فتنة تثور 1
خالد سعد النجار
{بسم الله الرحمن الرحيم }
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، حَدَّثَنِي هَرَمِيُّ بْنُ الْحَارِثِ، وَأُسَامَةُ بْنُ خُرَيْمٍ، قَالَ: « كَانَا يُغَازِيَانِ فَحَدَّثَانِي وَلَا يَشْعُرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ صَاحِبَهُ حَدَّثَنِيهِ، عَنْ مُرَّةَ الْبَهْزِيِّ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: (كَيْفَ تَصْنَعُونَ فِي فِتْنَةٍ تَثُورُ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ كَأَنَّهَا صَيَاصِي الْبَقَرِ؟) [يريد لتشابهها بعضا] قَالُوا: نَصْنَعُ مَاذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: (عَلَيْكُمْ بِهَذَا وَأَصْحَابِهِ)، قَالَ فَأَسْرَعْتُ حَتَّى عَطَفْتُ إِلَى الرَّجُلِ، قُلْتُ: هَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: (هَذَا) فَإِذَا هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ » [صحيح ابن حبان وصححه الألباني وشعيب الأرناؤوط]
«وروى أحمد بسند رواته ثقات عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا قُتِلَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ دَخَلَ عَمْرُو بْنُ حَزْمٍ عَلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ قُتِلَ عَمَّارٌ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ) فَقَامَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَزِعًا يُرَجِّعُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ مَا شَأْنُكَ قَالَ قُتِلَ عَمَّارٌ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ قَدْ قُتِلَ عَمَّارٌ فَمَاذَا؟ قَالَ عَمْرٌو سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ) فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: دُحِضْتَ فِي بَوْلِكَ [زلقت في بولك] أَوَ نَحْنُ قَتَلْنَاهُ إِنَّمَا قَتَلَهُ عَلِيٌّ وَأَصْحَابُهُ جَاءُوا بِهِ حَتَّى أَلْقَوْهُ بَيْنَ رِمَاحِنَا أَوْ قَالَ بَيْنَ سُيُوفِنَا »
وروى أحمد عن عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ يُحَدِّثُ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ أَهْدَى إِلَى نَاسٍ هَدَايَا فَفَضَّلَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ فَقِيلَ لَهُ فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «(تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ)»
لذلك كان حري بعمرو أن يخطط لإنهاء المعركة بعد هذا الحدث الجلل وتفتق ذهنه العبقري عن فكرة إرسال المصحف إلى سيدنا علي -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- والاحتكام إلى كتاب الله تعالى.
روى الإمام أحمد عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ أَتَيْتُ أَبَا وَائِلٍ فِي مَسْجِدِ أَهْلِهِ أَسْأَلُهُ عَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ عَلِيٌّ بِالنَّهْرَوَان ِ فَفِيمَا اسْتَجَابُوا لَهُ وَفِيمَا فَارَقُوهُ وَفِيمَا اسْتَحَلَّ قِتَالَهُمْ، قَالَ: كُنَّا بِصِفِّينَ فَلَمَّا اسْتَحَرَّ الْقَتْلُ بِأَهْلِ الشَّامِ اعْتَصَمُوا بِتَلٍّ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِمُعَاوِيَةَ أَرْسِلْ إِلَى عَلِيٍّ بِمُصْحَفٍ وَادْعُهُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَنْ يَأْبَى عَلَيْكَ فَجَاءَ بِهِ رَجُلٌ فَقَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ { {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} } [آل عمران:23] فَقَالَ: عَلِيٌّ نَعَمْ أَنَا أَوْلَى بِذَلِكَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّه.
وروى عبد الرزاق في مصنفه: فلما اجتمع الحكمان وتكلما خاليين .. فقال عمرو: قد أخلصت أنا وأنت أن نسمي رجلا يلي أمر هذه الأمة، فسم يا أبا موسى فإني أقدر على أن أبايعك منك على أن تبايعني، فقال أبو موسى أسمي عبد الله بن عمر بن الخطاب -وكان عبد الله بن عمر بن الخطاب فيمن اعتزل- فقال عمرو فأنا أسمي لك معاوية بن أبي سفيان.
فلم يبرحا من مجلسهما ذلك حتى اختلفا واستبا ثم خرجا إلى الناس ثم قال أبو موسى يا أيها الناس إني قد وجدت مثل عمرو بن العاص مثل الذي قال الله تبارك وتعالى: { {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} } [الأعراف:175] حتى بلغ { {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} }
وقال عمرو بن العاص: يا أيها الناس إني قد وجدت مثل أبي موسى مثل الذي قال الله تبارك وتعالي: { {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} } [الجمعة:5] حتى بلغ { {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} } ثم كتب كل واحد منهما بالمثل الذي ضرب لصاحبه إلى الأمصار.
يقول الأستاذ منير الغضبان: ولا نعرف في الحقيقة علام اختلف الحكمان حتى استبا .. إن الجو المشحون بالتوتر قاد إلى هذه الآراء التي صدرت عن كل صحابي في صاحبه ويحسن أن يكون واضحا في ذهننا أن ما وراء النص يوحي بالقصد المباشر منه، فعمرو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يرى في أبي موسى القارئ المتقن لكتاب الله لا يحسن العمل بما فيه، فيصر على رجل من المعتزلة للفتنة من جماعته وهو لا يريد الخلافة، وأبو موسى -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يرى في عمرو أنه تخلى عن مسئوليته الإسلامية حين يصر على معاوية وخلافته وهو أحد الخصمين المتنازعين.
وقد لخص ابن كثير في البداية والنهاية ما اقتنع به من خلال الروايات فقال: فلما اجتمع الحكمان تراوضا على المصلحة للمسلمين، ونظرا في تقدير أمور ثم اتفقا على أن يعزلا عليا ومعاوية ثم يجعلا الأمر شورى بين الناس ليتفقوا على الأصلح لهم منهما أو من غيرهما، وقد أشار أبو موسى بتولية عبد الله بن عمر بن الخطاب، فقال له عمرو: فول ابن عبد الله [أي ابن عمرو بن العاص] فإنه يقاربه في العلم والعمل والزهد.
فقال له أبو موسى: إنك قد غمست ابنك في الفتن معك، وهو مع ذلك رجل صدق.
أما خليفة بن خياط الحافظ المحدث الثقة فيقول: فيها [يعني سنة سبع وثلاثين] اجتمع الحكمان أبو موسى الأشعري من قبل علي، وعمرو بن العاص من قبل معاوية، بدومة الجندل في شهر رمضان -ويقال بأذرح وهي من دومة الجندل قريبا- وبعث علي ابن عباس ولم يحضر، وحضر معاوية فلم يتفق الحكمان على شيء، وافترق الناس، وبايع أهل الشام معاوية بالخلافة في ذي القعدة سنة سبع وثلاثين.
وأخرج البخاري في (التاريخ الكبير) بسند صحيح، أن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- لما جاء التحكيم التقى مع أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- فقال له: ما ترى في هذا الأمر؟
قال: «أرى أنه في النفر الذين توفي رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو عنهم راض» [أي علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ].
فقال عمرو بن العاص -رضي الله عنه-: «فأين تجعلني من هذا الأمر أنا ومعاوية؟».
قال: «إن يُستَعِن بكما ففيكما معونة، وإن يستغن عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما».
ثم انتهى الأمر على هذا فرجع عمرو بن العاص إلى معاوية -رضي الله عنهما- بهذا الخبر، ورجع أبو موسى الأشعري إلى عليٍّ -رضي الله عنهما-.
وروى البخاري عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ [أم المؤمنين بنت عمر بن الخطاب، وأخت عبد الله] وَنَسْوَاتُهَا تَنْطُفُ [ضفائرها تقطر ماء، كأنها كانت قد اغتسلت] قُلْتُ قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ مَا تَرَيْنَ، فَلَمْ يُجْعَلْ لِي مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ [أي الإمارة والملك] فَقَالَتْ الْحَقْ فَإِنَّهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ ، وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ فِي احْتِبَاسِكَ عَنْهُمْ فُرْقَةٌ، فَلَمْ تَدَعْهُ حَتَّى ذَهَبَ، فَلَمَّا تَفَرَّقَ النَّاسُ خَطَبَ مُعَاوِيَةُ [معرّضًا بابن عمر وأبيه] قَالَ مَنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي هَذَا الْأَمْرِ فَلْيُطْلِعْ لَنَا قَرْنَهُ [رأسه، أي فليظهر لنا نفسه ولا يخفيها] فَلَنَحْنُ أَحَقُّ بِهِ [أي أمر الخلافة] مِنْهُ وَمِنْ أَبِيهِ. قَالَ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ: فَهَلَّا أَجَبْتَهُ [وكأن كلام معاوية تعريضا بعد الله بن عمر وأبيه] قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَحَلَلْتُ حُبْوَتِي [احتبى الرجل إذا جمع ظهره وساقيه] وَهَمَمْتُ أَنْ أَقُولَ: أَحَقُّ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْكَ مَنْ قَاتَلَكَ وَأَبَاكَ عَلَى الْإِسْلَامِ. فَخَشِيتُ أَنْ أَقُولَ كَلِمَةً تُفَرِّقُ بَيْنَ الْجَمْعِ وَتَسْفِكُ الدَّمَ وَيُحْمَلُ عَنِّي غَيْرُ ذَلِكَ [أي: ما لم أرده] فَذَكَرْتُ مَا أَعَدَّ اللَّهُ فِي الْجِنَانِ [يعني لمن صبر واختار الآخرة على الدنيا] قَالَ حَبِيبٌ: حُفِظْتَ وَعُصِمْتَ [أي استصوب حبيب رأيه]
قوله: "قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ مَا تَرَيْنَ" أراد به ما وقع بين علي ومعاوية من القتال في صفين واجتماع الناس على الحكومة بينهم فيما اختلفوا فيه فراسلوا بقايا الصحابة من الحرمين وغيرهما وتواعدوا على الاجتماع لينظروا في ذلك فشاور ابن عمر أخته حفصة في التوجه إليهم أو عدمه فأشارت عليه باللحوق بهم خشية أن ينشأ من غيبته اختلاف يفضي إلى استمرار الفتنة.
قوله: "فَلَمَّا تَفَرَّقَ النَّاسُ" أي بعد أن اختلف الحكمان وهما أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص.
قوله: "مَنْ قَاتَلَكَ وَأَبَاكَ عَلَى الْإِسْلَامِ" فإن عليا رضي الله تعالى عنه قاتل معاوية ووالده أبا سفيان يوم أحد ويوم الخندق، وكانا كافرين في ذلك الوقت وإنما أسلما يوم الفتح.
ولعل معاوية كان رأيه في الخلافة تقديم الفاضل في القوة والمعرفة والرأي على الفاضل في السبق إلى الإسلام والدين، فلذا أطلق أنه أحق، ورأى ابن عمر خلاف ذلك أنه لا يبالغ المفضول إلا إذا خشي الفتنة، ولذا بايع بعد ذلك معاوية ثم ابنه يزيد ونهى بنيه عن نقض بيعته.