فَضْلُ أُمِّ المؤمنين عائشةَ
(رضي الله عنها وأرضاها) (1):
إنَّها حبيبةُ رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وسلم)
خطبة أُلْقِيَتْ يومَ الجمعة 14 ذي القعدة1431هـ الموافق لـ:22 أكتوبر2010م.
قال اللهُ تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾[الأحزاب:6]...
زوجاتُ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) هُنَّ أُمَّهَاتٌ لِكُلِّ مؤمن...
أُمَّهَاتٌ: (في الحُرْمَةِ والاِحْتِرَام والتوقير والإكرام) ، (واستحقاق التَّعظيم) والإجلال، فكما تحترم أمَّكَ الَّتي وَلَدَتْكَ يكون احترامُك لهنَّ
-----------------------------------------------------------------------------------------
والمقصودُ أنَّ اللهَ تعالى عَظَّمَ بهذه الآية حقَّ نساء النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) ورضي الله عنهنَّ ...حقُّهُنَّ علينا عظيمٌ، هُنَّ مثلُ أمهاتنا اللائي وَلَدْنَنَا، بلْ أعظمُ، (واجبٌ علينا تعظيمهنَّ وإجلالهنَّ) .
وقد قام شقيٌّ عاقٌّ، وفاجرٌ خبيث ينتمي إلى طائفة معروفة موصولٌ خُبْثُهَا بخُبْثِهِ، قام بالطّعن في أُمِّنَا أُمِّ المؤمنين عائشة (رضي الله عنها) وتجَرَّأَ على الإعلان بسبِّهَا وتكفيرها، وقال فيها قولاً عظيمًا، وقال بحقِّهَا بهتانا وإثمًا مبينًا، قَبَّحَهُ اللهُ مِنْ فاجر، وقَبَّحَهُ اللهُ مِنْ خبيث، وقَبَّحَهُ اللهُ مِنْ زنديق....
وكلمتي اليومَ تذكيرٌ بـ:فضل أُمِّنَا عائشةَ (رضي الله عنها وأرضاها)، وبمناقبها الجليلة، وخصالها الجميلة، وحَرِيٌّ بكُلِّ مؤمنٍ أن يُحْيِيَ ذِكْرَهَا في قلبه وفي قلب زوجه وأهله وولده،
واجبٌ علينا أن نغرس حبَّهَا في القلوب ونُثَبِّتَ تعظيمها وإجلالها في النفوس....
هي: (بنت الإمام الصدِّيقِ الأكبر، خليفةِ رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم) أبي بكر) ، وأمُّهَا أمُّ رومان.
ـ وُلدت عائشة في الإسلام، وكانت تقولُ: (لم أَعْقِلْ أَبَوَيَّ إلاَّ وهما يَدِينَانِ الدِّين) .
ـ عقد عليها النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) قبل الهجرة (ببضعة عشر شهرًا) ، وعمرُها ست سنين، عقد عليها بعد وفاة الصدِّيقة خديجة، ووقع العقدُ في شهر شوال.
وكانت الأُخُوَّةُ التي انعقدت بين النبيِّ(صلى الله عليه وسلم) وأبي بكر، أخوَّةً وثيقةَ العُرَى، (فكان أحبَّ الناس إلى رسول الله أبو بكرٍ)، حتى ظنَّ أبو بكر أنّ ابنته عائشة لا تحلُّ لرسول الله(صلى الله عليه وسلم)،
قال أبو بكر لمّا علم أنَّ رسولَ الله(صلى الله عليه وسلم) يخطب إليه ابنته عائشة: (أَوَ تَصْلُحُ لَهُ وهي ابْنَةُ أخيه)، فقال(صلى الله عليه وسلم): (أنا أخوه وهو أخي، وابنته تصلُحُ لي) ، (أنت أخي في الإسلام وابنتُكَ تَحِلُّ لي) .
وَرَدَ في سَبَبِ زواج النبيِّ(صلى الله عليه وسلم) من عائشة، ما يدلُّ على أنّها اختيارُ الله تعالى لنبيِّهِ؛ فقد نزل جبريلُ بصورتها حتّى أمر رسولَ الله أن يتزوّجها ،
قال رسول الله(صلى الله عليه وسلم): (أُرِيتُكِ في المنام ثَلاَثَ لَيَالٍ، جاء بِكِ الملكُ في سَرَقَةٍ [أي: قطعةٍ] من حرير، فيقولُ هذه امرأتك، فأكشف عن وجهك فإذا أنت فيه[فأكشفها فإذا أنت هي]، فأقول: إن يَكُ هذا من عند الله يُمْضِهِ) .
ـ أَذِنَ اللهُ تعالى لرسوله بالهجرة مع صاحبه أبي بكر، فهاجرا وخَلَّفَ أبو بكر أَهْلَهُ، ليَلْتَحِقُوا بِهِ في المدينة بعد مُدَّةٍ....وَصَلَ آل أبي بكر إلى المدينة وفيهم الجُوَيْرِيَةُ الصغيرةُ عائشة، وهي زوجة للنبيِّ(صلى الله عليه وسلم)، لكنّه لم يدخل بها بعدُ، بل لا زالت عند أبويها؛ أبي بكر وأم رومان.
ـ ولمّا وصل المهاجرةُ إلى المدينة لم يُطيقوا هواءها وكان هواؤها متغيِّرًا، فيه الوباء، فمرض جمعٌ من الصحابة وأصابتهم حُمَّى المدينة، وممَّنْ أُصِيبَ: أبو بكر، وبلال،
عن عائشة قالت :
لمّا قدم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المدينة وُعِكَ أبو بكر وبلال، قالت: فدخلت عليهما، فقلت: يا أبت كيف تجدك؟ ويا بلال كيف تجدك؟ قالت: فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول: كلُّ امْرِىءٍ مُصَبَّحٌ في أَهْلِهِ / والموتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ.
وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى يرفع عقيرته ويقول:ألا ليت شعري هل أبيتن ليلةً/ بوادٍ وحَوْلِي إِذْخِرٌ وجَلِيلُ
["جليل": نَبْتٌ ضعيف تحشى به البيوت وغيرها]،
وهل أردن يومًا مياهَ مجنة ["المجنة": موضع على أميال من مكة بناصية مرِّ الظهران كان به سُوقٌ]
/ وهل يبدون لي شامةٌ وطفيلُ ["شامة وطفيل" : جبلان بِقُرْبِ مكة].
[اللّهمّ اخْزِ عتبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا من مكة]
قالت عائشة: فجئتُ رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) فأخبرته، فقال:
"اللّهمّ حَبِّبْ إلينا المدينة كحُبِّنَا مكة أو أشد، وصحِّحْهَا وبارك لنا في صاعها ومُدِّهَا وانقُلْ حماها فاجعلها بالجُحْفَةِ"
["الجحفة" : ميقات أهل مصر والشام والمغرب]
استجاب الله تعالى دُعَاءَ نَبِيِّهِ وطهَّرَ هواءَ المدينة من الوباء وصحَّحَهُ، وطاب للصحابة فيها العَيْشُ.
ـ وكان من جملة من أصابه المرض والحُمَّى الجويريةُ عائشةُ، تقول (رضي الله عنها):
(تزوَّجَنِي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأنا بنتُ ستِّ سنين فقدمنا المدينةَ، فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج، فَوُعِكْتُ[الوَعْكُ: الحُمَّى]، فَتَمَرَّقَ شعري[أي: سقطَ من المرض]فَوَفَى جُمَيْمَةً[أي:تمَّ،
تعني: أنها تعافتْ من المرض، فنمى شعرُها بعد تساقُطه فكان منهُ جميمة تصغيرُ جمَّةٍ، وهو ما سقط على المنكبين من شعر الرأس]....) ،
ثم ذكرت الحديث الذي فيه إدخالُها على رسول الله(صلى الله عليه وسلم) واليوم الذي زُفَّتْ فيهِ.
ويظهرُ أنَّ من آثار الحمى والمرض الذي أصاب عائشة: أنها صارت ضعيفة الجسم نحيفةً، ولما قرُبَ موعد زفافها إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جعلت أمُّها أُمُّ رومان تُعالجها، تقول عائشةُ: (كانت أمّي تعالجني تُريدُ تَسْمِنَتِي بعضَ السِّمَنِ لتُدخِلَنِي على رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فلم أقبل عليها بشيءٍ[وفي لفظٍ: (فما استقام لها بعض ذلك)] ممَّا تريدُ حتَّى أطعمتني القثاءَ بالرُّطَبِ فسمنتُ عليه كأحسَنِ السِّمَنِ)
ـ تزوَّجَ رسولُ الله(صلى الله عليه وسلم) عائشة، (أي: بنى بها) في شهر شوال في السنة الثانية بعد وقعة بدرٍ، تقول عائشةُ:
(تزوجني رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في شوال، وأَعْرَسَ بِي في شوال. فأيُّ نسائه كان أحظى عندهُ منِّي). وكانت عائشةُ تستحبُّ أن تُدخلَ نساءها في شوال. رواه مسلمٌ.
وحِرْصُ عائشة على إدخال نسائها على أزواجهنَّ في شوال، فيه حكمتان:
-الأولى: استنانًا بالنَّبِيِّ(صلى الله عليه وسلم) في ذلك.
-والثانية: قطعًا لعادةٍ جاهليَّة وهي التشاؤم والتَّطَيُّرُ بشهر شوال؛ فكانوا لا يتزوَّجُون فيه ويتباعدون عن إيقاع النكاح فيه.
وللأسف لا يزالُ بعض المسلمين وفي بعض مناطق بلادنا هذه من يَتَطيَّرُ مِنْ شهر شوال ويمتنعون عن النكاح فيه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الخطبة الثانية:
لقد أحبَّ النَّبيُّ (صلى الله عليه وسلم) عائشةَ: (حُبًّا شديدًا كان[(صلى الله عليه وسلم)]يتظاهرُ به، بحيث إن عمرو بن العاص سأل النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) : أيُّ الناسِ أحبُّ إليك يا رسول الله؟ قال: عائشة. قال: فمن الرجال. قال: أبوها) ) ، رواه البخاري ومسلم.
قال الحافظ الذهبيُّ على إِثْرِ هذا الحديث:
(وهذا خبرٌ ثابتٌ على رغم أنوف الروافض، وما كان عليه السلام لِيُحِبَّ إلاَّ طَيِّبًا.
وقد قال: "لو كنت متخذًا خليلاً من هذه الأمة، لاتخذتُّ أبا بكرٍ خليلاً، ولكن أُخُوَّةُ الإسلامِ أَفْضَلُ"، فَأَحَبَّ أفضلَ رجلٍ من أُمَّتِهِ وأفضلَ امرأةٍ من أُمَّتِهِ، فمن أَبْغَضَ حَبِيبَيْ رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم)، فهو حَرِيٌّ أن يكون بغيضًا إلى الله ورسوله.
وحبُّهُ عليه السلام لعائشة كان أمرًا مستفيضًا، ألا تراهُمْ كيف كانوا يتحَرَّوْنَ بهدَايَاهُمْ يَوْمَهَا تقرُّبًا إلى مَرْضَاتِهِ) .
وذكر الحافظ الذهبيُّ خَبَرَ أمِّ المؤمنين؛ أمِّ سلمة لما جاءت إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تُكَلِّمُهُ في أمر هدايا الناس في يوم عائشة، وأعادت عليه في ذلك، فقال لها: "يا أمَّ سلمة، لا تؤذيني في عائشة، فإنه واللهِ ما نَزَلَ عَلَيَّ الوَحْيُ وأنا في لحافِ امْرَأَةٍ منكُنَّ غيرها".
ثم قال معلِّقًا:
(وهذا الجواب منه دالٌّ على أنّ فضل عائشةَ على سائِرِ أمّهاتِ المؤمنين بأمرٍ إلهي وراءَ حُبِّهِ لها، وأنَّ ذلك الأَمْرَ من أسبابِ حُبِّهِ لها) .
....إنَّها حبيبةُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم)،
يعلمُ هذا كلُّ أَحَدٍ:
(فَرَضَ عُمَرُ لأُمَّهَاتِ المؤمنين عشرة آلاف، عشرة آلاف، وزاد عائشةَ ألفين، وقال: إنَّها حبيبةُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) .
وقال ابن عباس لعائشةَ لمَّا زارَها في مرضِ موتها: (كنتِ أحبَّ نساءِ رسولِ الله(صلى الله عليه وسلم)إليهِ، ولم يكنْ يُحبُّ إلاَّ طيِّبًا) .
(وكان مسروق إذا حدَّث عن عائشةَ، قال: حَدَّثَتْنِي الصدِّيقةُ بنتُ الصدِّيق، حبيبةُ حبيبِ الله....) .
و(عن عمرو بن غالب: أنَّ رجلاً نالَ من عائشةَ عندَ عمار، فقال: اغْرُبْ مقبُوحًا منبُوحًا، أَتُؤْذِي حبيبةَ رسول الله ( صلى الله عليه و سلم )
كاتب المقال:
سمير سمراد وفّقه الله