عشر ذي الحجة وعرفة وأحكام الأضحية
الحمد لله ربِّ العالمين، لا يسأم من كثرة السؤال والطلب، سبحانه إذا سُئِلَ أعطى وأجاب، وإذا لم يُسأَل غضب، يُعطي الدنيا لمن يحبُّ ومَنْ لا يُحبُّ، ولا يُعطي الدين إلا لمن أحَبَّ، من ركن إلى غيره ذلَّ وهان، ومن اعتزَّ به ظهر وغلب، نحمَده تبارك وتعالى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وإليه المنقلب، قبض قبضتين: فقبضة الجنة لرحمته، وقبضة النار للغضب، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، نطق بأفصح الكلام، وجاء بأعدل الأحكام، وما قرأ ولا كتب، آية الآيات، ومعجزة المعجزات، لمن سلم عقله من العطب، تأمَّل في حياته وانظر، وتمعَّن بقلبك وتدبر، الأب يموت ولا يراه، والأم تسلمه لغريبة ترعاه، وعمٌّ كفله وربَّاه، وعمٌّ هو أسد الله، وعمٌّ يَصلى نارًا ذات لهب.
بعثه الله برسالة لم تتحملها الجبال، وابتلاه بعشيرة يرى منها الأهوال، وتتركه الوليفة إلى بيت في الجنة من قصب، جاءه منها البنات والبنون، فاختطفتهم منه يد المنون، فلا وريثَ ولا شقيقَ ولا عصب، هموم وآلام، ونفاق من اللئام، وليل لا ينام، ونهار للجهاد قد اصطحب، وُوري في التراب وجهُه الأنور، وغُطِّي بالأكفان جبينه الأزهر، بعد شديدِ مرضٍ وتعب، لم يورث منه مال؛ بل علمٌ تناقلته الأجيال، ونور في الآفاق قد ضرب، أضاء للمؤمنين طريقهم، أحبهم وحبَّب إليهم ربهم، إمامُ الغُرِّ المحجَّلين، وخاتم الأنبياء والمرسلين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
أيُّها المسلمون، اتقوا الله تعالى، واعلموا أنَّكم لا تزالون تَنْعمون بعَشْرٍ مباركة، عَشرِ ذي الحِجَّة، أفضلِ أيَّام السَّنَة، حيث جاء بسند حسَّنه جمعٌ مِن المحدِّثين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا أَيَّامُ الْعَشْرِ، عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ»، بل إنَّ الأجور فيها على الأعمال الصالحة تُضاعَف وتَعْظُم؛ لِما ثبَت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ خَيْرٍ يَعْمَلُهُ فِي عَشْرِ الْأَضْحَى».
والسيئات إذا فُعِلَت فيها عَظُم إثمها واشتدَّ وغَلُظ؛ لأنَّها قد وقعت في شهر مِن الأشهر الحُرم، التي زجر الله عباده عن ظلم أنفسهم فيها بالبِدع والمعاصي؛ حيث قال سبحانه: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36]، وثبَت عن قتادة التابعي رحمه الله أنَّه قال: ((إِنَّ الظُّلْمَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَعْظَمُ خَطِيئَةً وَوِزْرًا مِنَ الظُّلْمِ فِيمَا سِوَاهَا)).
وفي هذه العَشر أيضًا: يبدأ الحج الذي هو أحد أركان الإسلام وأصوله العِظام، في ضُحى اليوم الثامن منها، فيُحْرِم الناس مِن أماكنهم، ثم يتوجهون إلى مِنًى فيصلون بها الظهر وما بعدها مِن فرائض.
وفي هذه العَشر أيضًا يومٌ جليل عظيم؛ ألا وهو يوم التاسع منها، يوم عرفة، وما أدراكم ما يوم عرفة، إنَّه يوم الرُّكن الأكبر لحجِّ الحجاج، ويوم تكفير السيئات، والعتق مِن النار لهم، فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ»؟، وصيامه على يُسرِه وسُهولته يُكفِّر ذُنوب سنتين، حيث صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ»، فهنيئًا هذا الأجر الكبير لِمَن صامه.
وفي هذه العَشر أيضًا: يوم الحجِّ الأكبر، وهو يوم النحر، ويوم عيد الأضحى، حيث صحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ يَوْمَ النَّحْرِ بَيْنَ الْجَمَرَاتِ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي حَجَّ، فَقَالَ: «أَيُّ يَوْمٍ هَذَا»؟، قَالُوا: يَوْمُ النَّحْرِ، قَالَ: «هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ»، وسُمِّي يومُ النحر بيوم الحجِّ الأكبر؛ لأنَّ مُعظَم وأهمّ مناسك الحج تكون في ليلته ويومه؛ كالوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة، ورَمي جمرة العقبة، وذبح الهَدي، والحلق أو التقصير، وطواف الإفاضة، وسعي الحج.
وفي هذه العَشر أيضًا: صلاة عيد الأضحى والتي هي مِن أعظم شعائر الإسلام، وقد صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وداوم على فِعلها هو وأصحابه والمسلمون في زمنه وبعد زمنه، بل حتى النساء كُنَّ يشهدنها في عهده صلى الله عليه وسلم وبأمره.
وفي هذه العَشر أيضًا: نُسُك الهدي والأضحية حيث يبدأ وقت التَّقرُّب إلى الله بالذبح لهما مِن ضُحى اليوم العاشر مِنها إلى غروب شمس يومِ الثالثِ عشر.
وفي هذه العَشر أيضًا مع أيَّام التشريق: تكبير الله عزَّ وجلَّ؛ حيث يُسَنُّ للرجال والنساء، الكِبار والصغار، تكبيرُ الله عزَّ وجلَّ: ((الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد)) في سائر الأوقات، ويبدأ هذا التكبير مِن بعد غروب شمس آخِر يوم مِن أيَّام شهر ذي القَعدة، ويستمر إلى آخِر يوم مِن أيَّام التشريق قبل غروب شمسه، وأمَّا التكبير الذي يكون بعد السلام مِن صلاة الفريضة فيبدأ وقته مِن صلاة فجر يوم عرفة إلى صلاة العصر مِن آخِر أيَّام التشريق.
أيُّها المسلمون، إنَّ مِن العبادات الجليلة الطَّيِّبة التي يتأكد فِعلها في آخر يوم مِن أيَّام العَشر وهو يوم عيد الأضحى: التقربَّ إلى الله تعالى بذبح الأضاحي، فالأضحية مِن أعظم شعائر الإسلام، وهي النُّسك العام في جميع الأمصار، والنُّسك المقرونُ بالصلاة، وهي مِن مِلَّة إبراهيم الذي أُمِرنا باتباع مِلته، فقد ضحَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضحَّى المسلمون معه، بل وضحَّى صلى الله عليه وسلم حتى في السفر، وأعطى أصحابه رضي الله عنهم غنمًا ليُضحوا بها، ولم يأت عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه تركها، فلا ينبغي لِمُوسِر تركها، وقد قال ربُّكم سبحانه عن البُخل على النَّفس بما يُقرِّبها منه: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} [محمد: 38].
والأفضل أن تكون الأضحيةُ كاملةَ الصفات غاليةَ الثمن، وكلما كانت أكملَ فهي أحبُّ إلى الله عزَّ وجلَّ، قال ربنا عز وجل: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران: 92] {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37]، وعن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ العمل أفضل؟ قال: «إيمانٌ بالله، وجهادٌ في سبيله»، قلت: فأيُّ الرقاب أفضل؟ قال: «أعلاها ثمنًا وأنفسُها عند أهلها»؛ (متفق عليه) .
وعن عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن يطأ في سواد، ويبرك في سواد، وينظر في سواد، فأُتِي به ليُضحِّي به، فقال لها: «يا عائشة، هلمّي المُدية» ثم قال: «اشْحَذِيها بحَجَرٍ» ففعلت، ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه، ثم ذبحه، ثم قال: «باسم الله، اللهم تقبَّل من محمدٍ وآل محمد، ومن أُمَّة محمد، ثم ضحَّى به»؛ (رواه مسلم) .
ومن أحكام الأضحية:
أولًا: أنها لا تُجزئ إلا مِن الأصناف الأربعة، وهي: الإبلُ والبقر والضأن والمعز، ذكورًا وإناثًا.
وثانيًا: الأضحية بشاة كاملة أو مَعزٍ كاملة تُجزئ عن الرجل وأهل بيته ولو كان بعضهم متزوجًا، ما دام أنَّهم يسكنون معه في نفس البيت، وطعامهم وشرابهم مُشتَرَك بينهم، لِمَا صحَّ عن أبي أيوب رضي الله عنه أنَّه قال: "كَانَ الرَّجُلُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ يُضَحِّي بِالشَّاةِ عَنْهُ، وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَيَأْكُلُونَ وَيُطْعِمُونَ"، وأمَّا إذا كان لكل واحد منهم شَقةً مُنفردة لها نفقة مستقلة، ومطبخها مستقل، فله أضحية تخُصُّه، ومَن كانوا عُزَّابًا وأرادوا الأضحية فإنَّه لا يصِحُّ لهم الاشتراك في ثَمن الأضحية، بل يُضحِّي أحدهم مِن ماله، ويُشرِكهم معه في الأجر بالنِّية، وإنْ أحبَّ أحدهم أنْ يُساعده في مالها مِن باب التَّبرُّع له لا المشاركة معه في الأضحية جاز له ذلك.
وثالثًا: يبدأ أوَّل وقت الأضحية ضُحَى يوم العيد بعد الانتهاء مِن صلاته وخطبته، وهذا الوقت هو أفضل أوقات الذبح؛ لأنَّه الوقت الذي ذبح فيه النبي صلى الله عليه وسلم أضحيته، وأمَّا آخِر وقت ذبح الأضاحي فهو غروب شمس اليوم الثالث مِن أيَّام التشريق.
ورابعًا: السُّنَّة في الأضحية أنْ تكون طيّبة سمينة سَليمة مِن العيوب؛ فعن سَهل بن حُنَيف رضي الله عنه أنَّه قال: "كُنَّا نُسَمِّنُ الأُضْحِيَّةَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ المُسْلِمُونَ يُسَمِّنُونَ"، أما العيوب المنهي عنها فقد قال صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرْبَعٌ لا يَجُزْنَ: الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ظَلْعُهَا، وَالْكَسِيرَةُ الَّتِي لَا تُنْقِي»؛ أي: الهزيلة جدًّا؛ (رواه أحمد بإسناد صحيح) .
فهذه العيوب الأربعة وما كان أشد منها مانعةٌ من الإجزاء، وما عداها يُجزئ كمخروقة الأذن، أو التي في أذنها شق أو قطع فتجزيء، فالأصل الإجزاء والوارد في عدم إجزائها لا يصح.
وخامسًا: يستحب في لحم الأضحية أنْ يَتصدق المضحي بالثلث، ويهدي الثلث، ويأكل هو وأهله الثلث؛ لثبوت ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم، وإن أكلها كلها أو تصدق بها كلها أو أهداها كلها جاز.
وسادسًا: الأضحية مِن جهة السِّن تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: الإبل والبقر والمَعز، وهذه الأصناف الثلاثة لا يُجزأ مِنها في الأضحية إلا الثَّنِيُّ فما فوق، والثَّنِيُّ مِن المَعز: ما أتمَّ سَنَة، ومِن البقر: ما أتمَّ سنتين، ومِن الإبل: ما أتمَّ خمسَ سنين.
القسم الثاني: الضأن، ولا يُجزأ منه إلا الجَذَع فما فوق، والجَذَعُ: ما أتمَّ سِتَّة أشهر.
نفعني الله وإياكم بهَدْي كتابه وسنة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، والحمد لله رب العالمين، وسلام على المرسلين.
الخطبة الثانية
الحمد لله مُعزِّ مَن أطاعه واتَّقاه، ومُذِلِّ مَن أضاع أمرَه وعصاه، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمدٍ المُنيبِ الأوَّاه، وعلى آله وأصحابه الذين جاهدوا في الله حق جهاده، أمَّا بعد:
أيُّها المسلمون، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فإنَّها وصيَّتُه لعباده أجمعين، وأحذِّرُكم ونفسي معصيتَه، فإنَّها مَورد غضبه الذي حذَّر مِنه الأوَّلين والآخرين: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18]، وانتبهوا إلى أنكم لا زلتم تَنْعَمون بالعيش في الأشهُر الحُرُم المعظَّمة، وفي أشهُرِ الحجِّ المحرَّمة، وفي عَشْر ذي الحِجَّة المكرَّمة، التي أقسَم الله بها في كتابه، وأعدَّ لصائمها وقائمها جزيلَ ثوابه، فواظِبوا فيما بقي مِنها على الطاعات، وأكثِرُوا مِن الصدقات، وتُوبوا مِن جميع السِّيئات، والحُّوا على الله بجوامع الدعوات، لتفوزوا بالخيرات والبركات، في الحياة، وبعد الوفاة.
هذا وأسأل الله أنْ يوفِّقنا لمعرفة الحق واتِّباعه، ومعرفة الباطل واجتنابه، وأنْ يهدينا الصراط المستقيم، اللهم تجاوَز عن تقصيرنا وسيئاتنا، واغفر لنا ولوالدينا وسائر أهلينا، وبارك لنا في أعمارنا وأعمالنا وأقواتنا وأوقاتنا، اللهم اكشف عن المسلمين ما نزل بهم مِن ضُرٍّ وبلاء، ووسِّع علينا وعليهم في الأمن والرزق والعافية، وأعِذْنا وإيَّاهم مِن الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم وفِّق ولاتنا ونوَّابهم وجندهم لِما فيه صلاح الدين والدنيا، وخير العباد والبلاد، وعزِّ الإسلام والمسلمين، إنك سميع الدعاء، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد.
______________________________ __________________
الكاتب: إبراهيم الدميجي