أما بعد: فقد دار الزمان دورته، وها هي الأيام تُطوى سِراعًا، فإذا نحن ننتظرُ شهرًا غاليًا عزيزًا، طالما تاقتْ النفوسُ لبلوغه، وهَفَتْ الأرواح لساعاته .
فأيامُه الروحانيَّةُ هي أحلى أيامِ العمرِ وأغلاها، فيه الهدى والنور، والسعادة والحبور (شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدى للناس وبيِّناتٍ من الهدى والفرقان).
حياة شهر رمضان حياةٌ تختلف عن غيرها، حياة تعود فيها النفوسُ إلى رشْدِها، وباب ربِّها، فتنطلق حينها الجوارحُ إلى أعمالٍ صالحاتٍ، وطاعاتٍ وقرباتٍ.
الكلُّ ينتظرُ رمضان، ويتحيَّنُ قدومَ شهرِ القرآن، والكلُّ قد عَزَمَ على عمل صالح فيه، فهذا يُمنِّي نفسَه إذا دخل رمضان أن يكون رفيقَ القرآنِ وليصقَه، فلا ينقضي رمضان إلا وقد ختَمَه ما شاء الله له أن يختم.
وذاكَ قد عزم على قيام ليلِه كلِّه مع إمامه، ليدرك بذلك أجر: (من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدَّم من ذنبه).
وثالثٌ قد استعدَّ للبذلِ والإنفاق، والإكثارِ من تفطيرِ الأكبادِ الصائمة، وإطعامِ البطونِ الجائعة.
ورابعٌ يجدُ نفسَه في السعيِّ في قضاءِ حوائجِ الفقراءِ والمساكين، وتخفيفِ معاناتِهم، وإدخالِ السرورِ على قلوبِهم.
وهذه أبوابٌ من البِرِّ عظيمة ، تُصبُّ لها الحسنات صبًّا، إنْ صحَّتْ لأصحابها النيةُ والاقتداء.
لنتجاوز هذه الفضائل، ولِنَقِفَ مع عملٍ صالحٍ أبرَّ وأتقى، وأزكى وأبقى، هو: إصلاح القلب في رمضان.
فما أحوج هذه القلوب التي غزَتْها الشهوات والشبهات أن تَتعاهدَ وتُغسَل قبل موسمِ رمضان، لتذوق حقًا طعم رمضان، وتعيشَ صدقًا روحانية رمضان.
ألا ما أسعدنا إذا دخل علينا رمضان وقلوبنا تتلألأ بياضًا وطِيبة وطهارة، ذلك العمل الصالح، الذي ينفع صاحبه ويبقى (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم).
الكلُّ يطمح في رمضان لمغفرة الرحمن، وهل الصيامُ والقيامُ إلا لأجلِ بلوغِ هذا الهدفِ المنشود، وصاحبُ القلبِ السليمِ هو قريبٌ من نظِر الرحمن، فهو أقربُ وأحرى من غَيرِه بالرحمةِ والغفران، فالله جل جلاله لا ينظر إلى الصورِ والأشكال، وإنما ينظرُ إلى مستودعِ القلوب، ومكنوناتِ الصدور.
فشهرُ رمضانَ الذي أنزل فيه القرآنُ يحتاجُ إلى قلوب سليمة لتعيش مع هذا القرآن، يحتاج إلى قلوب نقية، تقلِّبها آيات الوعيد، فينبضُ لها القلب خاشعًا، وترتدُّ لها الجلود مُقشعرَّة، تعظيمًا وإجلالا لله الواحد القهار.
يحتاج إلى صدور تهفو لآيات الوعد، فتطير القلوب شوقًا لما عند الله ( وما عند الله خير للأبرار).
شهر القرآن يحتاج إلى قلوب تَتَدَبَّر وتَتَفَهَّم وتتعقَّل معانيَ القرآن، تدبُّرٌ يُنتجُ عملا، وأولُّ عمل يورثه تدبُّر القرآن هو عمل القلب، بتعظيمه لمقام ربه، وخوفه ورجائه، وهذا هو حقُّ كلام الله، أن نعمل به في بواطننا في تعظيم ربنا، وأن نعمل به في ظواهرنا في الاستجابة لأمر خالقنا.
قال الحسن البصري: إن الله أنزل القرآن ليعمل به، فاتَّخذ الناس تلاوته عملا.
صاحبُ القلبِ السليمِ أهنأُ الناسِ عيشًا وأعظمهم أجرًا في رمضان، فهذه المضغة البيضاء النقية التي يحملها بين جنبيه قد انعكس أثرُها على الجوارح، فلا لَغْوَ يلفظه الفَمُ، ولا خيانةَ يرسلها الطرف، ولا فُحْشَ تُصغي له الأذان، ولا شُحَّ تقبضه اليد، ولا خَنا تمشي له القدم، فهذه جوارحُ قد استقامتْ وما مالتْ باستقامة القلب قبل ذلك، وصدق من لا ينطق عن الهوى: (ألا وإنَّ في الجسدِ مضغةً إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجسدُ كلُّه، وإذا فَسدتْ فَسَدَ الجسدُ كلُّه، ألا وهي القلب).
إصلاح الباطن يعني أن يتقلَّبَ القلبُ في أعمالٍ خَفيَّات، من الإخلاص والتوكل والخوف والمراقبة، إلى غير ذلك من الأعمال السِّرية التي لا يراها الناس، والتي يجزي عليها ربُّ الناسِ الجزاءَ الأوفى.
إصلاح الباطن يعني أن يُنفضَ من القلب نبضاتِ الكِبْر، وعقاربَ الحسد، وخطراتِ الغرور والاستعلاء، ونارَ الغلِّ والشحناء.
إصلاح الباطن يعني أن يكون لدى العبدُ إحساسٌ مُرْهَف، على تفريطه في طاعة الله، فشبح التقصير لا يغادر خواطره، فهو يتمنَّى ويتمنى...
يتمنَّى ماذا؟ يتمنى أن يُغيِّرَ من حاله إلى الأحسن، وأن يسعى جِدًّا وِصدْقًا للآخرة حقَّ سعيها، فيلتحقَ مع ركب الطائعين، ويُذلِّلَ وجهه مع الساجدين القائمين.
إصلاح الباطن يعني أن تُخالجَ القلبَ حسراتُ الندمِ على ما مضى وكان، في أيامِ الغفلةِ والعصيان، فالنَّدم عمل قلبي، والنَّدم توبة كما قال النَّبي ، والله يحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويدخلُ في الطهارةِ طهارةُ القلبِ وسلامتُه دخولا أوليًا.
إصلاح الباطن يعني أن تكون بين جنبي العبدِ نفسٌ لوَّامة، تُحاسب ُصاحبَها على كلِّ تقصير، ولا تَستهينُ بكل حقير، وتؤزُّه نحو الخير أزَّا.
فهذه الملاومة والمحاسبة سبب رئيس للإقلاع عن المعاصي، وتجفيف منابعها.
إذ لا أفسدَ على صلاحِ القلبِ من المعاصي الظاهرة ، فهي تمُرِضُ القلوبَ وتزرعُ فيها النُّكَتَ السوداء.
وكما أنَّ أعمال البواطن تُصلح الظواهر، فكذلك تماما الخطايا الظاهرة تفسدُ القلبَ وتُضعفُه وتوهنُه.
هذه المحاسبة اللازمة الدائمة من النفس اللوامة لا شك أنها واعظ صامت تكُفُّ النفسَ عن شهواتها كفًّا، قال الحسن البصري: "العبد لا يزالُ بخير ما كان له واعظٌ من نفسه، وكانت المحاسبةُ همَّتَه".
عباد الله:
وإذا صَلَحَ القلبُ واستقام تحركت الهِمَّة، واشتعلت العزيمة، فترى سليم القلب يملك نفسًا توَّاقةً إلى المعالي، وروحًا بعيدة عن الكسل والتسويف والتواني.
قلبُه السليم الطاهر يدلُّه على كل خير، ويصرفه نحو كلِّ معروف، تراه يرتاح بالصلاة، ويعشق الصيام، ويَحِنُّ للقرآن.
ينشرح مع الذِّكْر، ويتلذَّذ بصلة الرَّحَم، ويسعد بزيارةِ المريض.
يأنس بمسح رأس يتيم، ويسعى لسدِّ فاقة كلِّ كسير.
يُسارِع لِجَنَّة عرضُها السموات والأرض، من خلال تلمُّس الأعمال التي يدخل من أبوابها.
وتلك منازل لا يوفق إليها إلا من وفَّقه الله سبحانه، وأهل القلوب السليمة أهلٌ لتوفيق الله تعالى، لقربهم منه، ولمحبته لهم، ولذا جعل سبحانه أهلَ جنتِه سرائرَهم بيضاء، لا غِلَّ فيها ولا بُغضَ ولا شحناءَ (ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله).
فلنفتحْ صفحةَ مصارحةٍ، وليسائل كل واحد منَّا نفسه:
ما حالُه مع مَلِكِ الأعضاء وسيِّدِ الجوارح؟!
ما حالُنا مع خبايا القلب وما يُكنُّه الضمير؟!
هل تفقَّد كلُّ واحدٍ منَّا باطنَه، فرأى بمنظار بصيرتِه أدواءً جاثمة في قيعان قلْبه؟!
مَن منَّا وقف مع نفسه مذعورًا؛ لأنه استشعر داء العُجْب والكِبْرِ يدبُّ في قلبه؟!
مَنْ منَّا مَنْ صارح نفسه في لحظة مُحاسَبة وخلوة عن عقارب الحسَد الذي يتحرك بين جوانحه؟!
هل تفقَّدنا القُلُوب من شهوة الرياء وحب الظهور؟!
وهل تفقدنا الصدور من خَطَراتِ الاستعلاء ووساوس الغرور؟!
لا تلتفت يا عبد الله يمينًا وشمالا، وتظن أنَّ هذه أدواءً قد بُلي بها غيرك، وعوفيت منها، فالجميع يعاني قدرًا من هذه الأمراض، وتمر به أشياءُ من هذه الأسقام، قلَّ ذلك أو كثر، وإنَّما السعيد مَن اسْتَدْفعَها، والشقيُّ مَن أهملها، وتركها تجثم وتغور جُذُورها.
إخوة الإيمان: ها هو رمضان قد أزفت أيامُه، ولاحت في الأفق أنوارُه، فجدِّدوا فيه القلوب، وعلِّقوها بعلام الغيوب.
فيا أخي المبارك سامح الخَلْقَ، وأصدر عفوًا لكل من بينك وبينه خصومه، فهذا وربي عمل بارٌّ صالح، استحقَّ به أحدُ الصحابة جنةً عرضها السموات والأرض.
يا أهل الإيمان: أيام ويعلن دخول رمضان ، فإن أدركناها فلنحمد الله على بلوغها، وإن كان غير ذلك فاللهم ارحم منقلبنا إليك، فكم من نفوس أمَّلَتْ ادراكه فأدركتها المنايا (ثم ردُّوا إلى الله مولهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين).
وأخيرًا أخي المبارك كن أول السَّبَّاقين، وعجِّل لرضى ربِّ العالمين، املأ قبلك إخلاصًا، وفؤادَك إخباتًا، وانهَ نفسك عن هواها (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصًا له الدين).
عاهد نفسك ورتب جدولك ووقتك، فأيام شهر المبارك أقل من أن تضيعها في مسامرات ضائعة، وصبوة طائشة.
فاللهم يا كريم يا رحمن بلغنا شهر رمضان، واجعلنا فيه من المعتَقين من النار، اللهم أهلَّه علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، واجعلنا بفضلك وعونك ممن يصومه ويقومه إيمانًا واحتسابًا.
الملفات المرفقة
تقديرا لمجهود صاحب البوست او المشاركه فانه لا يمكن مشاهدة الروابط إلا بعد التعليق على البوست In appreciation of the efforts of the owner of the post or participation, the links cannot be viewed until after responding to the post or participation
(34.8 كيلوبايت)
تقديرا لمجهود صاحب البوست او المشاركه فانه لا يمكن مشاهدة الروابط إلا بعد التعليق على البوست In appreciation of the efforts of the owner of the post or participation, the links cannot be viewed until after responding to the post or participation
(307.0 كيلوبايت)