"جلسة الإستراحة بين الدليل والدلالة"
س/ ما هي جلسة الاستراحة، وما حكمها في الصلاة؟
ج/ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين.
وبعد؛ فإن جلسة الاستراحة كغيرها من الجلسات التي تفعل بين السجدتين، لكنها تختلف عنها بكونها جلسة خفيفة.
وإن شئت، فقل: هي جلسة تفعل بعد السجدة الثانية في كل ركعة بعدها قيام ولا يعقبها تشهد.
قلت: لقد أجمع أهل العلم على أن جلسة الاستراحة ليست واجبةً، وأنه ليس لها ذكرٌ أو دعاءٌ أو تكبيرٌ خاصٌ بها.
بل يجلسها المصلي ساكتا ثم ينهض للركعة دون ذكر أو تكبير!
وهذا ممّا يُشعر بأن فعلها لم يكن عبادةً مستقلةً، بل فعلا مباحا يفعله ذو الحاجة لا قصدا، كما سيأتي بيانه، إن شاء الله.
أما حكمها: فقد اختلف أهل العلم في حكمها على ثلاث أقوال، كلها روايات عن الإمام أحمد رحمه الله.
القول الأول: استحباب فعلها في الصلاة مطلقا، وهو قول بعض الصحابة والتابعين، وبه أخذ بعض الشافعية ورواية عن الإمام أحمد وابن حزم.
القول الثاني: عدم استحباب فعلها في الصلاة مطلقا، وأنها ليس من سنن الصلاة، وهو قول جمهور أهل العلم، وعليه أكثر الفقهاء، كما حكاه عنهم النووي وابن حجر رحمهما الله، بل نص بعض الحنفية على كراهيتها!
القول الثالث: أنها سنة للمحتاج إليها: كالمريض أو الكبير أو من به حاجة لفعلها، وهو قول للشافعية والحنابلة وإليه ذهب ابن قدامة وابن القيم وغيرهما من محققي أهل العلم.
قلت: إن جلسة الاستراحة قد ثبتت سنيتها عن مالك بن الحويرث كما جاء عند البخاري، وعن أبي حُميد عند أحمد وأبي داود والترمذي وابن ماجه: بسند صحيح.
فعن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: "
رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدا" البخاري.
وقال أبو حُميد في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم: "
ثم هوى ساجدا...، ثم قال: الله أكبر، ثم ثنى رجله وقعد، واعتدل حتى يرجع كل عظم في موضعه، ثم نهض، ثم صنع في الركعة الثانية مثل ذلك..." أخرجه أحمد وأصحاب السنن ماعدا النسائي!
وهذا لفظ الترمذي، وهو لفظ عام، وجاء ما يخصصه عند أبي داود بلفظ: "
لا تبادروني بركوع ولا بسجود، فإنه مهما أسبقكم به إذا ركعت، تدركوني به إذا رفعت، إني قد بدَّنتُ" وهو أيضا عند أحمد وابن ماجه.
قلت: هناك استدراكات علمية وتعقبات فقهية متعلقة بجلسة الاستراحة، يطول بحثها مما لا تسعها هذه الفُتيا المختصرة؛ لكن الذي يهمنا من خلاف أهل العلم في أحكام مسألة جلسة الاستراحة مايلي باختصار:
أولا: أن الخلاف في جلسة الاستراحة سائغٌ عند عامة أهل العلم، ولكلٍّ دليله وتعليله.
ثانيا: أن مساغ الخلاف في هذه المسألة لا يمنع طالبَ العلم من ترجيح أحد الأقوال على غيره، مع عدم الإنكار على المخالف؛ فضلا عن التبديع أو التفسيق!
ثالثا: أن الراجح من الأقوال: هو القول باستحباب فعلها عند الحاجة؛ جمعا بين الأخبار وعملا بعمومها، بخلاف ما سواه من الأقوال، فكلها لم تسلم من نقد في الجملة، وليس هذا محل بسط تفصيلها!
ومع هذا فإنه ينبغي لمن ذهب إلى استحباب جلسة الاستراحة بإطلاق: بألا يخلط بين دليلها ودلالتها، فثبوت حديثها شيء، وفقه أحكامها شيء آخر، لذا فإننا قد وجدنا بعض طلاب العلم ـ فضلا عن غيرهم ـ لا يفرقون بين ثبوت أدلة جلسة الاستراحة وبين منزع فقهها، يوضحه الآتي باختصار.
تنبيهات منهجية:
التنبيه الأول: أن من ذهب إلى استحباب جلسة الاستراحة بإطلاق: لا يخلو من ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يكون منفردا: فيستحب له فعلها دون حرج.
الحالة الثانية: أن يكون مأموما في الصلاة، وهذا له حالتان:
الأولى: أن يكون خلف إمام لا يفعلها ـ لأمر أو آخر ـ فعليه والحالة هذه: ألا يجلس للاستراحة، بل يجب عليه متابعة الإمام؛ لأن متابعة الإمام من المسائل المجمع على مشروعيتها، ومتفق على وجوبها، بخلاف جلسة الاستراحة فمختلف في سنيتها بين أهل العلم!
لأجل هذا فإننا نقول: من تأخر عن متابعة إمامه ليفعل سنةً مشروعةً في صلاته: فقد خالف مشروعية وجوب المتابعة!
ولو ادَّعى أن تأخره يسيرا: فهذا لا يُخرجُه من كونه قد ارتكب مخالفةً للسنة القولية والفعلية!
لقوله عليه السلام: "
فإذا كبَّر (الإمامُ) فكبّروا، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا رفع فارفعوا" متفق عليه.
فجاء الأمر في الحديث بحرف "الفاء" الدالة على الترتيب والتعقيب دون تاخير أو مُهلة!
قال ابن تيمية في "المجموع": "والأقوى أن متابعة الإمام أولى من التخلف لفعل مستحب".
الثانية: أن يكون خلف أمام يفعلها؛ فهنا يشرع فعلها لوجهين:
١- لوجوب متابعته للإمام.
٢- ولاستحباب فعلها ـ لمن يرى مشروعيتها ـ.
الحالة الثالثة: أن يكون ـ من يرى جلسة الاستراحة ـ إماما: فيجب عليه مراعاة حال المأمومين، بألا يشق عليهم طولا أو تشويشا.
فأما إذا علم بأن المأمومين أو بعضهم سوف يسبقونه إلى القيام قبل أن ينهض هو: فيحرم عليه فعلها؛ كي لا يحملهم على مسابقة الأمام وترك متابعته!
فإن أبى الإمام إلا تطبيق سنة الاستراحة: فعليه أن يخبر المأمومين الذين يصلون خلفه: بمشروعية جلسة الاستراحة قبل أن يؤمهم.
* * *
التنبيه الثاني: أن من ذهب إلى عدم مشروعية جلسة الاستراحة بإطلاق: فلا يخلو أيضا من ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يكون منفردا؛ فلا يفعلها.
الحالة الثانية: أن يكون إماما؛ فلا يفعلها دون حرج، وعلى المأمومين متابعة إمامهم، حتى لو كان بعضهم يرى استحباب جلسة الاستراحة، كما مر معنا!
الحالة الثالثة: أن يكون خلف إمام يفعلها: فهنا يجب عليه فعلها لوجوب متابعة الإمام!
ويدل على ذلك: وجوب متابعة المأموم لإمامه في نقصٍ أو زيادةٍ داخل الصلاة: كما لو ترك إمامُه التشهدَ الأولَ نسيانا؛ فعليه والحالة هذه متابعته!
أما إذا خالف إمامه في جلسة الاستراحة، بحيث ينهض قبل إمامه: فهنا يحرم عليه مسابقة إمامه؛ لذا كان واجبا عليه أن يتابع إمامه، ولو في سنةٍ مختلفٍ فيها لوجوب المتابعة، والله تعالى أعلم.
وكتبه
الشيخ د/ ذياب بن سعد آل حمدان الغامدي.
( ١١ / ٩ / ١٤٣٧ )