المقصود بالأبتر في قوله تعالى (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)
الحمد لله.
قال الله تعالى( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) سورة الكوثر.
قال ابن كثير رحمه الله :
" وقوله: إن شانئك هو الأبتر أي: إن مبغضك -يا محمد- ، ومبغض ما جئت به من الهدى والحق ، والبرهان الساطع والنور المبين = هو الأبتر ؛ الأقل ، الأذل ، المنقطع ذكره.
قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة: نزلت في العاص بن وائل.
وقال محمد بن إسحاق، عن يزيد بن رومان قال: كان العاص بن وائل إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: دعوه فإنه رجل أبتر لا عقب له، فإذا هلك انقطع ذكره. فأنزل الله هذه السورة.
وقال شمر بن عطية: نزلت في عقبة بن أبي معيط.
وقال ابن عباس أيضا، وعكرمة: نزلت في كعب بن الأشرف وجماعة من كفار قريش.
وقال البزار: حدثنا زياد بن يحيى الحساني، حدثنا بن أبي عدي، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قدم كعب بن الأشرف مكة ، فقالت له قريش: أنت سيدهم ، ألا ترى إلى هذا المصنبر المنبتر من قومه ، يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج، وأهل السدانة وأهل السقاية؟
فقال: أنتم خير منه. قال: فنزلت: إن شانئك هو الأبتر
هكذا رواه البزار ، وهو إسناد صحيح.
وعن عطاء: نزلت في أبي لهب، وذلك حين مات ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذهب أبو لهب إلى المشركين ، وقال: بُتر محمد الليلة. فأنزل الله في ذلك: إن شانئك هو الأبتر .
وعن ابن عباس: نزلت في أبي جهل. وعنه: إن شانئك يعني: عدوك.
وهذا يعم جميع من اتصف بذلك ممن ذكر، وغيرهم.
وقال عكرمة: الأبتر: الفرد.
وقال السدي: كانوا إذا مات ذكور الرجل قالوا: بتر. فلما مات أبناء رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: بُتر محمد. فأنزل الله: إن شانئك هو الأبتر .
وهذا يرجع إلى ما قلناه ، من أن الأبتر الذي إذا مات انقطع ذكره ، فتوهموا لجهلهم ، أنه إذا مات بنوه ، ينقطع ذكره !!
وحاشا وكلا ؛ بل قد أبقى الله ذكره على رءوس الأشهاد، وأوجب شرعه على رقاب العباد، مستمرا على دوام الآباد، إلى يوم الحشر والمعاد ، صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم التناد." انتهى، من " تفسير ابن كثير" (8/504-505) .
وقال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله :
" وَقَوْلُهُ: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [الكوثر: 3] يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: إِنَّ شَانِئَكَ [الكوثر: 3] إِنَّ مُبْغِضَكَ يَا مُحَمَّدُ وَعَدُوَّكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [الكوثر: 3] يَعْنِي بِالْأَبْتَرِ: الْأَقَلَّ وَالْأَذَلَّ الْمُنْقَطِعَ دَابِرُهُ، الَّذِي لَا عَقِبَ لَهُ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنِيِّ بِذَلِكَ .. " .
وحكى الخلاف في المعني بقول الله تعالى : ( هو الأبتر ) ، وذكر أقوال السلف فيه ، ثم قال :
" وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَ أَنَّ [ص:701] مُبْغِضَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْأَقَلُّ الْأَذَلُّ، الْمُنْقَطِعُ عَقِبُهُ، فَذَلِكَ صِفَةُ كُلِّ مَنْ أَبْغَضَهُ مِنَ النَّاسِ، وَإِنْ كَانَتِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي شَخْصٍ بِعَيْنِهِ " انتهى من "تفسير الطبري" (24/697-700).
والحاصل في هذا المقام :
أن آيات السورة العظيمة ، إنما نوهت بذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشرف مقامه السامي، وردت على أعدائه الجهال الفجار ؛ وأخزتهم ، وكبتتهم ؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم : ذكره باق مرفوع مشهور ؛ لا ينقطع أبدا ، وإنما ينقطع ، ويضمحل ، ويزول ويمحق : من يَشْنَؤُه ، صلى الله عليه وسلم ، ويبغضه ، ويعاديه .
وهذا المقام المذكور : مقام محق الشانئ المعادي : إنما هو خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم ، بلا ريب ، ولا خلاف بين أهل العلم في ذلك ؛ بغض النظر عن شخص هذا الشانئ المعادي .
قال الإمام أبو القاسم السهيلي رحمه الله ، بعد ذكر الخلاف فيمن نزلت هذه الآيات في شأنه ، ووصفه بأنه "أبتر" ، على نحو ما سبق :
" إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ، وَلَمْ يَقُلْ: إنّ شَانِئَك أَبْتَرُ = يَتَضَمّنُ اخْتِصَاصَهُ بِهَذَا الْوَصْفِ، لِأَنّ (هُوَ) فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ ، تُعْطِي الِاخْتِصَاصَ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: إنّ زَيْدًا فَاسِقٌ، فَلَا يَكُونُ مَخْصُوصًا بِهَذَا الْوَصْفِ دُونَ غَيْرِهِ، فَإِذَا قُلْت: إنّ زَيْدًا هُوَ الْفَاسِقُ، فَمَعْنَاهُ: هُوَ الْفَاسِقُ الّذِي زَعَمَتْ ؛ فَدَلّ عَلَى أَنّ بِالْحَضْرَةِ مَنْ يَزْعُمُ غَيْرَ ذَلِكَ .
وَهَكَذَا قَالَ الْجُرْجَانِيّ وَغَيْرُهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ : أَنّ (هُو)َ تُعْطِي الِاخْتِصَاص ...
وَالْأَبْتَرُ: الّذِي لَا عَقِبَ لَهُ يَتْبَعُهُ ، فعدمه كالبَتَر ، الذى هو عدم الذّنْبِ " انتهى من "الروض الأنف" (3/402-403) .
وقال العلامة ابن عاشور رحمه الله :
" فقوله تعالى: هو الأبتر اقتضت صيغة القصر إثبات صفة الأبتر لشانىء النبيء صلى الله عليه وسلم ونفيها عن النبيء صلى الله عليه وسلم، وهو الأبتر بمعنى الذي لا خير فيه. ولكن لما كان وصف الأبتر في الآية جيء به لمحاكاة قول القائل: محمد أبتر إبطالا لقوله ذلك .. " انتهى من "التحرير والتنوير" (30/576-577) .
والله أعلم .
الاسلام سؤال وجواب
..........................