الكشف عن أصول دلائل الإعجاز للإمام عبدالقاهر الجرجاني
د. حسن إسماعيل عبدالرازق
بسم الله الرحمن الرحيم
مُنذُ ما يقرُب من ثماني سنواتٍ صدَر لي كتابٌ بعنوان: "دلائل الإعجاز بين أبي سعيد السيرافي وعبدالقاهر الجرجاني"[1]، وقد أحدَثَ هذا الكتابُ ضجَّةً كبيرةً في أوساط البلاغيِّين والنُّقَّاد؛ لما اشتَملَ عليه من حَقائق مُثِيرة كانت غائبةً عن الأذهان، وأهمُّ هذه الحقائق هي: أنَّ نظريَّة النَّظم التي أدارَ عليها الإمام عبدالقاهر الجرجاني كتابه "دلائل الإعجاز" ليست من بَنات أفكارِه؛ وإنما هي من بناتِ أفكار أبي سعيدٍ السيرافي (المتوفَّى سنة 386هـ)، وأنَّ كتاب "دلائل الإعجاز" ليس إلاَّ شرحًا للمُناظَرة التي جَرَتْ بين أبي سعيدٍ السيرافي ومَتَّى بن يونس المنطقي في المفاضلة بين النحو والمنطق بمجلس الوزير أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفُرات في (سنة 326هـ)، ونقَلَها تلميذُه أبو حيَّان التوحيدي في كتابَيْه: "الإمتاع والمؤانسة"، و"المقابسات"، كما نقَلَها ياقوت في "معجم الأدباء"، وفي تلك المناظرة ظهَرتْ بُذورُ نظريَّتي "النظم" و"البيان" اللَّتين أدارَ عليهما الإمام عبدالقاهر الجرجاني كتابه "دلائل الإعجاز"، ومن النظريَّتين تفرَّعت مسائلُ البلاغة العربيَّة، وتنوَّعت إلى عُلومها الثلاثة: المعاني، والبيان، والبديع، ودارَتْ حولها مباحثُ البلاغيين، من شُروحٍ وتعليقاتٍ ومتون وتلخيصات إلى يومنا هذا.
وقد أيَّدتُ رأيي هذا بما يلي:
أولاً: أنَّ الأفكار التي وردَتْ في "الدلائل" هي الأفكار نفسُها التي وردت في المناظرة.
ثانيًا: أنَّ تلك الأفكار قد جاءت في "الدلائل" مُرتَّبةً على حسَب ترتيبها في المناظرة.
ثالثًا: أنَّ عبدالقاهر في "الدلائل" لم يكدْ يأتي بأفكارٍ جديدةٍ لم تكن في المناظرة؛ وإنما قام الكتاب كلُّه على نظريَّة النَّظم وشرحها، وإقامة الدليل على صحَّتها بما قرَأَه في كتب النُّقَّاد السابقين.
رابعًا: أنَّ طريقة الكتاب هي طريقة المناظرة، وليست طريقة كتاب تُعَدُّ أفكارُه وتُنظَم كالذي نجدُه في "أسرار البلاغة"؛ ولهذا فإنه يُكثِر من قوله: "فإن قلتم كذا، قلنا كذا".
ومن الغريب حَقًّا ألا يَذكُر الإمام عبدالقاهر الجرجاني مصدرَ فِكرَتِه في "الدلائل" - وهو مُناظرة أبي سعيد السيرافي - بل إنَّه لم يُجْرِ ذِكرًا للسيرافي في "دلائل الإعجاز"، في الوقت الذي ذكَر فيه أبا عليٍّ الفارسي، وقد كان قرينَ أبي سعيد السيرافي ونظيرَه في النحو والصرف - ثلاث مرَّات في "دلائل الإعجاز"؛ وهي:
قوله: "ومن ذلك ما أنشده الشيخ أبو علي في "الإغفال"..."[2].
وقوله: "قال الشيخ أبو علي في "الشيرازيات"..."[3].
وقوله: "أنشد الشيخ أبو علي في "التذكرة"..."[4].
والأغرَبُ من هذا أنَّ عبدالقاهر قد رفَض رأيًا لأبي سعيدٍ السيرافي - وهو يُؤلِّف "الدلائل" - ولم يُشِر إليه؛ إمعانًا منه في إخفاء ذِكره، وذلك عند شرح سيبويه لقول الخنساء:
تَرْعَى إِذَا نَسِيَتْ حَتَّى إِذَا ادَّكَرَتْ
فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارُ
فجعَل الإقبال والإدبار مَجازًا على سَعَةٍ في الكلام؛ كقولك: نهارُكَ صائمٌ، وليلُكَ قائِمٌ؛ حيث يقول أبو سعيدٍ السيرافي - في شرحه للكتاب -:
يقدرون مثل هذا على تقديرين:
أحدهما: أنْ يُقدِّروا مُضافًا إلى المصدر ويحذفونه كما يحذفون في: ﴿ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ﴾ [يوسف: 82].
والوجه الثاني: أنْ يكون المصدر في موضع اسم الفاعل، وكان الزجَّاج يَأبَى إلاَّ الوجه الأوَّل، وممَّا يُقوِّي الثاني أنَّك تقول: رجلٌ ضخمٌ وعَبْلٌ، فتجعلُهما في موضع اسم الفاعل؛ وليسا بمصدرَيْن لِضَخُمَ وعَبُلَ.
وعلى كلام أبي سعيدٍ السيرافي: فالمجاز مجازُ حذفٍ، أو مجازٌ مرسلٌ علاقته التعلُّق بالاشتقاق[5]؛ ولكنَّ عبدالقاهر يرفُض الوجهين كليهما، وينظم البيت في سِلك ما أسماه بـ"المجاز الحكمي"، ثم يقول: "واعلم أنَّه ليس بالوجه أنْ يُعَدَّ هذا على الإطلاق بعدما حُذِفَ فيه المضاف وأُقيم المضاف إليه مقامه مثل قول الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ﴾ [يوسف: 82]، وإن كُنَّا نراهم يَذكُرونه حيث يَذكُرون المضاف المحذوف من نحو الآية... في سبيل ما يُحذَف من اللفظ ويُراد في المعنى، وليس الأمر كذلك في بيت الخنساء؛ لأنَّا إذا جعَلْنا المعنى فيه كالمعنى إذا قُلنا: فإنما هي ذاتُ إقبالٍ وإدبارٍ، أفسدنا الشعر على أنفسنا، وخرجنا إلى شيءٍ مغسولٍ، وإلى كلامٍ عامِّيٍّ مرذول"[6].
وليس هذا فحسْب، بل إنَّ عبدالقاهر قد نقَل أفكارًا عديدةً انتفع بها في "الدلائل" من شرح أبي سعيدٍ السيرافي لـ"كتاب سيبويه"، دون أنْ يذكر اسمه؛ إمعانًا منه في إخفاء ذِكره، ومن ذلك ما يلي:
قال أبو سعيدٍ السيرافي - تعليقًا على قول سيبويه في "الكتاب": كأنهم يُقدِّمون الذي بيانه أَهَمُّ لهم، وهم ببيانه أعنى، وإنْ كانا جميعًا يهمَّانهم -: "معنى ذلك أنَّه قد يكون من أغراض الناس - في فعلٍ ما - أنْ يقع بإنسانٍ بعينهِ ولا يبالون مَن أوقعه به؛ كمثل ما يريدُه الناس من قتلِ خارجيٍّ مُفسدٍ في الأرض، ولا يُبالون مَن قتَلَه؛ فإذا قتله زيدٌ فأراد مخبرٌ أنْ يُخبر بذلك قدَّم الخارجيَّ في اللفظ؛ لأنَّ القلوب متوقَّعة لما يقع به من أجله، لا من أجلِ قتلِه، فتقول: (قتلَ الخارجيَّ زيدٌ)، وإن كان رجل ليس له بأسٌ، ولا يقدر فيه أن يَقتُلَ أحدًا؛ فَقَتَلَ رجلاً، فأراد المخبر أنْ يخبر بهذا المستبعد من القاتل، كان تقديم القاتل في اللفظ أهمَّ؛ لأنَّ الغرض أن يُعْلَمَ أنه قتل إنسانًا، فيقال: "قتلَ زيدٌ رجلاً".
وهذا الكلامُ إنما هو على قدْر عناية المتكلم، وعلى ما يسنَحُ له وقت كلامِه، وربما فعل هذا لطلب سجعٍ، أو قافيةٍ، أو كلامٍ مُطابقٍ، ولأغراضٍ شتَّى؛ اكتفاءً بدلالة اللفظ عليه"[7].
وقد نقل عبدالقاهر الجرجاني هذا الكلام من شرح أبي سعيدٍ السيرافي إلى "دلائل الإعجاز" على هذا النحو: "واعلم أنَّا لم نجدْهم اعتمدوا فيه شيئًا يجري مَجرى الأصل (أي: في التقديم) غير العناية والاهتِمام، قال صاحب "الكتاب" - وهو يذكر الفعل والمفعول -: كأنهم يقدمون الذي بيانُه أهمُّ لهم وهم بشَأنه أعنَى، وإنْ كانا جميعًا يهمَّانهم ويعنيانهم، ولم يذكروا في ذلك مثالاً، ثم قال عبدالقاهر: وقال النحويون - وهو يقصد أبي سعيد السيرافي -: إنَّ معنى ذلك: أنَّه قد يكون من أغراض الناس - في فعلٍ ما - أنْ يقع بإنسانٍ بعينه، ولا يُبالون مَن أوقَعَه؛ كمثل ما يُعلَم من حالهم - في حال الخارجيِّ يخرج فيعيثُ ويُفسد، ويكثُر به الأذى، أنهم يريدون قتلَه، ولا يُبالون مَن كان القتلُ منه، ولا يَعنِيهم منه شيءٌ، فإذا قُتِلَ وأراد مُرِيدٌ الإخبارَ بذلك، فإنَّه يُقدِّم ذكر الخارجي؛ فيقول: "قَتل الخارجيَّ زيدٌ" ولا يقول: "قتل زيدٌ الخارجيَّ"؛ لأنَّه يعلم أنْ ليس للناس في أنْ يعلموا أنَّ القاتل له زيدٌ جدوى وفائدة، فيَعنِيهم ذكره ويهمهم ويتَّصل بمسرَّتهم، ويعلَمُ من حالهم أنَّ الذي هم مُتوقِّعون له ومُتطلِّعون إليه، متى يكون وقوع القتل بالخارجيِّ المفسد، وأنهم قد كفوا شرَّهُ وتخلَّصوا منه... ثم قالوا: - وهو يقصد أبا سعيدٍ السيرافي - فإنْ كان رجلٌ ليس له بأسٌ، ولا يقدر فيه أنْ يقتل فقتَل رجلاً، وأراد المخبر أنْ يُخبِرَ بذاك، فإنَّه يُقدِّم ذكرَ القاتل؛ فيقول: قتل زيدٌ رجلاً؛ ذاك لأنَّ الذي يَعنِيه ويَعنِي الناس من شأن هذا القتل طَرافته وموضع النُّدرة فيه، وبعدُه كان من الظنِّ، ومعلومٌ أنَّه لم يكن نادرًا وبعيدًا من حيث كان واقعًا بالذي وقع به؛ ولكن من حيث كان واقعًا من الذي وقَع منه...".
ولا يستطيعُ عبدالقاهر أنْ يرفُض هذا الرأي، ولكنَّه يُعقِّب عليه بقوله:
"فهذا جيِّدٌ بالغٌ، إلاَّ أنَّ الشأن في أنَّه ينبغي أنْ يعرف في كلِّ شيء قُدِّمَ في موضعٍ من الكلام مثل هذا المعنى، ويُفسر وجه العناية فيه هذا التفسير"؛ ("الدلائل" ص84).
على أنَّ عبدالقاهر لم يلبَثْ أنْ خَطَّأ أبا سعيدٍ السيرافي في تقسيمِه التقديمَ إلى: ما كان للعناية والاهتِمام، وما كان للتوسعة على الشاعر أو الأديب؛ كي تطَّرد لهما السَّجعة والقافية - دون أنْ يَذكُر اسم أبي سعيد - مع أنَّه يردُّ عليه رأيَه ويُخطِّئه فيه، فيقول: "واعلم أنَّه من الخطأ أنْ يُقسَّم الأمرُ في تقديم الشيء وتأخيره قسمين؛ فيُجعَل مفيدًا في بعض الكلام، وغير مفيدٍ في بعضٍ، وأنْ يُعلَّل تارةً بالعناية، وأخرى بأنَّه توسعةٌ على الشاعر والكاتب؛ حتى تطَّردَ لهذا قوافيه، ولذاك سَجْعُهُ؛ ذلك لأنَّ من البعيد أنْ يكون في جملة النَّظم ما يدلُّ تارةً ولا يدلُّ أخرى، فمتى ثبَت في تقديم المفعول - مثلاً - على الفعل في كثيرٍ من الكلام أنَّه قد اختصَّ بفائدةٍ لا تكون تلك الفائدة مع التأخير، فقد وجَب أنْ تكون تلك قضيَّة في كلِّ شيءٍ وعلى كلِّ حالٍ، ومن سبيل مَن يجعلُ التقديم وترْك التقديمِ سواء أنْ يدَّعِي أنَّه كذلك في عُموم الأحوال، فأمَّا أنْ يجعَلَه شريجَيْن، فيزعُم أنَّه للفائدة في بعضها، وللتصرُّف في اللفظ من غير معنًى في بعض، فممَّا ينبغي أنْ يُرغَب عن القول به"؛ "الدلائل 106 - 111؛ تحقيق: محمود محمد شاكر".
وإذا كان هذا الكلام صريحًا في أنَّ عبدالقاهر قد قصَد أبا سعيدٍ السيرافي - فإنَّ هناك من كلام أبي سعيدٍ ما يُؤكِّد هذا الذي رأيناه من أنَّ عبدالقاهر يَرُدُّ بهذا القولِ على أبي سعيدٍ السيرافي، وهو أنَّ أبا سعيدٍ كان يرى أنَّ العرَب كانت تُقدِّم وتُؤخِّر للتوسُّع في الكلام، وذلك حيث يقول: "وذلك أنَّا قد بَيَّنَّا أنَّ العرب لحاجتها إلى اتِّفاق القَوافي في شِعرها، وانتظام السَّجع في خُطَبها وكَلامها، جعَلُوا الإعرابَ دالاًّ على مَعانِيها باختلاف الحركات، فقدَّموا وأخَّروا للتوسُّع في الكلام"؛ "شرح كتاب سيبويه"؛ للسيرافي (2/72).
وهكذا تجد أنَّ عبدالقاهر قد أخَذ فكرةَ النَّظم من مناظرة أبي سعيدٍ السيرافي، واستَعان على إثباتها بما كتَبَه السيرافي نفسُه في شرحه لكتاب سيبويه، بل ناقَشَ السيرافيَّ في آراءٍ بلاغيَّة نقديَّة، قبل بعضها ورفض بعضها الآخَر، ولكنَّه لم يشأ أنْ يُفصِحَ عن اسم السيرافي، على الرغم من أنَّه قد ذكَر غيره من العُلَماء الذين عاصَرُوا السيرافي، أو سبَقُوه، أو لحقوا به؛ كسيبويه، والجاحظ، وثعلب، والأخفش، وأبي عليٍّ الفارسي، والقاضي أبي الحسن علي بن عبدالعزيز الجرجاني.
والسرُّ في ذلك أوضح من أنْ يُذكَر، وهو أنَّ عبدالقاهر قد أراد أنْ تسلَمَ له نظريَّة النَّظم، فلا يُذكر إلاَّ بها، ولا تُذكَر إلا به، وقد كان له ما أراد، فما من بلاغيٍّ أو ناقدٍ أدبي يَذكُر النَّظمَ إلا ويَذكُر عبدالقاهر، أو يَذكُر عبدَالقاهر إلا ويَذكُر النَّظم!
ولهذا؛ فإنَّني قد رأيت أنَّه من الإنصاف للحقيقة وللتاريخ أنْ أكتُب هذه الصفحات مُرْجِعًا الفضل إلى أهلِه، ومُبيِّنًا المنابع الحقيقيَّة التي استَقَى منها عبدالقاهر الجرجانيُّ أفكارَ كتابِه "دلائل الإعجاز"، بعد أنْ ظلَّت تلك المنابع قُرونًا عديدةً في زَوايا الإهمال، وخَبايا النِّسيان!
وإذا ما تتبَّعنا الأفكارَ التي قامَتْ عليها مُناظرة أبي سعيدٍ السيرافي[8]، والأفكار التي قام عليها "دلائل الإعجاز"، لوجدنا أفكارَ "الدلائل" قد رُتِّبت على حسَب ترتيب أفكار المناظرة، على النحو التالي:
(1) كان أبو سعيد السيرافي يردُّ على المناطقة الذين ادَّعوا على النحويين أنهم مع اللفظ لا مع المعنى، وأنَّ عِلم النحو لا جَدوى منه، وأنَّ النحويَّ في حاجةٍ إلى المنطق دون حاجة المنطقي إلى النحو.
(1) وبدأ عبدالقاهر في "الدلائل" يَرُدُّ على مَن زَهَّد في النحو من المعتزلة الذين حاوَلُوا تفسير القُرآن وتأويله، مع ادِّعائهم أنَّ المزيَّة في الفصاحة ترجعُ إلى اللفظ لا إلى المعنى.
(2) صحيحُ الكلام من سقيمه يُعرَف بالنَّظم المألوف، والإعراب المعروف؛ فهو كالميزان.
(2) صحيحُ الكلام من سقيمه يُعرَف بالإعراب، فهو كالمعيار.
(3) المناطقة محتاجون إلى اللغة، المكوَّنة من الاسم، والفعل، والحرف.
(3) المدخل إلى "دلائل الإعجاز" هو: أنَّ الكلام ينقسمُ إلى اسم، وفعل، وحرف.
(4) وهم محتاجون إلى رصفها، وبنائها على الترتيب الواقع في غَرائز أهلها.
(4) عمليةُ النظم تتمُّ بانتِقاء الألفاظ، ثم ترتيبها في النُّطق على حسَب ترتيبها في النفس.
(5) وقد ظنُّوا أنَّ المعاني لا تُعْرَفُ إلا عن طريق المنطق، مع أنَّ معاني النحو منقسِمة بين حركات اللفظ وسَكناته، وبين وضع الحروف في مَواضعها المقتضية لها، وبين تأليف الكلام بالتقديم والتأخير، وتوخِّي الصواب في ذلك، وتجنُّب الخطأ من ذلك.
(5) وقد عرَّف عبدالقاهر الجرجاني النَّظم الذي أدارَ عليه كتابه "دلائل الإعجاز" بأنَّه توخِّي مَعانِي النحو فيما بين الكلم على حسَب الأغراض التي يُسَاقُ لها الكلام، وكرَّره أكثر من خمسين مرَّة.
(6) تشبيه النظم بالنسج؛ ففيه تخيُّر وإعمال فِكر؛ إذ الكلام كالثوب، والنظم كالنسج، والمعاني كالسدى، والألفاظ كاللحمة، ورقَّة اللفظ كرقَّة سلكه، وغلظه ككثافة غَزله، وبلاغته كقصارته.
(6) معاني النحو كالأصباغ التي تُعمل منها الصور والنُّقوش في الثوب، بالتخيُّر والتدبُّر فيها، وفي مَواقِعها ومَقاديرها، وكيفيَّة مزجِه لها.
(7) نظريَّة البَيان عند أبي سعيدٍ السيرافي هي - في عبارةٍ مختصرةٍ -: "حقائق الأشباه، وأشباه الحقائق".
(7) نظريَّة البيان عند عبدالقاهر - في عبارةٍ مختصرة -: "المعنى، ومعنى المعنى".
(8) قال أبو سعيدٍ السيرافي لمتَّى بن يونس:
"أتراك بقوَّة المنطق وبرهانه قد اعتقدت أنَّ الله ثالث ثلاثة؟!"؛ أي: إنَّ المنطق لم يحمِكَ من أنْ تعتقد أنَّ الله ثالث ثلاثة.
(8) قدْ تَزِلُّ قدمُ المفسِّر للقُرآن الكريم - إذا لم يكن على درايةٍ بعلم النحو - لأنَّ من الآيات ما يحتملُ أكثر من تأويلٍ كما في قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ ﴾ [النساء: 171].
هذا، وبقيَّة الدلائل تطبيقٌ لنظريَّة النَّظم، وتأكيدٌ على صحَّتها بالأدلَّة تِلْوَ الأخرى.
وعلى أيَّة حال، فقد أراد عبدالقاهر أنْ يَرُدَّ على المعتزِلة الذين يُزهِّدون في علم النحو، بل في الشعر، ويعتمدون في تفسيرهم وتأويلهم لكتاب الله تعالى على العقل واللغة، ومعرفةٍ قليلةٍ بصحَّة الكلام وسلامته من اللحن، فقصَد كتاب "الإمتاع والمؤانسة"؛ لأبي حيان التوحيدي؛ ليطَّلع فيه على مناظرة أبي سعيد السيرافي التي ردَّ فيها على متَّى بن يونس المنطقي الذي كان يرفَعُ من شأن المنطق ويحقرُ من شأن النحو، والتي أفحَم فيها متَّى بنَ يونس، وبَيَّن له أنَّ اتِّباعه للمنطق قد أضلَّه ولم يحمِه من أنْ يعتقدَ أنَّ اللهَ ثالثُ ثلاثةٍ؛ ومعنى ذلك: أنَّه لو عرف أسرار النَّظم في اللغة العربيَّة لتبيَّنت له دلائلُ الإعجاز في القُرآن الكريم، ولآمَن برسالة محمدٍ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلم يعتقدْ أنَّ الله ثالثُ ثلاثةٍ؛ فجعل عبدالقاهر عنوان رَدِّه على المعتزلة: "دلائل الإعجاز"؛ ليبيِّن لهم هو الآخَر أنَّ إعراضهم عن النحو والشعر إعراضٌ عن الجهة التي منها تأتي دلائلُ الإعجاز، وفي ذلك ما فيه من خطرٍ على دِينهم؛ لأنهم يكونون في معنى الصادِّ عن سبيل الله!
وليبيِّن لهم - أيضًا - أنَّ تفسيرَهم للقُرآن الكريم بعيدًا عن وحْي معاني النحو فيما بين الكلم - قد يُؤدِّي بالمفسِّر منهم إلى أنْ تزلَّ قدَمُه في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ ﴾ [النساء: 171]؛ لأنهم قدَّروا المعنى: ولا تقولوا: آلهتنا ثلاثة! وفي ذلك ما فيه من شبه إثبات الآلهة - والعياذ بالله[9].
ولهذا؛ فإنَّه - في خطبة "الدلائل" - قد استَعاذ بالله تعالى من قولٍ يرفُضه أبو سعيدٍ السيرافي، ومن صَنِيعٍ دأب عليه متَّى بن يونس، فقد شبَّه أبو سعيدٍ القول بالثوب، وقال: إنَّ سُدَاته لا تَكفِي دون لحمته، ولحمته لا تكفي دُون سُداته، ووصف صَنِيع متَّى بن يونس - في مجادلته بالباطل - بأنَّه تمويهٌ، قائلاً: "ولقد موَّهت بهذا المثال، ولكُمْ عادة بمثل هذا التَّموِيه"، فقال عبدالقاهر - مستعيذًا بالله تعالى من هذين الأمرين -: "ونعوذُ بالله من أن ندَّعي العلم بشيءٍ لا نعلَمُه، وأنْ نُسَدِّي قولاً لا نلحمه.. وأنْ يكون سبيلنا سبيل من يعجبه أنْ يُجادِل بالباطل، ويُمَوِّهَ على السامع".
ولأنَّه قد تتبَّع أفكار المناظرة فكرةً بعد الأخرى؛ ليشرحها ويرد بها على المعتزلة، فإنَّه لم يجعَلْ طريقته في "دلائل الإعجاز" طريقةَ كتابٍ تُعَدُّ أفكارُه وتُنظَم، وإنما جاء به على طريقة المناظرة، وهذا هو السرُّ في أنَّه يقول - في أوائل "الدلائل" -: "وليس يتأتَّى لي أنْ أُعْلِمك من أوَّل الأمر - في ذلك - آخِرَه، وأنْ أُسمِّي لك الفصول التي في نيَّتي أنْ أُحرِّرها بمشيئة الله - عزَّ وجلَّ - حتى تكون على علمٍ بها قبل مَوْردِها عليك، فاعمل على أنَّ هاهنا فُصولاً يجيءُ بعضها في إثْر بعض"[10].
وبعدُ، فلعلِّي بهذا أكونُ قد أرجَعتُ الفضلَ إلى أهله، وأزَحتُ السِّتار عن حقيقةٍ غابَتْ عن الأذهان قُرونًا عديدةً، فالحمد لله الذي هَدانا لهذا، وما كُنَّا لنهتَدِي لولا أنْ هدانا الله.
[1] دار الطباعة المحمدية بالقاهرة، برقم إيداع بدار الكتب المصرية (4056/1991م).
[2] "الدلائل" (204).
[3] "الدلائل" (328).
[4] "الدلائل" (373، 374).
[5] "تاريخ علوم البلاغة"؛ للمراغي (54، 55)، و"الكتاب"؛ لسيبويه (1/169).
[6] "دلائل الإعجاز"؛ تعليق: السيد محمد رشيد رضا (223، 234، 235).
[7] "شرح كتاب سيبويه"؛ للسيرافي (2/274).
[8] راجع مناظرة أبي سعيد السيرافي في كتاب "الإمتاع والمؤانسة"؛ لأبي حيان التوحيدي؛ تحقيق: الأستاذ أحمد أمين (1/107 - 128).
[9] "دلائل الإعجاز" (383)؛ تعليق: محمود محمد شاكر.
[10] "دلائل الإعجاز" (42).