تعريف الحداثة
محمود الدوسري
تعريف "الحداثة" لغة:
"الحداثة" مصدر للفعل حَدَثَ يَحْدُثُ حُدُوثًا وحَدَاثَةً، ومن أهم معانيه اللغوية:
1- الجديد، وهو ضد القديم.
2- الكلام والخبر.
ولم يرد لفظ "الحداثة" في القرآن الكريم، وإنما ورد في السُّنة النبوية في مواضع قليلة، ومن أشهرها:
1- ما جاء عن عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «لَوْلاَ حَدَاثَةُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ؛ لَنَقَضْتُ الْبَيْتَ، ثُمَّ لَبَنَيْتُهُ عَلَى أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، فَإِنَّ قُرَيْشًا اسْتَقْصَرَتْ بِنَاءَهُ، وَجَعَلْتُ لَهُ خَلْفًا» [1])[2].
2- ما جاء عن عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها تَقُولُ: (مَاتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، وَفِي دَوْلَتِي لَمْ أَظْلِمْ فِيهِ أَحَدًا، فَمِنْ سَفَهِي وَحَدَاثَةِ سِنِّي؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُبِضَ وَهُوَ فِي حِجْرِي، ثُمَّ وَضَعْتُ رَأْسَهُ عَلَى وِسَادَةٍ، وَقُمْتُ أَلْتَدِمُ مَعَ النِّسَاءِ وَأَضْرِبُ وَجْهِي)[3].
ونلحظ أنَّ لفظة "الحداثة" لفظةٌ أصِيلةٌ في معاجم اللغة العربية، وجاءت استعمالاتها في "الحديث النبوي" بمعنى عدم الخبرة في الحياة؛ بسبب صِغَرِ السِّن أو قُرب العهد، ولكنها انتقلت من المعنى اللغوي المعهود في خطاب العرب إلى معنًى اصطلاحي جديد مدلوله دخيلٌ على اللغة العربية[4].
تعريف "الحداثة" اصطلاحًا:
مصطلح الحداثة من المصطلحات التي دار حولها خلاف كبير في تعريفها وتحديد مدلولها؛ لذا تعدَّدت تعريفاتها وكثرت بحيث نكاد نجزم أنه لا يكاد يتَّفق اثنان على تعريفٍ واحد لها، وإنما أخذ كلُّ متصدٍّ لتعريفها ومدَّعٍ لتبني مشروعها منها ما يلائم فنَّه أو علمه أو موقفه الشخصي وآرائه الذاتية، وهذا واضح في أنَّ كلَّ فنٍّ من الفنون وعلمٍ من العلوم الإنسانية (اللغة - الأدب - الأديان - الاجتماع - علم النفس - المنطق - الفلسفة - الإعلام ...) التي هي مجال فلسفة الحداثة - أصبح ينادي بالحداثة ويدعو إليها ويحثُّ عليها ويضع لها التعريفات والمفاهيم المناسبة.
وعلى هذا، فإنَّ معظم هذه التعريفات هي مجرد توصيفٍ للحداثة وشرح لها.
وما يعنينا هنا اتجاه بذاته من اتجاهات الحداثة، وهو هذا الاتجاه الذي نَصَّبَ نفسَه حاكمًا على التراث (بمفهومه ولفظه)، واتَّخذ منه عدوًّا؛ فأصبح يكيل له الاتهامات ويعمل على هدمه ونقضه، ومن أجْمَع التعريفات للحداثة من تلك الزاوية ما يلي:
1- (محاولة صياغة نموذج للفِكر والحياة، يتجاوز الموروث[5]، ويتحرَّر من قيوده[6]؛ لِيُحَقِّق تقدُّم الإنسان[7] ورُقِيَّه بعقله ومناهِجِه العَصْرية الغربية؛ لتطويع الكون لإرادته، واستخراج مُقدَّراته لخدمته)[8].
2- (محاولة الإنسان المعاصر رفض النَّمطِ الحضاري القائم، والنظامِ المعرفي الموروث، واستبدال نمطٍ - جديد مُعَلْمَن - تصوغه حصيلةٌ[9] من المذاهب والفلسفات الأوروبية المادية الحديثة به على كافة الأصعدة؛ الفنية والأدبية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية...)[10].
وقبل الخوض في غمار الحداثة والحداثيين العرب، وموقفهم من السنة النبوية الشريفة، لا بد من الإشارة إلى أنَّ الحداثة، وإن كانت من المصطلحات الجديدة التي لاقت رواجًا كبيرًا، وانتشارًا واسعًا، إلاَّ أنها ليست من نتاج هذا القرن، وإنما هي ضاربة بجذورها في القِدم، لا يكاد يخلو منها عصر من العصور، ولكن بأشكال مختلفة وأسماء أخرى، فعلى سبيل المثال لا الحصر، في مجال اللغة والأدب، في العصر العباسي دارت معارك طاحنة بين جيلين من الشعراء أو إن شئت فقل: بين اتجاهين من الشعر؛ اتجاه يميل إلى القديم وتقليده بقيَمه وتقاليده، واتجاه ينزع إلى الحديث والتجديد والثورة على القديم، وقد سمَّى النُّقاد هذه المعارك وعنونوا لها بالصراع بين القديم والحديث.
كذلك فإن مصطلح الحداثة مصطلح يفتقر إلى عنصر البقاء، إذ لا يلبث أن يتحوَّل هذا التحديث إلى ماضٍ، وهذا الحديث إلى قديم، فكل قديم بالنسبة إلى ما قبله فهو حديث، وهذا يؤدِّي بنا إلى الدخول في دوامةٍ من الحديث المتجدِّد باستمرار، حتى لا تكاد تستطيع أن تُواكِبَ الحديث أو الجديد.
وهذا بالفعل ما وقع على الحداثة؛ إذ إنها انتقلت إلى طور جديد هو (ما بعد الحداثة) وأصبح له من يؤطِّر له ويدعو إليه ويحث عليه، فأصبحت (الحداثة) بالنسبة إلى (ما بعد الحداثة) فكرة قديمة نسبيًا.
وتبقى نقطة في غاية الأهمية، وهي أن القديم والحديث لا يكتسب قيمته من مُجرَّد الاصطلاح عليه بالقِدم أو الحداثة، وإنما لا بد من وجود معايير وضوابط تضبط قيمة هذا القديم أو الحديث بصرف النظر عن عنصر الزمن، فربما سبق القديمُ الحديثَ في القِيمة؛ وفي الفكر وبُعد النظر. وهذه المعايير تحتاج إلى قدرٍ من الموضوعية والحيادية تجعل صاحبها على مسافة واحدة من القضايا المطروحة، بحيث يتخلَّص من الأحكام المسبقة أو القناعات الخاصة، ويترك البحث الموضوعي ليتحرك به إلى النتيجة، فلا يضع النتيجة قبل البحث، ولا يصوغ النهايات قبل البدايات.
الخلاصة: نخلص مما سبق إلى:
1- أن الحداثة من الألفاظ التي تطوَّرت تطوُّرًا دلاليًّا، من الحدث الذي لا يملك الخبرة في الحياة، إلى الحديث الذي يعني الكلام، إلى الحديث الذي يعني الجديد الذي هو ضد القديم، إلى الحداثة كمصطلح مستقل له أُطُرُه وفلسفته.
2- الحداثة مصدر للفعل: حدث، يحدث، حدوثًا، وهذا الفعل يدل على التجدد والاستمرار، أي أن الحداثة متجددة باستمرار بمضامين ومفاهيم جديدة، ولا يمكن أن تستقر أو تثبت على حالةٍ واحدة أو فكرة واحدة أو فلسفة واحدة.
3- أن الحداثة لا يمكن حصرها في مفهوم مُحدَّدٍ واضح المعالم، وإنما هي مجموعة من المُتَتَابِعات الوصفية التي تُشكِّل في مجموعها فكر الحداثة.
[1] (خَلْفًا): أي: بابًا.
[2] رواه البخاري، (1/ 299)، (ح 1610).
[3] رواه أحمد في (مسنده)، (6/ 274)، (ح 26348). وصحح إسناده الألباني في (إرواء الغليل)، (7/ 86).
[4] انظر: الحداثة وموقفها من السنة، د. الحارث فخري عيسى (ص 29).
[5] (الموروث): يُعرِّف الحداثيون العرب "التراثَ": بأنه كلُّ الموروث الثقافي؛ سواء ما كان بَشَرِيُّ المصدر، وما كان الوحيُ مصدرَه، فكلُّه - عند الحداثيين - موروثٌ ثقافي، وكثير من الحداثيين يتعاملون مع التراث "بِوَحْيِه وبَشَرِيَّتِه" على أنه "بَشَرِيُّ المصدر" ناتج عن تجربة بشرية محضة، وي الحداثيون - على سبيل المثال: بأنَّ الهالة للحديث إنما أضافها شعور الصحابة رضي الله عنهم بالمكانة العالية للنبي صلى الله عليه وسلم، لا لكون هذا الكلام وحيًا بذاته، بل صار كذلك بإنزال الناس له هذه المنزلة. انظر: التراث والحداثة دراسات ومناقشات، د. محمد عابد الجابري (ص 45)؛ بيان في النهضة والتنوير العربي، د. طيب تيزيني (ص 97)؛ الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، محمد أركون، ترجمة: هشام صالح، (ص 101).
[6] (القيود): هي أصول الإسلام وثوابته، والضوابط الشرعية.
[7] المقصود (بالإنسان): هو الإنسان الحداثي الذي يسعى للدخول إلى عالم الحداثة باستعماله لأساليبها، أمَّا باقي البشر - في مفهوم الحداثيين - فهم لا يَعْدُون أنْ يكونوا جزءًا من مقدَّرات الطبيعة التي يسعى الحداثي؛ لتسخيرها وتطويعها لخدمَتِه، وتحقيقِ رُقيِّه. وقد بلغت الأنانية عند الحداثيين إلى درجة حرمان باقي البشر من حق امتلاك ذات الأدوات المتاحة لهم؛ لأنهم - في نظر الحداثيين - لا يستحقُّون الحياة، فهم بشر من درجات متدنية، ولا يملكون "العقل الحداثي" لضبط تصرفاتهم. انظر: التراث والحداثة دراسات ومناقشات، (ص 49)؛ الحداثة وموقفها من السنة، (ص 36).
[8] الحداثة وموقفها من السنة، (ص 33).
[9] أي: خليط.
[10] الحداثة والنص القرآني، محمد رشيد ريان (ص 15).