عندما تبلغ 90 عاما
هاني مراد
كان يستملك ذراعي، عائدين لمنزله المجاور لمنزلي، على وقع خطواته المتساوقة؛ تسبق سنه التي شارفت التسعين، حتى نسيت أن ارتقاء الرصيف قد يشقّ عليه.
ترتسم ملامح السعادة على وجهه، فتتقاطع مع قسماته التي لم تنل منها الشيخوخة كثيرا، وهو يحادثني متحامسا باتقاد الشباب، فيطنب في حكي ذكرياته، ويسرد سني شبابه التي طواها الزمان، عندما أقضي معه بعض السويعات، وهو الذي يعيش وحيدا بعد وفاة زوجته، وسفر أولاده لأوربا!
تبدو ضحكته كماء صاف ينبع من قلب طفل بريء، وتبدو عليه أمارات السعادة لوجودي معه، فيسعدني بنوع من الرضا، قد يفوق سعادته!
عندما تراه، تعجب إذا علمت أنه قد أوشك على بلوغ التسعين، وربما ظننت أنه لم يجاوز السبعين أو أقل، مع أنه لا يتبع نمط حياة صحي، وقد استفرد به العديد من الأمراض التي أطرحته على أسرّة الجراحات؛ وأفلتته بنصف كُلْية، وأفقدته أعضاء! ومع ذلك، فهو يتمتع بلياقة بدنية ونفسية رائعة!
كرّس حياته لأسرته، وتربية أبنائه، وإدارة مصنعه الذي كان يدرّ عليه أموالا طائلة. ومع أنه باع معظم أملاكه، إلا أنه كان وما يزال كثير الصدقة، ومعاونة الفقراء، ومعاهدة المحتاجين. فبقيت أملاكه تلك في صورة أخرى: في صورة باقية غير زائلة، في صورة صدقات يزرعها، فتزهر عافية في بدنه، وتثمر صفاء في نفسه، ويحصدها حماسة تفعم حديثه وانفعاله ومزاحه.
طبيعته العطاء، حتى إنك لا تشعر بغضبه حين يحادثك عن تأميم أملاك أبيه الذي كان من الأعيان، ويحمل لقب "بك" من الملك فاروق، مقابل ثروة بلغت مائتي جنيه!
علّمني أن هذه الصدقات، وهذا العطاء، خير ما ينفع الإنسان عندما يقارب التسعين، فتكون له حياة بعد حياة.