فجر آبق في أروقة البلدة العتيقة - رواية (الفصل الثامن)
د. زهرة وهيب خدرج
الفصل الثامن - جزء من النهاية
الفصل الثامن: جزء من النهاية.
ها هي ذا ميساء تحمل في أحشائها طفلاً سيرى النور بعد ستة أشهر بإذن الله تعالى، بعد طول انتظار... جعلها تشعر بالسعادة والأمل... رغم أن الأقدار تخفي في خضمها أشياء كثيرة ربما لم تحسب لها ميساء وعائلتها حساباً، ولكن الظروف السيئة تتجمع وتتكالب عليهم وتحيط بهم من كل جانب وتحكم قبضتها عليهم ولا تترك لهم متنفساً أو مجالاً للعيش بهدوء وسلام...
ففي صباح أحد الأيام أرسلت محكمة الاحتلال إشعاراً لعادل يبلغه بأن يوم الأربعاء بعد أسبوعين من الآن هو موعد انتهاء المهلة المعطاة له، ولذلك سيتم تنفيذ قرار الهدم بعد يومين من انتهاء المهلة...
انعدمت جميع الحيل لدى عادل بعد أن استنفذ كل الوسائل لحل المشكلة ولكن دون أي جدوى! فاخذ يمضي وقته ساهماً يشعر بالعجز الشديد عن عمل أي شيء... رأته زوجته على هذا الحال، فقالت مهدئة له: اتفقنا سابقاً أننا لن نخرج من بيتنا مهما حصل ومهما فعلوا؟ حتى لو كان الثمن أرواحنا!!
فرد عليها قائلاً: إنه بيتي...وهم يهددون بقاءه!!
تنهدت ميساء بعمق ولم تستطيع العثور على كلمات تقولها وتشد بها أزر زوجها... فصمتت واجمة.
وتابع عادل قائلاً: أفضل الموت شهيداً على أرض بيتي على أن أُخرج منه مكرهاً.
ثم ساد صمت قاتل... لم يقطعه أيٌ منهما...
سيطر في الفترة الأخيرة على قلب جاد الخوف والقلق بشدة، لأنه بات يشعر أن أمراً فظيعاً لا تُحمد عقباه سيحدث عما قريب... لا يدري ما هو ولا كيف ولا لماذا... ولكنه الحدس الإنساني.. على الرغم من أنه حاول كثيراً إبعاد المشاعر السيئة عن نفسه... كما حاول بطرق شتى إدخال السرور على قلب والديه... ولكن دون جدوى... فقد بقي الحزن والشعور بالعجز هما سيدا الموقف...
أشغل نفسه في بعض الأوقات بالعناية بالنباتات المزروعة على النوافذ وعند مدخل البيت فأخذ يقلب تربتها، ويرويها، فأينعت، وظهرت على بعضها أزهار جميلة ملونة طيبة الرائحة... أخذ يقطف منها ويرتبها في أصيص جميل ويضعها في غرفة والديه لتضفي على نفسيهما بعض الراحة والانتعاش... ورغم الحزن الذي يسيطر على الجميع إلا أن ميساء سرت لحال الأزهار الذي تحسن بعد عناية جاد بها، وشعرت بالفرح وتجدد الأمل عندما رأت ورودها تتفتح... خاصة أنها تفتحها رافقه إحساسها بحركة جنينها.
قالت حينها لجاد: الحياة تسلبنا أشياء كثيرة نحبها، وتراها تقسو علينا، ولا تعبأ بنا وبمشاعرنا... إلا أن الله لا ينسى عباده، بل تراه يعوضنا في كثير من الاحيان أشياء أفضل وأجمل مما سلب منا... ولهذا يجب علينا أن لا نركن للحزن واليأس، بل علينا أن نعمل جاهدين لتغيير هذا الواقع المر بكل السبل التي يمكننا عملها.
• يا بني، اعتن بالأزهار وحافظ على دروسك مهما حدث... وكن مع الله دائماً حتى يكون الله معك.
وفي صبيحة الأربعاء - اليوم المقرر لنهاية المهلة- بدا عادل متعباً وكئيباً لم يغادر المنزل نهائياً، وألقى التوتر بثقله على أهل البيت...حتى حل المساء يلقي بظلاله على قباب مدينة القدس وبيوتها العتيقة وشوارعها وحاراتها التي يتحدث التاريخ عبر جدرانها وحجارتها...
وجميع من في البيت لا زالوا يغرقون في ذات الصوم عن الكلام الذي بدؤوه منذ بداية اليوم وكأنه أحد وسائل الثورة والاعتراض على ما يجري معهم ومع الكثير من أمثالهم من أهل القدس وسكانها من العرب الفلسطينيين... الذين أصبح وجودهم فيها مهدداً...يبدأ بهدم المنازل أو مصادرتها ثم بسحب الهويات والجنسيات منهم... وينتهي بطردهم من المدينة المقدسة التي طوبت لهم في عمق التاريخ بموجب وثيقة الإسراء والمعراج للرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.
نهضت الأم تعد طعام العشاء بتثاقل... عندما كسر عادل حبل الصمت المخيم عليهم قائلاً: آسف يا جاد... لم أكن أرغب أن تكون ذكرى ميلادك الخامسة عشرة بهذا السوء... حقاً أنا آسف... ثم انسابت الدموع على وجهه... كانت هذه هي المرة الأولى التي يرى جاد والده يبكي فيها...
غاص جاد في داخله يفكر بعمق ويتمنى لو أن ما يحدث الآن هو مجرد كابوس مزعج سيفيق منه بعد وقت طال أو قصر ليجده قد انتهى وذهب في طريقه...ولكن... للأسف... هذا هو الواقع... الواقع المر الذي لا بد من مواجهته مهما بلغ من القسوة والوحشية...
قرُع الباب بشدة بطريقة أخرجت جاد وباقي أفراد العائلة من أعماق أنفسهم... هرعت الأم إلى غرفتها بينما مشى الأب بتثاقل إلى الباب وقد توقع مسبقاً – من طريقة قرع الباب – أنهم جنود الاحتلال...
دخلت البيت مجموعة كبيرة من الجنود حتى غص المكان بهم، تقدم أحدهم الذي يبدو أنه قائد المجموعة قائلاً: أنت السيد عادل أحمد العلمي؟
• "ماذا تريدون؟" رد عادل بشدة.
• "أنت تعرف"... قال الجندي.
• "أنت مخطئ... أنا لا أعلم شيئاً" قال عادل.
"اليوم هو آخر مدة للمهلة ويجب إخلاء البيت تمهيداً لتنفيذ قرار الهدم، ها هي ذا نسخة من كتاب قرار الإخلاء والهدم والذي تبدو فيه أسباب القرار واضحة من تراكم الديون والضرائب وعدم ترخيص البيت"، رد الجندي مخرجاً من جيبه ورقة مكتوبة بالعبرية.
"ونحن هنا الآن لتنفيذ البند الأول المتعلق بالإخلاء... هيا اجمعوا أمتعتكم وأخلوا المكان" تابع الجندي قائلاً.
كان جاد يقف بالقرب من باب المطبخ وكانت والدته قد انضمت إليه مع بداية حديث الجندي... وقد بدا القلق الشديد على وجهيهما...
تمنى جاد أن تنتهي الأمور إلى هذا الحد ولا يحدث ما يخشاه...
استشاط عادل غضباً من الكلام....وقال" أنتم قلتم أن القرار سينفذ يوم الجمعة فما الذي أتى بكم الآن...
وتابع وهو يصرخ بهم: هيا اخرجوا من بيتي...
ضحك الجندي بسخرية قائلاً: بيتك؟! أنت تمزح!... هذا قرار المحكمة وليس قراري أنا، أنا أنفذ التعليمات... غادروا وإلا اضطررنا لهدم البيت فوق رؤوسكم... وأعاد الورقة إلى جيبه...
فجاءة... دوى صوت السيدة لينا بصرخة ألم قوية...
فقد حاولت سحبت الورقة من جيب الجندي وحاولت تمزيقها... محاولة يائسة منها في تمزق آلامهم ومعاناتهم بتمزيق الورقة... فما كان من أحد الجنود إلا لوى ذراعها بقوة واستعاد الورقة منها...
صرخ عادل بقوة: اتركها... قلت لك اترك يدها...
واندفع نحو الجندي بقوة وتناول عصا والده المعلقة خلفه على الحائط وضربه بقوه فوقع الجندي على الأرض مدمي الرأس... ثم وقع السيد عادل بقربه إثر صوت طلق ناري أشعر جاد بالصمم... حدثت الأمور بشكل مفاجئ لدرجة أن جاد لم يستوعب تفاصيلها ولم يصدق وقائعها...
اندفع جاد إلى أبيه... صارخاً: أبي.... خرج صوته مبحوحاً
ضاعت صرخة جاد بين طيات الزمن حاملة معها مستقبلاً لطالما بقي في عالم... مستقبلاً مريراً للفتي ذي الخمس عشرة ربيعاً...
مر شريط الذكريات أمام عيني والد جاد بسرعة البرق... أهي النهاية؟؟
شعر بغزارة السائل الساخن تتدفق من صدره... هو لا يشعر بألم... ولكنه يعلم أن لكل مخلوقٍ خلقه الله نهاية، ويشعر أن نهايته قد دنت، فحان وقت نزوله من قطار الدنيا ليستقل قطار الآخرة... رفع سبابته إلى السماء لتكون شهادته بوحدانية الله هي آخر كلماته... شعر براحة عجيبة أبداً لم يشعر مثلها سابقاً... ابتسم بهدوء وأغمض عينيه مستسلماً لمفارقة الدنيا...
استشهد عادل والد جاد... نعم... لقد استشهد...
هنا عانقت الأرض الدم الطاهر... أرض فلسطين... أرض القدس... المدينة المقدسة التي لطالما قضي لأجل عيونها ليس عادل أحمد العلمي فقط ولكن الكثير من الشهداء... فقدموا دمائهم عطراً تتعطر به وخضاباً تختضب به في يوم اللقاء... في موسم النصر والخصب.
اختنقت العبرات في حنجرة جاد، أبت الكلمات الخروج من بين الشفاه... لم يعد يقوى على الحركة أو البكاء... لقد شلت الصدمة جسده وردَّات فعله...
صرخت ميساء في تلك الأثناء صرخة أخرجت جاد من أعماق صدمته... عندما حاول جندي أن يجذبها بالقوة إلى خارج المنزل، قاومت بكل ما أوتيت من قوة وأبت الخروج وصرخت في الجندي قائلة: لن أخرج، مهما فعلتم لن أخرج، أفضل الموت إلى جانب زوجي الحبيب... وركضت تجاه جثة زوجها وتشبت فيه...
"اتركيه واخرجي... هيا اتركيه..." صرخ فيها قائلاً
وكلما حاولوا سحبها قاومت بشدة.
فما كان من أحد الجنود وقد مل من طول المهمة التي صعب في نظرة إنهائها بدون أن يُجبر على استخدام العنف... ما كان منه إلا أن أطلق رصاصة أصابتها في كبدها... فتدفق الدم الداكن بقوة وسرعة إلى الخارج...
أطلقت نظرها إلى الأعلى عساها تشاهد سماء القدس لآخر مرة في حياتها... ولكن نظرها اصطدم بسقف البيت العزيز على قلبها... حركت شفتاها بشهادة "أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله"... والقت برأسها فوق زوجها مفارقةً وجنينها الحياة...
لحقت الزوجة بزوجها إلى العالم الآخر ومات الجنين في بطن أمه...
مات الجميع وتركوا جاداً وحده مصدوماً يقف شاخصاً بصره أمامه دون أن يستوعب ما يجري... تركوه جميعاً يصارع هذه الحياة التي رفعت القناع عن وجهها القاسي واستبدلت فرحها بحزن، وشقوتها بألم قاتل...
ولكن ما حدث في ذلك اليوم علمه درساً قاسياً جداً لن ينساه ما دام على قيد الحياة...
كان الجنود قد أغلقوا المنطقة قبل دخولهم لبيت عادل العلمي ولم يسمحوا لأحد بالتحرك فيها. ولكن بعد كل ما جرى... سمح الجنود لأبي منصور جار عائلة عادل بالدخول إلى البيت لأخذ جاد، وكان البيت يغص بالجنود الذي تجمعوا لنجدة المجموعة الأولى ومساعدتهم في فض المشكلة من دون خسائر إضافية... وخوفاً من فقدان السيطرة على الأوضاع...
احتضن أبو منصور جاد بحنان إلى صدره... وأخذ يمسح دموعه، ويقول: فليحميك الله من كل شر يا ولدي وليخفف عنك ما أنت فيه... مشى خارج البيت ولا زال يضم جاد إلى صدره... وجاد ينتحب دون توقف مصدوماً... لا يعلم... لا يحس... فقط يريد أن يبكي... لا شيء آخر... وكأن دموعه طوال السنوات الخمسة عشر قد اختزنت لهذه اللحظات فقط...
اقتاده أبو منصور إلى بيته وأجلسه في غرفة الاستقبال، وتركه ينتحب كما يشاء، فربما يكون في البكاء والعويل لملمة لجراحه الغائرة...