من شعائر الحج الافتقار إلى الله
يا أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الافتقار إلى الله لُبُّ التوحيد والإيمان والعبادة، وهو المدخل الأعظم إلى الله تعالى للمطيع والعاصي؛ قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15]، فقد ذكر الله تعالى فقرنا قبل استغنائه عنا تَبْكيتًا للنفوس؛ لتذل وتفتقر، ولتعلم أنها لا تملك لنفسها شيئًا، فإذا صحَّ الافتقار إلى الله تعالى صحَّ الاستغناءُ به، وإذا صح الاستغناءُ به، صحَّ الافتقار إليه، فلا يقال أيهما أكمل؛ لأنه لا يتم أحدهما إلا بالآخر، وقال تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم: 8]،وقال تعالى:{وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38]،ومعنى الافتقار كما قال يحيى بن معاذ: «هو العناية بالسرائر، وإخراج ما سوى الله عز وجل من القلب»، وعرَّفه الإمام ابن القيم رحمه الله بقوله: «حقيقة الفقر: ألَّا تكون لنفسك، ولا يكون لها منك شيء؛ بحيث تكون كُلُّك لله، وإذا كنت لنفسك فثمَّ ملك واستغناء منافٍ للفقر»، ثم قال: «الفقر الحقيقي: دوام الافتقار إلى الله في كل حال، وأن يشهد العبد في كل ذرة من ذرَّاته الظاهرة والباطنة فاقةً تامة إلى الله تعالى من كل وجه».
«فليس بين العبد وبين الله طريق أقرب من الافتقار» كما قال سهل بن عبدالله، وقالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وما شُرِعَتِ العِبادَةُ إلّا لِلْخُضُوعِ لِلْبارِئِ، وإظْهار الافتقار إلَيْهِ، ويَنْصُرُ هَذا التَّأْوِيلَ قولُه تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]؛ حيْثُ عَبَّرَ عَنْ عَدَم الافتقاربالاستك بار.
وفي الحديث القدسي يتجلَّى غِنى الله تعالى وافتقار العباد إليه «يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ، إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُون ِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ، إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُون ِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي، فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا *عَلَى *أَتْقَى *قَلْبِ *رَجُلٍ *وَاحِدٍ *مِنْكُمْ، *مَا *زَادَ *ذَلِكَ *فِي *مُلْكِي *شَيْئًا، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا، فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ»؛) (مسلم:2577)، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستغني عن ربِّه طرفةَ عينٍ، ولا يتحرك قلبه إلا إليه، فعن أَنَس بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ: «مَا يَمْنَعُكِ أَنْ تَسْمَعِي مَا أُوصِيكِ بِهِ، أَنْ تَقُولِي إِذَا أَصْبَحْتِ وَإِذَا أَمْسَيْتِ: *يَا *حَيُّ *يَا *قَيُّومُ، *بِرَحْمَتِكَ *أَسْتَغِيثُ، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ»؛ (النسائي: 10330).
وفِي السفر إلى الحج إقْبالُ العَبْد أشْعَثَ أغْبَرَ مِن مَسافَة بَعِيدة إلى بَيْتٍ فَضَّلَهُ الله تَعالى وشَرَّفَهُ كَإقْبالِ العَبْدِ إلى مَوْلاهُ ذَلِيلًا، ومن قدم على بيت الله وهو يظن في نفسه أنه مُسْتغنٍ مثقال حبة من خردل عن الله، فلم يعرف كيف يقدم على الله، ومن قدم إلى الله بافتقار إلى الله، فقد عرف كيف يقدم على الله، نفتقر إلى الله جل وعلا ونحن قادمون إليه من كل حَوْل وطول وقوة نتبرأ منها، ونؤمن أن لا حول ولا طول ولا قوة لنا إلا بالله في كل أمر نريد تحقيقه.
إنَّ من أعظم شعائر الحج الافتقار إلى الله تعالى، ففي الإحرام يُظهِر الحاجُّ التذلُّل للمعبود بالشعث، فيتعرض بسوء حاله لعطف مولاه ورحمته إياه، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: "حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى *رَحْلٍ، *رَثٍّ، وَقَطِيفَةٍ تُسَاوِي أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، أَوْ لَا تُسَاوِي، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ حَجَّةٌ لَا رِيَاءَ فِيهَا، وَلَا سُمْعَةً»"؛ (سنن ابن ماجه: 2890(؛ لأنه في أعظم مواطن التواضُع، لا سيَّما والحجُّ حالة تجرُّد وإقلاع، وخروج عن المواطن سفرًا إلى الله، ألا ترى ما فيه من الإحرامومعناه: إحرام النفس من الملابس؛ تشبيهًا بالفارِّين إلى الله، فكان الافتقار في هذا المقام من أعظم الشعائر.
وأمَّا التَّلْبِيَةُ بأنْ يقول: ((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ))، ولبيك مِن قَوْلِك: ألَبَّ بالمكانِ: إذا لَزِمَهُ، ومعنى لَبَّيْكَ: ها أنا عبدك وأنا مُقِيمٌ عَلى طاعتِك وأمْرِك، غيرُ خارجٍ عن ذلك، ولا شارِدٍ عليك، وهكذا كان الأنبياء، فعن ابنِ عباس قال: كانت تلبية موسى: "لبَّيْك عبدك، وابن عبدك"، وتلبية عيسى: "لبيك عبدك، وابن أمَتِكَ"، وتلبية النبي صلى الله عليه وسلم: ((لبَّيْك لا شريكَ لك))؛ (البزار: 3309).
وفي عرفة يقف الحاجُّ بمنزلة عبد عصى مولاه، فوقف بين يديه متضرعًا إليه، معظمًا له، حامدًا له، مستغفرًا لزلَّاته، مستقيلًا لعثراته، قَالَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ رضي الله عنه: كُنْتُ رَدِيفَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَاتٍ "فَرَفَعَ يَدَيْهِ يَدْعُو، *فَمَالَتْ *بِهِ *نَاقَتُهُ، فَسَقَطَ خِطَامُهَا " قَالَ: " فَتَنَاوَلَ الْخِطَامَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ وَهُوَ رَافِعٌ يَدَهُ الْأُخْرَى"؛(روا ه النسائي (21821).
ويُظهِر الافتقار والحاجة إلى الله تعالى، ويُلِحُّ في الدعاء ولا يستبطئ الإجابة، ولا يعتدي في دعائه، إذِ الدُّعاءُ هُوَ إظْهارُ غايَةِ التَّذَلُّلِ والِافْتِقارِ إلى اللَّهِ والِاسْتِكانَةِ لَهُ، وفي الوقوف بعرفة يتذكَّر العبد الوقوف بين يدي الله تعالى، فكان الافتقار في هذا المقام من أعظم العبادات، ويُكثِر من الدعاء بما ورد في القرآن والسنة، ويُكثِر من الاستغفار والتوبة، ويُكثِر من الثناء على الله تعالى والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ويُظهِر الافتقار إلى الله تعالى، ويظل يذكر الله ويدعوه حتى يغيب قرص الشمس، وكانت الأمم الماضية ترفع حوائجها إلى الأنبياء فيرفعونها إلى الله، فلما جاءت هذه الأمة أُذِنَ لهم في دعائه؛ لكرامتها عليه.
إن الدُّعاءَ هُوَ العِبادَةُ؛ لِأنَّهُ إظْهارُ الافتقار مِن نَفْسِهِ، والاعْتِراف بِأنَّ اللَّهَ تَعالى قادِرٌ عَلى إجابَتِهِ، كَرِيمٌ لا بُخْلَ لَهُ ولا فَقْرَ، ولا احْتِياجَ لَهُ إلى شَيْءٍ، وأما الطواف هو بمنزلة عبد معتكِف ببابِ مولاه، لائذٍ بجنابه، حتى يقضي حوائجه.
ومِنَ العِباداتِ الَّتي لا تُفْهَمُ مَعانِيها السَّعْيُ والرَّمْيُ فَكُلّفَ العَبْدُ بِها لِيَتِمَّ انْقِيادُهُ، فَإنَّ هَذا النَّوْعَ لا حَظَّ للنَّفْسِ فِيهِ، ولا أُنْسَ لِلْعَقْلِ بِهِ، فَلا يَحْمِلُ عَلَيْهِ إلا مُجَرّدُ امتِثالِ الأمْر والافتقار لله جل وعز.
ويتحقق الافتقار إلى الله بملازمة التقوى ومداومة الطاعة، ويتحقق ذلك بأمرين متلازمين: أولهما: إدراك عظمة الخالق وجبروته، فكلما كان العبد أعلم بالله تعالى وصفاته وأسمائه كان أعظم افتقارًا إليه وتذللًا بين يديه.
وثانيهما: إدراك ضعف المخلوق وعجزه، فمن عرف قدر نفسه، وأنّه مهما بلغ في الجاه والسلطان والمال، فهو عاجز ضعيف لا يملك لنفسه صرفًا ولا عَدْلًا، تصاغرَتْ نفسُه، وذهب كبرياؤه، وذلَّت جوارحه، وعظم افتقاره لمولاه، والتجاؤه إليه، وتضرُّعه بين يديه.
ومن علامات الافتقار إلى الله: غاية الذل لله تعالى مع غاية الحب، والتعلُّق بالله تعالى، ومداومة الذكر والاستغفار في كل الأوقات وعلى جميع الأحوال، والخوف من عدم قبول الأعمال الصالحة.
قال شيح الإسلام في ثمرات الافتقار الى الله: "وإذا توجَّه إلى الله بصدق الافتقار إليه، واستغاث به مخلصًا له الدين، أجاب دعاءه، وأزال ضرره، وفتح له أبواب الرحمة، فمثل هذا قد ذاق من حقيقة التوكُّل والدعاء لله ما لم يذقه غيره".
إن إظهار الافتقار إلى الله مما يقوِّي الإيمان بالله سبحانه وتعالى.
وأخيرًا: فإن الحجَّ مدرسةٌ يتعوَّد فيها المسلم على الصبر، ويتذكَّر فيها اليوم الآخر وأهواله، ويستشعر فيه لذة العبودية لله، ويعرف عظمة ربه، وافتقار الخلائق كلها إليه.
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يُحيينا ويُميتنا ويبعثا ونحن قدمنا الافتقار الصادق إليه، اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ، اللَّهُمَّ لَا قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ، وَلَا مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ، وَلَا مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، اللَّهُمَّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ وَرَحْمَتِكَ، وَفَضْلِكَ وَرِزْقِكَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نسْأَلُكَ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ، الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ، اللَّهُمَّ إِنَّا نسْأَلُكَ النَّعِيمَ يَوْمَ الْعَيْلَةِ، اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ، اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ ، غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مَفْتُونِينَ.
______________________________ ______________________
الكاتب: مهدي غيدان سلمان