المختصر المفيد في شرح أقسام التوحيد
سارة سعد العبسي
(خطة البحث)
المبحث الأول: المقدمة.
المبحث الثاني: حقيقة التوحيد وتعريفه.
المبحث الثالث: أقسام التوحيد.
المبحث الرابع: تعريف كل قسم بالأدلة.
المبحث الخامس: كيف أنَّ توحيد الألوهية هو محور الخصومة بين الرسل وأممهم.
المبحث السادس: الثمرات المَرجُوَّة من المعرفة بالتوحيد.
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله؛ نصح الأمَّة، وكشف الله به الغُمة، وبلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، وتركها على المحجة البيضاء، ورضي الله عن صحابته الأخيار الأطهار، أما بعد:
فهذا مختصر أُقدِّمه عن حقيقة التوحيد وأقسامه، وأسأل الله الإخلاص والتوفيق في القول والعمل.
ثم أما بعد، فتوحيد الله عز وجل وعبادته هي الغاية التي من أجلها خَلَق الله العباد، وأقام عليهم الحُجة بإرساله الرسل؛ ليخرجوهم من الظلمات الى النور، ويُخلِّصوهم من عبودية البشر لعبادة رب البشر؛ قال الله عز وجل: ﴿ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾ [النساء: 165].
فتوحيدُ الله عز وجل يكون بإفراد العبادة له سبحانه وتعالى، والكفر بكل ما يُعبد من دونه؛ قال الله عز وجل: ﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا ﴾ [البقرة: 256].
والعُروة الوُثقى: هي قول: "لا إله إلا الله"، ومعناها: لا معبود بحق إلا الله، ولا بد فيها من الإثبات والنفي معًا فنُثبِت أن العبادة لله وحده، وننفي العبادة عن كل ما سواه.
أقسام التوحيد:
قسَّم العلماء التوحيد إلى ثلاثة أقسام: توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وهذه التقسيمة هي تقسيمة اصطلاحية وليست شَرعيَّة، والفرق بين التقسيم الاصطلاحي والتقسيم الشرعيِّ أن التقسيم الشرعي يترتب عليه أحكام، وعليه دليل؛ كتقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر، أما التقسيم الاصطلاحي، فلا دليل عليه من الشرع، ولا يترتب عليه أحكام.
سبب هذه التقسيمة: لِيسهل على الناس دراسة التوحيد.
أولًا: توحيد الربوبية:
الربوبية في اللغة: مأخوذة من الفعل (رَبَّ)، وهي صفة لله عز وجل، وفي كلام العرب تعني: السيد المطاع.
وشرعًا: هي أن أعتقد بقلبي أن الله عز وجل هو المتفرِّد بالخلق والرزق، وهو السيد المطاع، مالِك كل شيء، وقال آخرون: إن الربوبية متعلقة بأفعال الله عز وجل.
والدليل قوله تعالى: ﴿ خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ﴾ [لقمان: 10].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن السيد اللهُ تبارك وتعالى)).
ودلَّ على الربوبية أيضًا دلالة العقل؛ وهي بالنظر في نفس الإنسان، والنظر إلى الكون وما فيه؛ قال الله عز وجل: ﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الذاريات: 21]، وقال الله: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ [فصلت: 53].
وكذلك أيضًا دلالة الفِطرة؛ فالله عز وجل أخذ علينا الميثاق، كما قال جل وعلا في سورة الأعراف: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 172].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يُولَد على الفِطرة، فأبواه يُهَوِّدانِه أو يُمَجِّسَانِه أو يُنَصِّرانِه))، فالكل يولد على الفطرة.
توحيد الربوبية ليس الغايةَ من بعثة الرسل؛ لماذا؟
لأن هذا التوحيد أقَرَّ به كثير من البشر؛ إما بدلالة العقل والنظر في آيات الله الكونية، وإما بدلالة الفطرة، فالغاية من بعثة الرسل هو توحيد الألوهية، والمشركون قد أقَرُّوا ببعضٍ من توحيد الربوبية، قال الله عز وجل: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾ [العنكبوت: 61]، ومع ذلك قال الله فيهم: ﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ﴾ [يوسف: 106]؛ وذلك لأنهم أقَرُّوا بتوحيد الربوبية دون توحيد الألوهية، الذي هو الغاية من بعثة الرسل.
ثانيًا: توحيد الألوهية:
الألوهية في اللغة: مشتقة من إله؛ أي: المعبود المطاع، الذي تألهه القلوب حبًّا وشوقًا.
الألوهية شرعًا: هو إفراد الله عز وجل بالعبادة، والعبادة كما قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، قال الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 21]، وقال جل وعلا: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، فالله عز وجل جعل الحكمةَ من خَلْق الإنس والجن هي عبادتَه جل وعلا، فلا إيمان بالله عز وجل إلا بتحقيق توحيد الألوهية؛ قال الله عز وجل: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36]، والنبي صلى الله عليه وسلم لما بَعَث معاذًا لليمن قال له: ((وليكن أول ما تدعوهم إليهم أن يُوحِّدوا الله عز وجل، فإنْ هم أطاعوك لذلك...)) إلى آخر الحديث، فالإنسان لا يُقبَل منه أيُّ عبادة ولا أي طاعة إلا بعد أن يوحِّد الله عز وجل، وأن يكفر بكل ما سواه.
توحيد الألوهية هو محور الخصومة بين الرسل وأممهم:
وذلك لأنه هو الغاية التي من أجلها خَلَق الله العباد، وأرسل إليهم الرسل، وأُنزِلت الكتب لتَدُل على أن لا معبود بحق إلا الله، ولكن الكثير من الناس لم يؤمنوا بتوحيد الألوهية، فمنهم مَن كان يعبد الأصنام، ومنهم من عَبَد ملوك الأرض؛ كحال قوم سيدنا موسى مع فرعون، ومنهم من كان يعبد الشمس... وهكذا، إلى أنْ بَعَث الله الرسل لِيدعوهم إلى عبادة الله وحده، وذَكَر الله القصص في ذلك؛ قال جل وعلا: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ ﴾ [النمل: 45]، وكذلك حال قوم سيدنا نوح عليه السلام: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الأعراف: 59، 60]، وكذلك قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: ﴿ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ [ص: 5].
والناس إزاء تلقِّيهم الدعوة إلى توحيد الله عز وجل وعبادته - انقسَموا فريقَيْن: فريق استجاب لدعوة الرسل، ولفطرته السليمة، ونجا في الدنيا والآخرة، والفريق الآخر ظلَّ يعاند ويكابر، وأبَى أن يعبد الله وحده، وخسر الخسران العظيم في الدنيا والآخرة.
ثالثًا: توحيد الأسماء والصفات:
هو أن نؤمن بكل ما وَصَف وسَمَّى الله به نفسَه، ووَصَفه به نبيُّه صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف، ولا تمثيل، ولا تكييف، ولا تعطيل، وهذا النوع وَقَع فيه الكثير من الفِرَق الضالَّة، حيث إن منهم من قام بتأويل بعضٍ من صفات الله؛ فمثلًا قوله جل وعلا: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]، فنحن نقول - أهل السنة والجماعة -: إن الله على عرشه استوى بكيفيَّة لا يعلمها إلا هو، وكما قال الإمام مالك: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"، أمَّا مَن ضلَّ وتكلَّم في التأويل، فقال بأن المراد بقوله: (استوى): (استولى)، وهذا التأويل لا يجوز وباطل.
دليلُه قولُ الله جل وعلا: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 180]، وقولُه تعالى: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ﴾ [طه: 8].
وأركان توحيد الأسماء والصفات عند أهل السنة على ركنين:
الأول: الإثبات؛ وهو ما أثبته الله ورسوله، من غير تكييف ولا تمثيل...
والثاني: النفي - وهو المتضمِّن إثباتَ كمال ضده - وهو نفي ما نفاه الله عن نفسه، ونفاه رسولُه صلى الله عليه وسلم؛ تنزيهًا لله، بلا تحريف ولا تعطيل، قال الله: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11].
ثمرات التوحيد والإيمان بالله:
النجاة في الدنيا والآخرة؛ فالعبد إذا عَرَف ربه حق المعرفة، أحبَّه وتعلَّق قلبه بالله، وأقبَلَ على عبادته، وخشِيَ عقابَه إذا همَّ بفعل المعصية؛ فالإيمان بالله هو سعادة الدنيا والآخرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَن كان آخر كلامه: لا إله إلا الله، دخل الجنة))، ولن يقولها إلا من حقَّقها وعَمِل بمقتضاها، ويُوفِّق الله عز وجل لِقولها مَن عَبَدَه وأطاعه.
ومن ثمرات الإيمان بالله: الرضا عن أهله؛ قال تعالى: ﴿ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ﴾ [البينة: 8].
وكذلك بشارة الله للمؤمنين؛ حيث إن الله تكفَّل بالدفاع عنهم، وحَفِظهم من كل مكروه؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُور ﴾ [الحج: 38].
ختامًا، أسأل الله أأن يُحيِيَنا على لا إله إلا الله، وأن يُميتَنا عليها، وأن يُوفقنا إلى ما فيه الخير والصواب، والحمد لله رب العالمين، وصلاة وسلامًا على نبيه الأمين.