الإحرام بالإزار المخيط
أ. د. إبراهيم بن محمد الصبيحي
رسالة مختصرة
من كتاب (المشكل من لباس الإحرام)
تأليف: د. إبراهيم بن محمد الصبيحي
الأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فقد أُحدث في هذه الأزمنة بعض الصفات على لباس الرجال للإحرام بناءً على بعض الفتاوى، ممَّا استدعى الوقوف على مذاهب الأئمة رحمهم الله؛ لمعرفة ما أوردوه من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم في لباس الإحرام، وتحديد أقوالهم في فقه هذه السنن؛ حتى يتضح حكم ما جدَّ في لباس الإحرام من صفات، وقد يسَّر الله تعالى لي القيام بهذه الدراسة في كتاب: (لباس الإحرام)، وتيسيرًا على القارئ الكريم فقد رأيت نشر مطوية أوجزتُ فيها حُكم بعض ما جدَّ من هذه الصفات، وأحسب أن هذا من باب التناصُح في الدين، والله الموفِّق والمُعين.
الإحرام بالإزار المخيط
انتشر في الآونة الأخيرة الإحرام بالإزار المخيط بناءً على فتوى لأحد المشايخ رحمه الله، والتي قرَّر فيها جواز الإحرام بهذا النوع من الألبسة، وقد تابعه على القول بهذا كثير من تلاميذه، وقد استدلَّ لقوله هذا بمجموعة من الأدلة، من أظهرها أن الواجب الاقتصار في التحريم على ما ورد النهي عنه على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن نهيه صلى الله عليه وسلم في حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنه جاء بالعدِّ ولم يأت بالحدِّ.
كما أن الإزار المخيط ليس بمعنى ما ورد النهي عنه، بل هو بمعنى ما ورد الأمر بلبسه؛ لأنه لا فرق بين الإزار المخيط وغير المخيط، فكلٌّ منها يسمى إزارًا، ثم إن كلمة مخيط لم تَرد في السنة النبوية، ولا عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، إنما جاءت عن أحد التابعين؛ ولذا لا يصح الاحتجاج بها على تحريم ما أصله الإباحة، هذا ملخص ما قاله رحمه الله وعفا عنا وعنه.
الجواب:
ما ذكره رحمه الله من أنَّ التعبير النبوي في بيان المنهي عنه مِن اللباس محصور في العدِّ دون الحد، غير صحيح، بل الصحيح أنَّ البيان جاء بالعد والحد معًا؛ أما بيان العد، فقد جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أنه قال: قام رجل فقال: يا رسول الله، ماذا تأمرنا أن نلبس من الثياب في الإحرام؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تلبسوا القميص، ولا السراويلات، ولا العمائم، ولا البرانس، إلا أن يكون أحد ليست له نعلان، فليَلبس الخفَّين، وليقطعهما أسفل مِن الكعبين، ولا تلبَسوا شيئًا مسَّه الزعفران ولا الورس، ولا تَنتقِب المرأة المحْرِمة ولا تلبس القفازين))؛ متفق عليه.
وأما البيان بالحد، فقد جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((مَن لم يجد إزارًا، فليلبس السراويل))؛ متفق عليه، فهذا الحديث يدل على أنه قد حدد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجوز لبسه، وهو الإزار، ومن المعلوم أنه نوعٌ واحد وليس أنواعًا مُختلفة، فهذا بيان منه صلى الله عليه وسلم بالحد، وليس بالعد، يؤكِّد هذا أن الحديث يدلُّ على عدم لبس ما ورد النهي عنه بالعد إلا إذا فقد ما يجوز لبسه المبين بالحد، وهو الإزار، والإزار غير مخيط كما دلت على ذلك اللغة الواردة في معنى كلمة (رَيْطَة).
كما أن إحرام النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه بالإزار والرداء من باب بيان الحدِّ لا العد؛ لأن هذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم وإقراره لفعل الصحابة رضي الله عنهم حينما تأسَّوا به، خرج مخرج بيان الواجب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لتأخذوا مناسككم))؛ رواه مسلم في الصحيح.
فالعد فيما نَهى عن لبسه، والحد فيما يجوز لبسه، وهو الإزار.
وبناءً على هذا، فالتعبير بالعد ليس أولى من التعبير بالحد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عبَّر بهما معًا، وكان التعبير بالحد متأخرًا عن التعبير بالعد؛ وذلك أن حديث ابن عباس جاء في خطبته صلى الله عليه وسلم بعرفة، وإحرامه بالإزار والرداء كان لخروجه للحج، وهذان الحديثان هما دليل البيان بالحد، أما التعبير بالعد، فقد جاء بالمدينة قبل الخروج لأداء النسك، ومن المعلوم أن السنة الأخذ بالآخِرِ فالآخِرِ من أموره صلى الله عليه وسلم.
ومع هذا، فقد دل الإجماع والسنة والقياس ولغة العرب وقواعد الترجيح عند الأصوليين على أن الإزار المخيط يختلف حكمه عن الإزار غير المخيط، وبيان هذا في الأمور التالية:
1- انعقد إجماع المسلمين على تحريم لبس الإزار المخيط على المُحرِم؛ نَقل هذا الإجماعَ جماعةٌ من أهل العلم؛ كابن عبدالبر (انظر فتح البر في ترتيب التمهيد (8/ 198)، وابن بطال في شرحه لصحيح البخاري (4/ 214، 216)، والقرطبي في المفهم شرح صحيح مسلم (3/ 256)، وابن قدامة في المغني (5/ 118 - 119)، وشيخ الإسلام ابن تيمية في شرح العمدة (2/ 21)، والعراقي في طرح التثريب (5/ 45)، وابن مفلح في الفروع (3 / 368) والمرداوي في الإنصاف (3/ 466)، والنووي في المجموع (7/ 236)، وابن هبيرة في الإفصاح (1/ 283) رحمهم الله، ومن المعلوم لدى كافة المسلمين أنه لا يجوز مُخالفة الإجماع، بل لقد شدَّد آل تيمية رحمهم الله في النهي عن ذلك كما في المسودة (ص: 308).
2- دلَّت السنة على تحريم لبس السراويل وغيرها مما يُخاط على قدر البدن أو على قدر عضو من أعضائه، وقد تنوَّعت دلالات السنة في ذلك؛ فمنها ما جاء بِعَدِّ المنهي عنه، ومنها ما جاء ببيان ما يجوز لبسه من الإزار والرداء، والواجب العمل بجميع دلالات سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز الاحتجاج ببعضها وعدم الاحتجاج ببعضها الآخر.
3- دلَّت السنة أيضًا على أن المشروع لبسه للمُحرم هو الإزار، والإزار عند الإطلاق غير مخيط، كما جاء في لغة العرب؛ وذلك أنه يعرف عندهم بأنه الملحفة، ثم جاء في تعريف الملحفة بأنها المُلاءة، كما جاء في تعريف الملاءة بأنها الرَّيْطة، ثم جاء تعريف الرَّيْطة بأنها ليست ذات لفقين؛ أي: غير مخيط، وبهذا يتحدَّد لنا من لغة العرب أن الإزار غير مخيط، وهو ما انعقد عليه الإجماع.
4-دلَّ القياس على تحريم ما صُنع على قدر البدن أو على قدر عُضْو من أعضائه؛ لأن الأمور التي ورد النهي عنها تَجتمع بهذا الوصف، فالواجب فيما لم يَرد ذكره بالاسم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلحاقه بما يتفق معه بالوصف، وهذا هو شأن الإزار المخيط، فهو يتَّفق مع ما نهى عنه؛ لأنه قد خِيطَ على قدْر النصف الأسفل من البدن؛ فهو كالسراويل.
5- مُخالفة قاعدة من قواعد الترجيح؛ وذلك أن إلحاق الإزار المخيط بالإزار غير المخيط، بناءً على قاعدة: "الأصل في الأشياء الحل" غير صحيح، بل الواجب إلحاق الإزار بالسراويل بناءً على قاعدة: "تقديم الحاظر على المُبيح عند التنازع"؛ لأن الإزار المخيط له شبه بالإزار غير المخيط، كما أن له شبهًا بالسراويل، فهو بهذا تَنازَعَه دليلان؛ أحدهما مُبيح، وهو إلحاقه بالإزار، والآخر حاظر، وهو إلحاقه بالسراويل، وعند التنازُع يجب إلحاقه بالحاظر براءةً للذمة ودفعًا للريبة، ثم إن إعمال قاعدة الأصل في الأشياء الحل إنما يكون في أمر لم ينازعها فيه الأدلة، أما عند التنازع، فيجب تقديم الحاظر على المبيح، والله أعلم وأحكم.
6-مخالفة اللغة العربية؛ وذلك أن اسم الإزار المخيط عند العرب: هو النُّقبة؛ وهي نوع من أنواع السراويل؛ كما قال ابن الأثير رحمه الله، وقد وقفت على هذا الاسم من خلال مطالعتي لكتاب المخصص لابن سيده رحمه الله، فقد ذكر في فصل السراويل أن من أنواعه النُّقبة، وأنها خرقة يجعل أعلاها كالسراويل وأسفلها كالإزار ا. هـ، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلبس الإزار، ولم يأمر بلبس النُّقبة.
كما أنه يُشبه النطاق، والنطاق لباس مخيط مخصص للنساء يُشبه التنورة، إلا أنه ليس له تكة، بل يثبت من أعلاه بخيط يُدار على البدن، وأول من انتطَق أم إسماعيل عليه السلام، وقد عُرفت أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها بأنها ذات النطاقين.
وبناءً على هذا، فالإزار المخيط محرَّم بنص السنَّة، فلا يجوز إلحاقه بالألبسة المباح لبسها للإحرام؛ احتجاجًا بما يُعرف به من اسمه عند العوام في هذا الزمن، ولو تمَّ الرجوع إلى الاسم الذي أطلقته عليه العرب قبل الإسلام، لما حصل هذا الاختلاف في الفتوى؛ لوجود الفارق بين الإزار غير المخيط والنُّقبة التي هي الإزار المخيط؛ وذلك في الاسم والوصف وكيفية الاستعمال، ثم إن الإزار المخيط صار من ألبسة النساء في هذا الزمن، وهو المعروف لديهنَّ بالتنورة، وقد بحثتُ عن هذا الاسم فيما لديَّ من كتب اللغة، فلم أقف عليه، إلا أني وقفت عليه في كتاب رحلة ابن بطوطة؛ فقد ذكر أن أحد شيوخ الصوفية بمصر كان يلبس التنورة، وهو ثوب يَستر من سرَّته إلى أسفل، كما ذكر أن بعض الصوفية كانوا يلبسونها أيضًا في الهند (ص: 552).
ولهذه الأدلة مجتمعة؛ أرى أنه لا يَجوز الإحرام بهذا النوع؛ لأن القول بجوازه قول لم يقلْ به أحد من علماء المسلمين الأئمة المتبوعين، إلا أن الشوكاني رحمه الله يرى أن النهي خاص بما ورد في حديث ابن عمر رضي الله عنهما دون غيره؛ كما في كتاب السير الجرار (2/ 178)، لكنه رحمه الله لم يحدِّد رأيه في معنى السراويل، وهل النُّقبة من السراويل أم لا، كما أنه لم يحدِّد رأيه في حكم لُبس ما خِيطَ من الإزار؛ ولذا فلا يصحُّ أن ينسب إليه القول بجواز لُبس ذلك، ومع هذا فلم أر أحدًا سبقه إلى ما قال به، حتى إن أهل الظاهر على خلافه، فقوله هذا لا يخرق الإجماع؛ لأنه سابقٌ على قوله، ومع هذا فلم يشهد للقول بصحة لُبس الإزار المخيط دليلٌ؛ لا مِن السنَّة ولا مِن القياس، والله أعلم.
وعلى أي تقدير، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن إلا بلبس الإزار لأسفل البدن لمن وجده، والنُّقبة ليست إزارًا، بل هي سراويل أو فيها شبه بالسراويل، وهذا النوع من الألبسة قد جاء النص بالنهي عنه، كما أنه من ألبسة النساء في الجاهلية والإسلام، قال عمر رضي الله عنه: "ألبستني أمي نُقبتها"؛ أورد هذا الأثر ابن الأثير رحمه الله في كلمة نُقبة من كتاب (النهاية في غريب الحديث)، ومَن حاول إلحاقه بالإزار، فعليه أن يتذكَّر أن إزار النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مخيطًا، وقد أمَرَنا صلى الله عليه وسلم أن نأخذ بأفعاله؛ لأنها جاءت لبيان الواجب من أقواله، وبهذا تكون السنة القولية والفعلية والتقريرية والإجماع واللغة العربية قد اتفقت في الدلالة على أن الإزار غيرُ مخيط، وبناءً على هذا؛ فعلى من لَبِسَه كفارة لبس المخيط مع الاستغفار؛ لأنه لا يوجد وجه شرعي مع من أجاز لُبسه يُسوِّغ الخلاف في ذلك، وقد استقصَيت دراسة رأي الشيخين في الكتاب المشار إليه بعنوان (هذه المطوية)، فمن أراد مزيدًا من الإجابة عن الإشكالات الواردة على الرأي المجمع عليه، فليرجع إلى المصدر المشار إليه، والله ولي التوفيق.
كتبه: المؤلف - 14/ 11/ 1425هـ