من كانت الآخرة همه
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وبعد:
فقد روى الترمذي رحمه الله عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كانتِ الآخرةُ هَمَّهُ جعلَ اللَّهُ غناهُ في قلبِهِ وجمعَ لَه شملَهُ وأتتهُ الدُّنيا وَهيَ راغمةٌ ، ومن كانتِ الدُّنيا همَّهُ جعلَ اللَّهُ فقرَهُ بينَ عينيهِ وفرَّقَ عليهِ شملَهُ ، ولم يأتِهِ منَ الدُّنيا إلَّا ما قُدِّرَ لَهُ».
ففي هذا الحديث يرشد النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى جعل الآخرة أكبر الهم بحيث لا يطغى حب الدنيا والانشغال بها على القلوب فتكون الدنيا هي أكبر الهم.
فمن كانت الآخرة همه: أي أهم ما يشغله، وكانت هي قصده في عمله وحياته، وليس المقصود أنه يترك أمر الدنيا بالكلية؛ لأنه لابد له من الاشتغال بأمور الدنيا من سعي في طلب الرزق وقيام بأمر نفسه وزوجه وأولاده وغير ذلك من أمور الدنيا.. لكنه في غالب أموره يشتغل بالآخرة، بل في أمور الدنيا يجاهد نفسه على نية ونوايا صالحة يفوز منها بأجور عظيمة فيكون غالب همه الآخرة.
وقد كان من دعاء النبي: «ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تسلط علينا من لا يرحمنا».
فمن كانت الآخرة همه ونيته جعل الله غناه في قلبه، وأعظم ذلك ياعباد الله أن يرزقه القناعة فيكفيه هم الدنيا ولو بالقليل ويجعله قانعا مكتفيا، ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم قنعني بما رزقتني». وكان يقول: «قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه».
ومثل هذا لا يستذل ولا يتلاعب به فهو حر عزيز؛ لأن الدنيا عنده ليست ذات قيمة وإنما يستذل الناس من قبل حبهم للدنيا.
قال الحسن رحمه الله: أدركت أقواما ما كانوا يفرحون بشيء من الدنيا أقبل، ولا يتأسفون على شيء منها أدبر، لهي كانت أهون في أعينهم من التراب.
والحق ياعباد الله أن الغنى ليس بكثرة المال، وإن كان هو عند الناس الغني، ولكن الغني الحقيقي هو غنى النفوس وقناعة القلوب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس».
وبهذا يضمن العبد الحياة الطيبة التي قال الله تعالى فيها: {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة}. وقد ذكر بعض المفسرين أنها حياة القناعة.
وجمع له شمله: يعني أموره المتفرقة، فيجعل خاطره مجتمعا غير متفرق وقلبه هادئا ونفسه ساكنة وعيشه هنيئا.. فيكون في سرور وراحة بال، يجمع عليه الأهل والأبناء والجيران؛ لأن مَن كانت الآخرة نيته وهمه فهو ممن أحبهم الله تعالى، ومن أحبه الله وضع له المحبة في قلوب الخلق وجعل له القبول في الأرض كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أحَبَّ اللَّهُ العَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فأحْبِبْهُ، فيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فيُنَادِي جِبْرِيلُ في أهْلِ السَّمَاءِ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فأحِبُّوهُ، فيُحِبُّهُ أهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ له القَبُولُ في الأرْضِ. ومن كرامته على الله تعالى لا يشتت خاطره في أمور الدنيا ومشاكلها وشواغلها الكثيرة».
وييسر له أموره كلها، ويجعل له من كل ضيق فرجا ومن كل هم مخرجا لأن من كانت الآخرة أكبر همه كان من المتقين، والله يقول: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب} ، {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا}.
وأتته الدنيا وهي راغمة: ليكن معلوما أن من انشغل بالدنيا أو انشغل بالآخرة يأتيه من الدنيا ما كتب له..
لكن من كانت الآخرة أكبر همه تأتيه الدنيا وهي ذليلة؛ لأنه غير متعلق بها ولا متطلع إليها. بل ما أتاه شكر الله عليه واستعمله فيما يحل، وما فاته منها لم يحزن عليه لأنه يعلم أنه ليس له؛ لهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أيها الناس اتقو الله وأجملوا في الطلب فإن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل ودعوا ما حرم». أي اطلبوا الرزق طلبا رفيقا من طريق حلال، ولا تبتغوا الرزق بالحرام.
والله عز وجل يقول: {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا} قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: (أي : استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة، في طاعة ربك والتقرب إليه بأنواع القربات ، التي يحصل لك بها الثواب في الدار الآخرة. {ولا تنس نصيبك من الدنيا} أي : مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح ، فإن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، ولزورك عليك حقا، فآت كل ذي حق حقه).
وقد ورد عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {ولا تنس نصيبك من الدنيا} أنه رضي الله عنه قال: أن تعمل فيها لآخرتك. وقال عون بن عبد الله: إن قوما يضعونها على غير موضعها. ولا تنس نصيبك من الدنيا: تعمل فيها بطاعة الله.
فالآية ترشدك إلى تغليب الآخرة على الدنيا وخصوصا عند التعارض.
فيا أيها الحبيب اجعل غالب همك الآخرة يكفيك الله تعالى أمر الدنيا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَن جعلَ الهمومَ همًّا واحدًا ، همَّ آخرتِهِ ، كفاهُ اللَّهُ همَّ دُنْياهُ».
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
منقول