حكم من كفر غيره وعقوبته
الشيخ أحمد الزومان
حكم من كفَّر غيرَهُ وعقوبته
من كفَّر غيره لا يخلو من حالين:
الحال الأولى: أن يكون متأولاً: فإذا كان من أهل العلم الذي يملك آلة الاجتهاد وكفر أحداً لأنَّ القول أو الفعل الذي صدر منه كفر ولم يظهر للمكفِّر أنَّ المكفَّر معذور بحيث يرى توفر شروط تكفيره وانتفاء الموانع فلا إثم عليه ولا عقوبة في الدنيا ولا في الآخرة.
الدليل الأول: في حديث علي في قصة حاطب بن أبي بلتعة قال عمر - رضي الله عنهم - دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنَّه قد شهد بدراً وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم » رواه البخاري (3007) ومسلم (2494).
قال ابن الجوزي في كشف المشكل (1/ 299) لم ينكر عليه الرسول صلى الله عليه وسلم لتأويله.
وقال الخطابي في معالم السنن (2/ 275) فيه دليل على أنَّ من كفر مسلماً أو نفَّقه على سبيل التأويل وكان من أهل الاجتهاد لم تلزمه عقوبة. ألا ترى أنَّ عمر رضي الله عنه قال دعني أضرب عنق هذا المنافق وهو مؤمن قد صدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ادعاه من ذلك ثم لم يعنف عمر فيما قاله. وذلك أنَّ عمر لم يكن منه عدوان في هذا القول على ظاهر حكم الدين إذ كان المنافق هو الذي يظهر نصرة الدين في الظاهر ويبطن نصرة الكفار وكان هذا الصنيع من حاطب شبيهاً بأفعال المنافقين إلا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنَّ الله تعالى قد غفر له ما كان منه من ذلك الصنيع وعفا عنه فزال عنه اسم النفاق والله أعلم.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (23 / 306) قول بعض أكابر الصحابة لبعض أكابرهم قدام النبي صلى الله عليه وسلم إنَّك منافق تجادل عن المنافقين. وقول القائل: دعني أضرب عنق هذا المنافق وليس ذلك بأعظم مما وقع بينهم من التأويل في القتال في الفتن... هذا الوعيد يندفع عنهم بالتأويل في الدماء فلأن يندفع بالتأويل فيما دون ذلك أولى وأحرى.
بل ذهب ابن القيم إلى أبعد من الجواز فقال في زاد المعاد (3 / 372) وفيها [قصة حاطب رضي الله عنه]: أنَّ الرجل إذا نسب المسلم إلى النفاق والكفر متأولاً وغضباً لله ورسوله ودينه لا لهواه وحظه، فإنَّه لا يكفر بذلك، بل لا يأثم به، بل يثاب على نيته وقصده، وهذا بخلاف أهل الأهواء والبدع، فإنَّهم يكفرون ويبدعون لمخالفة أهوائهم ونحلهم، وهم أولى بذلك ممن كفروه وبدعوه.
الدليل الثاني: في حديث عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك " فقام سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله عنه فقال يا رسول الله أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك قالت فقام سعد بن عبادة رضي الله عنه وهو سيد الخزرج، وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحمية فقال لسعد رضي الله عنه كذبت لعمر الله لا تقتله، ولا تقدر على قتله فقام أسيد بن حضير رضي الله عنه وهو ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة رضي الله عنه كذبت لعمر الله لنقتلنَّه فإنَّك منافق تجادل، عن المنافقين" رواه البخاري (4750) ومسلم (2770).
قال ابن بطال في شرحه للبخاري (8 / 41): لم يكن سعد منافقاً لكن مجادلته عنه استحل منه أسيد أن يرميه بالنفاق. وفيه: أنَّ الشبهة تسقط العقوبة كما سقط الحد، وتبيح العرض وتسقط الحرمة.
وقال ابن الملقن في التوضيح (31 / 579) لم يكن منافقاً، وعذر النبي صلى الله عليه وسلم أسيداً بالتأويل.
الدليل الثالث: عن جابر بن عبد الله أنَّ معاذ بن جبل، رضي الله عنهما، كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يأتي قومه فيصلي بهم الصلاة فقرأ بهم البقرة قال: فتجوز رجل فصلى صلاة خفيفة فبلغ ذلك معاذاً فقال إنَّه منافق فبلغ ذلك الرجل فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنَّا قوم نعمل بأيدينا ونسقي بنواضحنا وإنَّ معاذاً صلى بنا البارحة فقرأ البقرة فتجوزت فزعم أنَّي منافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا معاذ أفتَّان أنت؟ - ثلاثاً - اقرأ ﴿ والشمس وضحاها ﴾، و﴿ سبح اسم ربك الأعلى ﴾ ونحوها رواه البخاري (6106) ومسلم (465).
ذكر البخاري حديث جابر رضي الله عنه في (باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولاً أو جاهلاً).
قال ابن بطال في شرحه للبخاري (9/ 291) قال المهلب: معنى هذا الباب أنَّ المتأول معذور غير مأثوم، ألا ترى أنَّ عمر بن الخطاب قال لحاطب لما كاتب المشركين بخبر النبى صلى الله عليه وسلم إنَّه منافق، فعذر النبي عليه السلام عمر لما نسبه إلى النفاق، وهو أسوأ الكفر، ولم يكفر عمر بذلك من أجل ما جناه حاطب، وكذلك عذرا عليه السلام معاذاً حين قال للذي خفف الصلاة وقعطها خلفه إنَّه منافق ؛ لأنَّه كان متأولاً فلم يكفر معاذ بذلك.
وقال العيني في عمدة القاري (32 / 301) مطابقته للترجمة من حيث إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم عذر معاذاً في قوله إنَّه منافق لأنَّه كان متأولاً وظنَّ أنَّ التارك للجماعة منافق.
الدليل الرابع: في حديث عتبان رضي الله عنه " فقال قائل منهم أين مالك بن الدخشن فقال بعضهم ذلك منافق لا يحب الله ورسوله قال النبي صلى الله عليه وسلم: « لا تقل ألا تراه قال: لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله » قال الله ورسوله أعلم قال قلنا فإنَّا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين " رواه البخاري (5401) ومسلم (33).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (7/ 523) لهذه الشبهة سمى عمر حاطباً منافقاً... فكان عمر متأولاً في تسميته منافقاً للشبهة التي فعلها. وكذلك قول أسيد بن حضير لسعد بن عبادة...هو من هذا الباب. وكذلك قول من قال من الصحابة عن مالك بن الدخشم: منافق وإن كان قال ذلك لما رأى فيه من نوع معاشرة ومودة للمنافقين.
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين (4/ 69) لم يؤاخذ النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب حين رمى حاطب بن أبي بلتعة المؤمن البدري بالنفاق لأجل التأويل، ولم يؤاخذ أسيد بن حضير بقوله لسعد سيد الخزرج: إنَّك منافق تجادل عن المنافقين لأجل التأويل، ولم يؤاخذ من قال عن مالك بن الدخشم: ذلك المنافق نرى وجهه وحديثه إلى المنافقين لأجل التأويل.
الحال الثانية: أن يكون معتدياً: فهو آثم متعرض للعقوبة الأخروية:
الدليل الأول: عن أبي ذر، رضي الله عنه، أنَّه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول « لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق، ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك » رواه البخاري (6054) ومسلم (61).
الدليل الثاني: عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « أيما امرئ قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه » رواه البخاري (6104) ومسلم (60) واللفظ له.
قال القاضي عياض في إكمال المعلم (1/ 317) قال ابن أبى زمنين: أصل باء في اللغة: رجع، ولا يقال: باء إلا بشر، ذكره في تفسير قوله تعالى: ﴿ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَب ﴾ وأما قوله: « إلا حار عليه » فمعناه: رجع عليه، والحور الرجوع، ومنه قوله تعالى:﴿ إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ ﴾، فيكون باء هاهنا بمعنى رجع، كما جاء في الحديث نفسه.
وقال ابن الملقن في التوضيح (28/ 473) يفرق بين أن يقوله له بتأويل أو بدونه هذا إذا قاله من غير تأويل، وإن كان المقول له من أهل الكفر، وإلا باء بها القائل في هذا نحو تأويل البخاري.
وقال النووي في شرحه لمسلم (2/ 50) معناه رجعت عليه نقيصته لأخيه ومعصية تكفيره.
وقال القرطبي في المفهم (1/ 253) المقول له كافر إن كان كافراً كفرا شرعياً، فقد صدق القائل له ذلك، وذهب بها المقول له، وإن لم يكن كذلك، رجعت للقائل معرة ذلك القول وإثمه.
وذكر الحافظ ابن حجر في الفتح (10/ 466) قول القرطبي وقال: هذا التأويل في (رجع) من أعدل الأجوبة.
وقال: قوله له أنت فاسق إن قصد نصحه أو نصح غيره ببيان حاله جاز وإن قصد تعييره وشهرته بذلك ومحض أذاه لم يجز لأنَّه مأمور بالستر عليه وتعليمه وعظته بالحسنى فمهما أمكنه ذلك بالرفق لا يجوز له أن يفعله بالعنف لأنَّه قد يكون سبباً لإغرائه وإصراره على ذلك الفعل كما في طبع كثير من الناس من الأنفة لا سيما إن كان الآمر دون المأمور في المنزلة. انتهى.
وقال ابن عبد البر في الاستذكار (8/ 549) فائدة هذا الحديث النهي عن تكفير المؤمن وتفسيقه قال الله عز وجل ﴿ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ﴾ [الحجرات: 11] فقال جماعة من المفسرين في هذه الآية هو قول الرجل لأخيه يا كافر يا فاسق.
عقوبة المكفِّر غيره بغير حق بالقول: فيرد المكفَّر على المكفِّر بالقول كلاماً يناسب حاله ما لم يكن الرد محرماً كقوله أنت كافر إذا لم يكن كذلك.
الدليل الأول: قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾[النحل: 126]
فالأصل في العقوبة أنَّها من جنس العمل لعموم الآية إلا إذا كان القول محرماً شرعاً كقذف القاذف بغير بينه.
قال الطبري في تفسيره (17/ 325) الله تعالى ذكره أمر من عوقب من المؤمنين بعقوبة أن يعاقب من عاقبه بمثل الذي عوقب به، إن اختار عقوبته، وأعلمه أنَّ الصبر على ترك عقوبته، على ما كان منه إليه خير وعزم على نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصبر.
وقال السعدي في تفسيره: (ص: 452) ﴿ وإن عاقبتم ﴾ من أساء إليكم بالقول والفعل ﴿ فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ﴾ من غير زيادة منكم على ما أجراه معكم.﴿ ولئن صبرتم ﴾ عن المعاقبة وعفوتم عن جرمهم ﴿ لهو خير للصابرين ﴾ من الاستيفاء وما عند الله خير لكم وأحسن عاقبة كما قال تعالى: ﴿ فمن عفا وأصلح فأجره على الله ﴾.
الدليل الثاني: قوله تعالى: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [الشورى: 40 - 43].
الدليل الثالث: في حديث عائشة في قصتها مع زينب بنت جحش رضي الله عنهما قالت: فلم تبرح زينب حتى عرفتُ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكره أن أنتصر - قالت - فلما وقعتُ بها لم أنشبها حين أنحيت عليها - قالت - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبسم « إنَّها ابنة أبى بكر ». رواه مسلم (2442).
قال القاضي عياض في إكمال المعلم (7/ 451) لم ينهها فهمت أنَّه لا ينكر انتصارها كما كان، ألا تراه كيف قال: " « إنَّها بنت أبى بكر » وهذا يدل على أنَّه وافقها لأنَّها ابتدأتها ﴿ وَلَمَنِ انتَصَرَ... ﴾.
وقال القرطبي في المفهم (6/ 326) كانت زينب لما بدأتها بالعتب واللوم، كانت كأنَّها ظالمة، فجاز لعائشة أن تنتصر، لقوله تعالى: ﴿ ولمن انتصر... ﴾.
وقال العراقي في طرح التثريب (7/ 53) تكلمت زينب وزادت فصارت عائشة منتصرة لا سبيل عليها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (11/ 547) إن كان قد سبه فله أن يسبه مثل ما سبه إذا لم يكن فيه عدوان على حق محض لله أو على غير الظالم. فإذا لعنه أو سماه باسم كلب ونحوه فله أن يقول له مثل ذلك فإذا لعن أباه لم يكن له أن يلعن أباه؛ لأنَّه لم يظلمه. وإن افترى عليه كذباً لم يكن له أن يفتري عليه كذباً؛ لأنَّ الكذب حرام لحق الله.
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين (1/ 248) الجناية على العرض، فإن كان حراماً في نفسه كالكذب عليه وقذفه وسب والديه فليس له أن يفعل به كما فعل به اتفاقاً، وإن سبه في نفسه، أو سخر به، أو هزأ به، أو بال عليه، أو بصق عليه، أو دعا عليه فله أن يفعل به نظير ما فعل به متحرياً للعدل، ثم استدل بقصة عائشة مع زينب رضي الله عنهما.
العقوبة البدنية: عقوبة من كفَّر غيره بغير حق -------- تقدم --------- أنَّها عقوبة أخروية ولا أعلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك عقوبة دنيوية لا حداً ولا تعزيراً.
ولم يعاقب علي رضي الله عنه الخوارج أول الأمر حينما كان موقفهم منه مجرد تكفير بينت ذلك في: موقف علي رضي الله عنه من معارضيه السياسيين.
لكن لو رفع المُكفَّر بغير حق دعوى عند القاضي وطلب تعزير المُكفِّر فلا أرى مانعاً من تعزيره عقوبة بدنية بالجلد ثمانين جلدة ونحو ذلك كعقوبة القذف فباب التعزير مشروع للقاضي العدل العالم المختار.
تنبيه: باب الفقه غير باب الوعظ والتوجيه فلكل باب مقاله الخاص به.
الألوكة
...................