الإسراف
عبد الرزاق البدر
خَصلةٌ ذميمة، وخَلَّةٌ مشينة؛ جاء ذمُّها في كتاب الله - تبارك وتعالى -، والتحذير من فِعلها، وذمِّ أهلها، وبيان ما أعدَّ الله لهم من عقوبات في الدنيا والآخرة ألا وهي: الإسراف، وفي القرآن الكريم ما يزيد على العشرين موضعاً في التحذير من الإسراف، وذمِّ المسرفين.
- فأخبر الله - جل وعلا - أنَّه لا يحب أهل الإسراف قال الله - تعالى -: (وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)[الأعراف:31].
- وأخبر - جل وعلا - بأنَّ المسرفين هم أهل النار قال الله - تعالى -: (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ)[غافر:43].
- وأخبر - جل وعلا - أنَّ الإسراف سببٌ لهلكة أهله، وحلول العقوبة بهم في الدنيا والآخرة قال الله - تبارك وتعالى -: (ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ)[الأنبياء:9]، وقال - تعالى -: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)[الإسراء:16].
- وأخبر - جل وعلا - أنَّ الإسراف من تزيين النفس الأمَّارة بالسوء، وتزيين الشيطان قال الله - تعالى -: (كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[يونس:12].
- وأخبر - سبحانه وتعالى - أنَّ الإسراف موجبٌ للحرمان من الهداية، والتوفيق من الله - جل وعلا - قال الله - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ)[غافر:28]، وقال الله - تعالى -: (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ)[غافر:34]، والآيات في هذا المعنى عديدة.
والإسرافُ: مجاوزة القصد وحدِّ الاعتدال، ولا يختص في باب النفقة كما هو شائع لدى كثيرٍ من الناس قال إياس بن معاوية - رحمه الله تعالى -: «ما جاوزتَ به أمر الله فهو سَرَف»؛ فالإسراف له صورٌ كثيرة، وأنواعٌ عديدة، ولا يختص في جانب النفقة، والمطعم، والمأكل.
وإنَّ أخطر الإسراف وأشنعه: الكفر بالله رب العالمين، والإشراك به باتخاذ الأنداد، وتكذيب الرسل والنبيين قال الله - تعالى -: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى)[طه:127]، ومن الإسراف: الإسراف في القتل؛ بأن يُقتل غير القاتل، أو أن يُتعَدَّى على ذوي القاتل ظلماً وبغياً، أو أن يُتعدَّى على القاتل نفسه تمثيلاً وتجاوزاً وتعدِّياً؛ فكل ذلكم إسرافٌ محرم قال الله - تعالى -: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا)[الإسراء:33].
ومن الإسراف: فِعل الفواحش، واقتراف الرذائل، ولذا قال لوط - عليه السلام - في نصحه لقومه، وتحذيره لهم: (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ)[الأعراف:81]، وقال الله - جل وعلا - في ذكر سياق حلول العقوبة بهم: (قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ)[الذاريات:31-34].
وعموماً كل اقترافٍ للذنوب، وارتكابٍ للخطايا والآثام؛ فهو من الإسراف، وصاحبه معرض للعقوبة.
وأما الإسراف في النواحي المالية، والمطاعم، والمشارب، والملابس ونحو ذلك فبابٌ مشهورٌ معلوم قال الله - تبارك وتعالى -: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)[الأعراف:31]، روى الإمام أحمد - رحمه الله - في مسنده بسندٍ صحيح من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كُلُوا وَاشْرَبُوا، وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا؛ فِي غَيْرِ مَخِيلَةٍ، وَلَا سَرَفٍ))، وروى البخاري في صحيحه تعليقاً عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّه قال: «كُلْ مَا شِئْتَ، وَالبَسْ مَا شِئْتَ، مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ: سَرَفٌ، أَوْ مَخِيلَةٌ».
والإسراف في الأموال والمطاعم، والمشارب والملابس؛ هو كلُّ تعدٍّ في هذا الباب سواءً في سبُل تحصيلها، أو في طرائق إنفاقها وبذلها، فكل ذلكم يدخله الإسراف؛ إذ إنَّ كل تجاوز لحد الشرع في ذلك سواءً اكتساباً لهذه الأموال، أو إنفاقاً لها؛ فهو من الإسراف، وصاحبه معرض للعقوبة.
فأكل الربا والرشوة، والميسر والتحايل على الناس، وغشِّهم في البيع والشراء؛ كل ذلكم إسراف في باب اكتساب الأموال.
وكذلك: تناول ما حرَّم الله من مأكل أو مشرب؛ كتعاطي المخدرات، وشرب الخمور، وشرب الدخان ونحو ذلك كلُّ ذلك من الإسراف، فكم من أموال أُهدرت بيعاً وشراءً لهذه المحرمات، وكل ذلك من الإسراف، وصاحبه معرض للعقوبة.
وفي باب الملبوسات كم يقع الناس في صورٍ من الإسراف المحرمة يتعدَّون فيها حدود الله سواءً بلبس ألبسة محرمة في ذاتها؛ كالذهب والحرير على الرجال، أو بتجاوز حدِّ الشرع فيها كالإسبال في الثياب، ولبس ثياب الشهرة ونحو ذلك؛ فكل ذلك من الإسراف المحرم، وفاعله معرض للعقوبة.
ومن الإسراف: الإسراف في المناسبات والاحتفالات - ولاسيما مناسبات الزواج، ونحو ذلك -؛ فكم يقع فيها من صور شنيعة من الإسراف، ناهيك عما يقع من أفعالٍ محرمة، وصورٍ منكرة، وهي داخلةٌ في الإسراف، وفاعل ذلك معرض للعقوبة.
والإسراف بابٌ واسع يدركه كلُّ متبصِّر، ويعرفه كلُّ متأمل، ألا فلنتقِ الله ربنا - جل وعلا -، ولنتذكر أن مردَّنا إلى الله، وأننا سنقف بين يديه - جل في علاه -، وأنَّه سائلنا - سبحانه -؛ فلنعِدَّ للمسألة جواباً، وليكن الجواب صواباً.
وقد دعا الله - تبارك وتعالى - في آية في القرآن - وُصفت بأنها أرجى آية في القرآن - عبادَه إلى التوبة إليه من الإسراف في كلِّ صوره، وجميع أشكاله، منبِّهاً عباده أنَّه - سبحانه - يقبل توبة التائبين، وإنابة المنيبين مهما كان الذنب، ومهما بلغ الجُرم قال الله - تعالى -: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[الزمر:53]، ومن الدعوات في القرآن الكريم: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)[آل عمران:147]، وثبت في صحيح مسلم أنَّ نبينا - صلى الله عليه وسلم - كان يقول بين التشهد والتسليم في صلاته: ((للهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَسْرَفْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ، وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ))، سدَّد الله خطانا أجمعين، وأصلح لنا شأننا كلَّه، إنَّه - تبارك وتعالى - سميع الدعاء، وهو أهل الرجاء، وهو حسبنا ونعم الوكيل.