أقبلت الإجازة
الشيخ عبدالله بن ناصر الزاحم
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي﴿ جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴾ [الفرقان: 62]،أحمده على نعمه المترادفة، وأشكره على أفضاله المتتابعة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له....
أما بعدُ عباد الله: فاتقوا الله حق تقواه، واعمروا أوقاتكم بطاعته عز وجل ورضاه؛ فقد جعل الله الدنيا دار عمل، والآخرةَ دار الجزاء والمستقر، ﴿ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ﴾ [النجم: 31]، ﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى ﴾ [النجم: 39 - 41].
عباد الله:
صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ))، فمن استثمرهما عمل وأنتج، ومن ضيعهما وفرَّط فيهما انقلبا إلى سلاحين يفتكان به وبأمته.
فالأوقات التي لا تُعمر بالطاعات خسارة على صاحبها، فكم من عبد يتحسَّر على الأوقات الضائعة حينما تفارق الروح البدن، ويظهر الغبن، وتزول الغشاوة عن الأبصار، فيتمنون الرجعة للدنيا؛ لاستدراك ما فات، وأنى لهم ذلك ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 99، 100].
معاشر المؤمنين:
أيام قلائل وتبدأ إجازاتُ الطلابِ والطالبات، وهي أعظمُ مشكلةٍ تواجه الآباءَ والأمهاتِ مع أولادهم، ولا يخفى على أحدٍ ما سيجدون من الفراغ الكبير في أوقاتهم، فلا محاضن تربوية مغرية تستوعبهم، وتشغل أوقات فراغهم، ولا مؤسسات ربحية تُشغلهم وتدربهم وتشجعهم، مما يجعل الإجازةَ نقطةَ تحوُّلٍ صعبة، نعمةٌ على من استغلها واستثمرها واستفاد منها، ونقمةٌ على من ضيعها وفرّط فيها، فهي من أيام وليالِي العمر، والإنسانُ مسئولٌ يوم القيامة عن عمره فيما أفناه.
أحبتي في الله:
إن أعظم استثمارٍ تستثمره الأمم، هو استثمار الشباب، ويكون ذلك ببنائهم وتعليمهم وتأهيلهم، فما تقدمت الأمم إلا بذلك، وبشغل فراغهم واستثماره، ففي الشباب تتوفر القوة والذكاء والإقدام والطموح إذا وُجِّهوا الوجهة السليمة الصحيحة. وإن لم تُصرف أوقاتهم وطاقاتهم فيما ينفع، صرفوها هم فيما يضرهم ويؤذي مجتمعهم، وما الظواهر السلبية التي نراها من الشباب إلا تعبيرٌ عن الطاقات الكامنة والمواهب المكبوتة، تظهر للمجتمع، ولكن بطريقة غير صحيحة.
أيها الشباب:
اعلموا أن حياةَ المؤمن خاليةٌ من الفراغ، فهو في شُغْلٍ دائم، بين طاعةِ الله، وطلبِ المعاش، فالله عز وجل خاطب نبيه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ﴿ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ﴾ [الشرح:7، 8] أي: إذا تفرغت من أشغالك، ولم يبق في قلبك ما يعوقه، فاجتهد في العبادة والدعاء.
عبد الله:
إذا أتممتَ عملاً من أعمالك فأَقْبِل على عملٍ آخر، لئلا يبقى في حياتك فراغ، ولتعمر أوقاتك بما ينفع.
إذا فرغت من أعمال معاشك وطلب رزقك، فاشتغل في بناء آخرتك، وأدِّ كلَّ عملٍ في وقته؛ حتى لا تتراكم عليك الأعمال، ولترى بعينيك الإنجاز، لقد أوصى أبو بكر عمر رضي الله عنهما حين استخلفه على الناس، فقال له: (إني موصيك بوصية إن أنت حفظتها: إن لله حقا بالنهار لا يقبله بالليل، وإن لله حقا بالليل لا يقبله بالنهار، وإنه لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة).
فهذا هو النظام الرباني الذي بُنيت عليه الحياة، لاستيعاب الأوقات، والقضاء على الفراغ، مما يؤدي إلى الانضباط، ويحصل به الإتقان، ويجعل الفرد يُنجزُ في سنواتٍ قلائل ما لم ينجزه الكسالى في أعمارهم بكاملها، ومن قرأ سير الصحابة رضي الله عنهم، وجد إنجازاتٍ كبرى وإنتاجاً غزيرا في أعوام قليلة؛ لأنهم بذلوا أعمارهم وأوقاتهم لله تعالى، فبورك لهم في أعمالهم، حتى فاقت منجزاتُهم أعمارَهم. وكلُّ من أزاح فكرة الفراغ من رأسه، وأشغل نفسه بما ينفعه؛ كان له من الإنجاز والإنتاج ما يسُرُّه.
فأكثرُ الجِدِّ والاجتهاد والإنتاجِ لا يكون إلا في مرحلة الشباب، ولا يجدهُ إلا لمن جانب الفراغ، وأشغل نفسه بما ينفعه من أمور دينه ودنياه، فهذه حفصةُ بنتُ سيرين رحمها الله توصي الشباب وتقول: (يا معشر الشباب، خذوا من أنفسكم وأنتم شباب؛ فإني والله ما رأيت العمل إلا في الشباب).
ومما يؤسِف أن ترى كثيراً من شباب اليوم وفتياتهم في غفلة عن هذا؛ فأوقاتهم تذهب سدى، وأعمارهم تضيع هدرا، ولم يحققوا شيئا ينفع أمتهم، ويخلد ذكرهم، ويرثُهُ من بعدهم، فالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه فقد أخذ بحظٍ وافر، وعلى نهجهم سار العلماء، فلم يورثوا للأمة أموالا، وإنما ورثوا العلم، فرحلوا عن الدنيا وبقي علمهم، وارتفع في الناس ذكرهم، أما الذين ورَّثوا الأموال من الأثرياء والتجار والملوك، فذهبت أموالهم بذهابهم واندرس في الأمة ذكرهم.
نسأل الله تعالى أن يستعملنا في طاعته، وأن يهدي شباب المسلمين وفتياتهم لما فيه الخير والصلاح، وأن يجنبهم والزيغ والضلال والفساد.
﴿ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾ [الفرقان: 74].
أقول هذا القول واستغفر الله...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ......
أما بعد عباد الله:
فاتقوا الله تعالى حق التقوى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18].
أيها المسلمون:
الوقت هو عمر الإنسان، والفراغ من أعظم النعم، إذا أُحسِنَ استغلاله فيما يعود بالنفع، ومن أجل استثمار الإجازة استثمارا حقيقيا، يجب أن تُحدَّدَ الأهداف التي يُسعى لتحقيقها، وتُرسمَ السُّبُلُ التي يُرجى نجاحها؛ فأبواب الخير كثيرةٌ ومتنوعة، ومما يمكن أن تُستثمرَ به الإجازة:
مراجعةُ ما يُحفظُ من كتاب الله عز وجل لإتقانه وحفظه من التفلُّت. ومن لم يختم فليجتهد لتحقيق هذا الهدف العظيم ليكون بإذن الله مع السفرة الكرام البررة، فيحدد له برنامجا يوميا يحفظ فيه قدرا معيناً من كتاب الله، ولو يسيراً، حتى ييسر الله له ختم كتاب الله جل وعلا.
ومن كان حافظاً متقناً، فليقرأ في علوم القرآن، ويحرص على فهم ما في كتاب الله من أحكامٍ ومعانٍ وأسبابِ نزول.ومما تُستثمر به أوقات الفراغ: مطالعةُ الكتب النافعة منفرداً، أو بمدارستها مع بعض إخوانه وزملائه، وخصوصا كتب الأحكام الشرعية التي يجب تعلمها، والمسائل الهامة التي نجهلها.
ومن ذلك أيضا: حضور الدروس والدورات العلمية التي تقام خلال الإجازة؛ فطلبُ العلم نوعٌ من أنواع الجهاد في سبيل الله؛ ومن أفضل القرب التي يُتقرب بها إلى الله.
وقد يسر الله الأمر في هذا العصر، إن لم يتيسر الحضور الفعلي، كان عن طريق مواقع النقل عن طريق الشبكة الالكترونية، أو عن طريق الدروس المسجلة.
ومن الأمور التي يمكن أن تستفاد من الإجازة: معالجة ما لدينا من تقصير في العبادات، فالكثيرون منا عندهم تقصير في باب التعبد، فلو جعلنا في وقتنا برنامجا يُستدرك فيه التقصير، لكان ذلك من أفضل الأهداف.
فالبعض يسهر الليل كله فلا ينام إلا بعد الفجر، أو يسهر جلَّ الليل، فليجعل هؤلاء وقتًا آخِرَ الليل للوقوف بين يدي الله، استثماراً لهذا الوقت الفاضل، وقت التنزل الإلهي، فهو وقت صلاة واستغفار ودعاء، وقد أثنى الله عن المستغفرين بالأسحار، والذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا.
ومن الناس من لا ينام إلا بعد الفجر، وينام جلَّ النهار، فمن الاستثمار أن يجعلوا في برنامجهم نصيبًا لصيام النفل، فالصيام غنيمة باردة لأمثال هؤلاء.
ومن البرامج النافعة في الإجازة: تدريب النفس وتربيتها على الرباط في المسجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فهذا نوعٌ من أنواع الرباط في سبيل الله، يشتغل خلاله بما يُقرِّبه إلى الله، ليكون ممن يباهي الله بهم ملائكته؛ فعن عبدالله بن عمرو t، قال: صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَغْرِبَ فَعَقَّبَ مَنْ عَقَّبَ وَرَجَعَ مَنْ رَجَعَ فَجَاءَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ كَادَ يَحْسِرُ ثِيَابَهُ عَنْ رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: ((أَبْشِرُوا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ هَذَا رَبُّكُمْ قَدْ فَتَحَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ السَّمَاءِ يُبَاهِي بِكُمْ الْمَلَائِكَةَ يَقُولُ هَؤُلَاءِ عِبَادِي قَضَوْا فَرِيضَةً وَهُمْ يَنْتَظِرُونَ أُخْرَى)).
هذه بعضٌ من أبواب الخير، وما لم أذكرْه أكثر، فاخترْ لنفسك يا عبدالله ما تعلم من نفسك أنها تميل إليه، وأنك تستطيعه وتستمر عليه، فاحملها عليه، ولا تُحمِّل نفسك ما لا تريد؛ فحملُ النفس على ما لا تريد من نوافل الأعمال مظِنَّة الانقطاع وعدم الاستمرار.
ومن الأمور الحسنة: صرف بعضَ الأوقات في أمور مباحة يبتغى بها الأجر عند الله، كإدخال السرور على الأهل والأولاد والأقارب ونحوهم، وخصوصاً إذا كان الأمر المباح مما يُستعان به على الطاعة؛ ومما يُعاب على العاقل أن تمضي عليه الأيام والشهور وهو في فراغ وصحة، ومع ذلك فهو غافل عن آخرته.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ﴾ [الأنبياء: 1 - 3].
فاتقوا الله عباد الله فإن الدنيا مزرعة الآخرة، والمسلم مع ربه في تجارة دائمة، رأس مالها الصحة والفراغ، فمن جاهد نفسه وعدوَّه ربح خيرَي الدنيا والآخرة، ومن استرسل مع نفسه الأمارةِ بالسوء الخالدةِ إلى الراحة، فقد غُبن وضاع رأسُ ماله.
أسأل الله عز وجلَّ أن يحفظنا بحفظه، وأن يثبتنا على الحق، ويعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
هذا وصلوا وسلموا على محمد بن عبدالله، فقد أمركم الله فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].