وقفات تربوية مع حديث "خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ"
دكتور : أحمد عبد المجيد مكي
بسم الله الرحمن الرحيم
القرآن الكريم معجزة ربانية خالدة ، تحدى الله به الإنس والجن ، وأخبر أنهم لا يأتون بمثله، ولو تعاونوا كلهم على ذلك.
وقد أولاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عناية خاصة ؛ ووصاياه التي تحث الأمة على تعهد كتاب الله وإحياء دراسته كثيرة جدا، من أشهرها ما رواه البخاري في صحيحه عن سَعْد بْن عُبَيْدَة ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عُثْمَانَ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ" ، قال أبو عبد الرحمن السُّلَمي: «فذاك الذي أقعدني مقعدي هذا»([1]).
وأخرجه البخاري أيضاً بلفظ: إِنَّ أَفْضَلَكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ ([2]).
وللترمذي " خَيْرُكُمْ، أَوْ أَفْضَلُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ" ([3]).
ولنا مع هذا الحديث عدة وقفات نوجزها فيما يلي:
الوقفة الاولى : قراءة القرآن من أفضل أعمال البر:
لا شك أنّ تعليم القرآن ومدارسته وتلاوته وحفظه من أفضل العمل الصالح([4])؛ قال الهروي (ت: 1014هـ): معنى الحديث: أَنَّ مَنْ وُجِدَ مِنْهُ التَّعَلُّمُ وَالتَّعْلِيمُ ولو في آية كان خيرا ممن لم يكن كذلك، ... والحاصل أنه إذا كان خير الكلام كلام الله، فكذلك خير الناس بعد النبيين مَنْ يَتَعَلَّمِ الْقُرْآنَ وَيُعَلِّمُهُ، لكن لا بد من تقييد التعلم والتعليم بالإخلاص([5]).
ولهذا حرص الصالحون على تعلم القرآن وتعليمه، فاستثمروا في ذلك أوقاتهم وبذلوا جهودهم ، والأمثلة على ذلك كثيرة، أكتفي منها بما يأتي:
الأول: ورد أن راوي الحديث- أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السُّلَمِيّ التابعيّ الجليل- كان مُعلّماً للقرآن الكريم منذ خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى عهد الحجّاج بن يوسف، وكان الحديث السابق هو الذي حمله على ذلك؛ لذلك قال بعد أن رواه: وَذَاكَ الَّذِي أَقْعَدَنِي مَقْعَدِي هَذَا، وأشار به إلى مقعده الذي كان يقرأ الناس فيه. ويرى بدر الدين العينى (ت: 855هـ) أن "مراده من المقعد الذي أقعد فيه، منزلته التي حصلت له مع طول المدة ببركة تعليمه القرآن الكريم للناس" ([6]).
الثاني: كان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يعلم الناس القرآن بمسجد البصرة مع كثرة مسؤولياته لأنه كان أمير البصرة في ذلك الوقت، فقد ذكر ابن سعد (ت: 230هـ) وكذا الحافظ الذهبي(ت : 748هـ) عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قال: بَعَثَنِي أبو موسى الأَشْعَرِيُّ إلى عُمَرَ ابن الخطاب ، فقال لِي عُمَرُ: كيف تَرَكْتَ الأَشْعَرِيَّ؟ فقلتُ له: تَرَكْتُهُ يُعَلِّمُ الناس القرآن. فقال: أَمَا إِنَّهُ كَيِّسٌ( وفي روايه: أَمَا إِنَّهُ كَبِيرٌ) وَلا تُسْمِعْهَا إِيَّاهُ ([7]).
الوقفة الثانية : على المسلم أن يجتهد في الدعاء أن يعلمه الله القرآن:
من المعلوم أنّ خلق الإنسان سابقٌ على تعليم القرآن، لكن لما كان تعليم القرآن أعظمَ مِنَّةٍ من الله عز وجل على العبد، قدمه الله على خلق الإنسان، فقال سبحانه ) : الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ القُرْآنَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ( )الرحمن: 1 – 4(.
وفي ذلك يقول أبو حيان الأندلسي (ت: 745هـ): ولما عدّد نعمه تعالى، بدأ مِن نِعَمه بما هو أعلى رُتبها، وهو تعليم القرآن، إذ هو عماد الدين ونجاة من استمسك به. ولما ذكر تعليم القرآن ولم يذكر المعلَّم، ذكره بعد في قوله : (خَلَقَ الإنْسَانَ) ، ليُعلم أنه المقصود بالتعليم ([8]).
لذا يستحب للمسلم أن يجتهد في دعاء ربه أن يعلمه الله القرآن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بذلك لمن يحب، يقول ابْنِ عَبَّاسٍ: ضَمَّنِى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وقال: اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ([9]).
قال ابن بطال (ت: 449هـ): والكتاب هاهنا القرآن. وفيه: بركة دعوة النبى صلى الله عليه وسلم، لأن ابن عباس كان من الأخيار الراسخين فى علم القرآن والسنة، أجيبت فيه الدعوة. وفيه: الحض على تعلم القرآن والدعاء إلى الله فى ذلك([10]).
وفى دعاء أعرف الخلق بربه : "أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِى كِتَابِكَ ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ، أوْ اسْتأْثَرْتَ بِهِ فِى عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ : أَن تَجْعَلَ الْقُرْآن رَبِيع قَلْبِى ونُورَ صَدْرِى، وجَلاءَ حُزْنِى، وذَهَابَ هَمِّى وَغَمِّى ([11]).
ومعنى ربيع قلبي: أي: متنزهه ومكان رعيه الذي يرتع فيه لينتفع بأنواره وأزهاره وأشجاره وثماره، والمقصود بذلك: أنواع العلوم والمعارف وأصناف الحكم والأحكام واللطائف.
الوقفة الثالثة: هل الخيرية الواردة في الحديث تقتضي أن يكون المقرئ أفضل من الفقيه؟
أعدّ الله لمن يتعلم القرآن ويعلمه من الأجر والثواب ما تقر به عينه، وينشرح به صدره، وما ذاك إلا لأن تعلم القرآن وتعليمه هو الأساس الذي يقوم عليه الدين وبه تعرف الشرائع والأحكام.
لكن هل هذه الخيرية تقتضي أن يكون المقرئ أفضل من غيره ممن هو على ثغرة من ثغور الإسلام؟
يجيب الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت: 852هـ) بقوله:
" لا يلزم أن يكون المقرئ أفضل من الفقيه ، لأن المخاطبين بذلك كانوا فقهاء النفوس، لأنهم كانوا أهل اللسان فكانوا يدرون معاني القرآن بالسليقة أكثر مما يدري من بعدهم بالاكتساب، فكان الفقه لهم سجية، فمن كان في مثل شأنهم شاركهم في ذلك، لا من كان قارئاً أو مقرئاً محضاً لا يفهم شيئاً من معاني ما يقرؤه أو يقرئه،
فإن قيل: فيلزم أن يكون المقرئ أفضل ممن هو أعظم غناء في الإسلام بالمجاهدة، والرباط، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلاً؟
قلنا: حرف المسألة يدور على النفع المتعدي، فمن كان حصوله عنده أكثر كان أفضل، فلعل (مِنْ) مضمرة في الخبر، ولابد مع ذلك من مراعاة الإخلاص في كل صنف منهم([12]).
الوقفة الرابعة: الأمة متعبدة بقراءة القرآن بالصفة التي أمر الله بها رسوله :
لكي ينال المسلم الأجر كاملا، عليه أن يقرأه بالصفة التي أمر الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا تتأتى هذه الصفة إلا بالتلقي، والمشافهة ؛ وقد اصطلح العلماء على تسمية هذه الكيفية بالتجويد، قال جلال الدين السيوطي (ت: 911هـ) :
ولا شك أن الأمة كما هم متعبدون بفهم معاني القرآن وإقامة حدوده، هم متعبدون بتصحيح ألفاظه وإقامة حروفه على الصفة المتلقاة من أئمة القراء المتصلة بالحضرة النبوية، وقد عد العلماء القراءة بغير تجويد لحنا([13]).
وقد يسأل سائل ما الغرض من ذلك ؟
والجواب: وضع العلماء أصول القراءة، وقواعد التلاوة، من أجل المحافظة على اللفظ القرآني من أن يتطرق إليه اللَّحن والتحريف والتبديل، وحتى لا يتعرض للفوضى التي سقطت فيها الرسالات السابقة.
فالشكل هنا جزء من الموضوع؛ وألفاظ القرآن جزء لا ينفصل عنه، لذا أصبحت قراءتها عبادة، ومجرد ترديدها قربى إلى الله..! إنه هو كما قرأه صاحب الرسالة من أربعة عشر قرنًا!!
تجدر الإشارة إلى أن العلماء حذروا من المبالغة في هذا الشأن ، بحيث يشغله ذلك عن تدبر معاني كتاب الله ، ويصرفه عن الخشوع في التلاوة ، واعتبروا ذلك حجابا للقلب عن فهم مراد الله ، والنقول عنهم كثيرة ، يقول بن قدامة المقدسي (ت: 689هـ): المقصود من الحروف المعاني، وإنما الحروف ظروف وأدوات، ومن احتاج إلى شرب الدواء لإزالة المرض، فضيع عمره في تحسين الكأس الذي يشرب فيه، فهو مغرور، والسعيد من أخذ من كل شئ من هذا حاجته المهمة لا غير، وتجاوز إلى العمل، واجتهد فيه وفى تصفيته من الشوائب، فهذا هو المقصود([14]).
الوقفة الخامسة: تعلم معاني القرآن هو المقصود الأول بتعليم حروفه :
تعلم معاني القران وتدبره وفهمه و العمل به هو المقصود بإنزاله، لا مجرد قراءته بلا فهم ولا تدبر، فالمَعْنى هو المَقْصُود واللَّفْظ وَسِيلَة اليه، وهذا هو المنصوص عليه في نصوص كثيرة ، منها قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} (البقرة من الآية:129).
وقوله تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب} [ص: 29]، وقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [النحل: 44]. والمقصود بالذكر: القرآن، لأن فيه ذكر ما يحتاج إليه العباد من أمور دينهم ودنياهم الظاهرة والباطنة.
صحيح أن الإنسان مأجور على قراءته سواء فهم المعنى أم لم يفهم ، ولكن ينبغي له أن يحرص كل الحرص على فهم معناه ، وأن يتلقى هذا المعنى من مصادره الموثوق بها.
وفي ذلك يقول شيخ الاسلام ابن تيمية (ت: 728هـ): ولهذا دخل في معنى قوله «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» تعليم حروفه ومعانيه جميعا، بل تعلم معانيه هو المقصود الأول بتعليم حروفه، وذلك هو الذي يزيد الإيمان، كما قال جندب بن عبد الله، وعبد الله بن عمر وغيرهما: تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا، وإنكم تتعلمون القرآن ثم تتعلمون الإيمان... ([15]).
الوقفة السادسة : الخيرية مشروطة بالاخلاص والعمل :
أهل القرآن هم العالمون به، والعاملون بما فيه، وإن لم يحفظوه عن ظهر قلب. وأما من حفظه ولم يفهمه ولم يعمل بما فيه، فليس من أهله وإن أقام حروفه إقامة السهم. يشهد لذلك قوله تعالى : {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون} [البقرة: 121]
قال القرطبي (ت: 671هـ): قال عِكْرِمَةُ: يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ، باتباع الأمر والنهي، فيحلون حلاله، ويُحَرِّمُونَ حرامه، ويعملون بما تضمنه. أما سَمِعْتَ قول الله تعالى:" والقمر إذا تلاها"[الشمس: 2] أي أتبعها، وهو معنى قول ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما ... وقيل: يقرءونه حَقَّ قراءته. قُلْتُ: وهذا فيه بُعْدٌ، إلا أن يكون المعنى يُرَتِّلُونَ أَلْفَاظَهُ، ويفهمون معانيه، فَإِنَّ بِفَهْمِ المعاني يكون الاتباع لمن وُفِّق([16]).
وقد "عَرَفْنا من أصل الدين أنَّ العامل بكتاب الله- المتدبر له- أفضل من الحافظ والتالي له إذا لم ينل شأنه في العمل والتدبر، وقد كان في الصحابة من هو أحفظ من الصديق وأكثر تلاوة منه، وكان هو أفضلهم على الإطلاق، لسبقه عليهم في العلم بالله وبكتابه، وتدبره له وعمله به، .."([17]).
لذا حرص العلماء على بيان أخلاق حملة القرآن، واستفاضوا في ذلك، ولهم في ذلك كلام طيب جدير بالعناية، منهم الحافظ أبو بكر الآجُرِّيُّ (ت: 360هـ) ،والإمام النووي (ت: 676هـ) في كتابه النافع المفيد: التبيان في آداب حملة القرآن.
وأود الاشارة الى أنه لا يقدح في الإخلاص- ولا ينافي حصول الثواب - أخذ الأجر على إقراء القرآن، وتعليمه للناس، إذا خلصت النية و كان المقصود هو تعليم العلم، ونفع أبناء المسلمين، وقد كان بعض السلف يكرهون ذلك، ولكن جمهور العلماء على جوازه([18]).
نسأل الله تعالى بمنه وكرمه، أن يجعلنا من أهل القرآن العاملين بما فيه، وأن يرزقنا بركته، اللهم آمين.
-----------------------------------------------
([1]) أخرجه البخاري (5027) ، وأبو داود (1452) ، والترمذي (2907). وابن ماجه (211).
([2]) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5028).
([3]) أخرجه الترمذي في "السنن" رقم (2908).
([4]) ينظر رياض الصالحين ، كتَاب الفَضَائِل، باب فضل قراءة القرآن، والأبواب الأربعة التي بعده.
([5]) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/ 1453). وينظر: شرح صحيح البخارى لابن بطال (10/ 265).
([6])عمدة القاري شرح صحيح البخاري (20/ 44)
([7]) سير أعلام النبلاء(2/ 390)، الطبقات الكبرى (2/ 263) ، (4/ 81).
([8]) البحر المحيط في التفسير (10/ 54).
([9]) أخرجه البخاري رقم (75) ، ورقم (3756) ، ورقم (7270).
([10]) شرح صحيح البخارى لابن بطال (1/ 160).
([11]) رواه أحمد رقم (3712) و (4318) ، وابن حبان رقم (2372).
([12]) فتح الباري لابن حجر (9/ 76)، وقريب منه في تفسير ابن كثير (1/ 67) الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (19/ 33).
([13]) الإتقان في علوم القرآن (1/ 346).
([14]) مختصر منهاج القاصدين (ص: 238)، مجموع الفتاوى (16/ 50)، تلبيس إبليس (ص: 126)، إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 160)، زغل العلم للحافظ الذهبي (ص: 25).
([15]) مجموع الفتاوى (13/ 402)، الفتاوى الكبرى لابن تيمية (4/ 423).
([16]) تفسير القرطبي (2/ 96).
([17]) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/ 1470).
([18]) للتفصيل ينظر: تفسير القرطبي (1/ 336) عند تفسير الاية (41) من سورة البقرة، التبيان في آداب حملة القرآن (ص: 57)، سبل السلام (2/ 117).
صيد الفوائد