضبط الأصحاب الكِرام بضوابط الشرع، وإنَّما يصبِرون ويثبُتون، ويضحُّون بالوقْت والمال والأهْل والأنفُس؛ حتَّى يتكوَّن جيلٌ ربَّاني يتولَّى بنفسِه هدْمَ الأصنام التي كان يعبُدها، مردِّدًا مع النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قولَ الله تعالى: ﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ [الإسراء: 81]، ولو بدؤوا بتكسيرِ الأصنام، كردِّ فعلٍ على تعْظيم المشركين لها، لما قامت للإسلام قائمة؛ قال الله تعالى: ﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ﴾ [آل عمران: 120]، ولذلك لا ينتصِر الدعاة المصلِحون إلا بالصبر واليقين، ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُون ﴾ [السجدة: 24]، فدعاة اليوم كدُعاة الأمس، إنما وصلوا لمكانتهم (يهدون بأمر الله) عندما تحلوا بالصبر واليقين، جعلهم الله رؤساء عندما تمكَّنوا من رأس الأمر (الصبر).
والكادحون في الحياة، والمجاهدون في سبيل الله - يستمرئون المُرَّ، ويستعذِبون العذاب، ويَستهينون بالصِّعاب، لا يُبالون بالأحجار في طريقهم، ولا يلتفِتون للطعنات في ظهورهم، ولا يقفون عند المؤامرات تُحاك لهم، قد يتعثَّرون لكن سرعان ما ينهضون، قد يُجرَحون لكن سَرعان ما تَندمِل جروحهم، فمن جديد ينطلقون، لا يَستسلِمون لليأس، ولا يَفقدون نور الأمل؛ لأنهم طلاب المعالي، والباحثون دائمًا عن الرفعة والمجد.
لا تَحسبِ المجدَ تمرًا أنت آكِلُهُ لن تَبلُغ المجدَ حتى تَلْعَقَ الصَّبِرَا
لذلك يعلمون أنه كثيرًا ما يستدرِجُهم خصومُهم للتَّوافه؛ ليُنهِكوا قواهم، ويَشغلوهم بمخطَّطٍ، وضعوه أساسًا لبلْبلةِ الصف المؤمِن والإجهاز عليه، من خلال تصيُّد الأخطاء، وتضخيم الهفوات، وبثِّ الإشاعات، لكن هيهات هيهات! فأثقال الحياة لا يتحمَّلها المهازيل أو المرضَى، وإنما يقوم على شأنها، ويتحمَّل أعباءها، ويَنقلها من طَور إلى طور - رجالٌ عمالقة، وأبطال صابرون، كان أحد القادة يقول: "اللهم قوِّ ظهري، ولا تُخفِّف حملي"، غايته الوصول للقمة وهو صابر مجاهد محتسب.
لما اتُّهم يوسف - عليه السلام - في شَرَفه وعِفَّته وكرامته، اختار مصيبة الدنيا على مصيبة الدين؛ ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ [يوسف: 33]، وسِيقَ إلى السجن، لكنه ما لبِث أن انفرَج همُّه، وزال غمُّه، وانكشَف ضُرُّه، وخرج أول رجل في بلده كريمًا عزيزًا، مرفوع الرأس، عالي الهامَة، مرتفِع القامة، بيده كل الأمور، وقد مُكِّن له في الأرض، بصبره ومصابرته؛ ﴿ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 56]، بل إن الله أراد أن يرفعه ويُشرِّفه، كيف؟ بِيعَ في السوق بثمن بخسِ دراهمَ معدودةٍ، وُضِع في الجُب، اتُّهم في شرفه من امرأة العزيز، اتُّهم بالسرقة من إخوته، وضِع في السجن، لماذا هذا الكيد؟! ﴿ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 76]، وهذا مآل كل الشرفاء عبر الأزمان والأجيال.
وإذا العنايةُ لاحَظتْكَ عيونُها نَمْ فالمخاوفُ كلهنَّ أمانُ
واصطَدْ بها العنقاءَ فهْي حبائلٌ واقتَدْ بها الجوزاءَ فهْي عَنانُ
أيها الإخوان والخِلان والجِدعان، اصبروا على ما ألمَّ بكم من نِفاق المنافقين، ودعُوكم من حقْد الحاقدين، صابروا كيدهم، واهزِموا حقدهم، ورابِطوا في ثغوركم؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200]، يا أهل الإيمان، اصبروا على النعماء، وصابروا على البأساء والضراء، ورابِطوا في دار الأعداء، واتَّقوا رب الأرض والسماء، لعلكم تفلِحون في دار البقاء، وهي جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين! في الآخرة جزاؤهم؛ ﴿ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ﴾ [الإنسان: 12]، يُغرف لهم من الحسنات غرفًا؛ ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10]، والملائكة تدخل عليهم في أماكنهم في الجنة وتُهنِّئهم بما صاروا إليه؛ ﴿ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 23، 24].