الزمن الجميل حقا..
خالد روشه
يكثر في حديث الناس ذكر " الزمن الجميل "، ولو تتبعت هذه الكلمة في حكايات الناس في مواقع التواصل، وفي كتاباتهم، ومحادثاتهم، لوجدتها تدور حول وصفهم لزمن الذكريات المؤثرة عندهم، فتارة يتحاكون عن الفن أو الغناء، وتارة يتحاكون عن أثمان الأشياء، وتارة يتحاكون عن أيام سهولة الخدمات.. وغيرها
بالطبع فإن ذلك الوصف " الزمن الجميل " يعطيك انطباعا بأنهم يقصدون أن زمانهم هذا لم يصبح جميلا، مقارنة بتلكم الايام الجميلة الفائتة من العقد الماضي او قبل الماضي او الذي قبلهما.
لاشك أن هناك ترديا في الأذواق عامة، كما أن هناك ترد وتراجع على مستويات كثيرة ومختلفة، جعلت من الايام التي نعيشها اياما ثقيلة، كثيرة المعاناة، فهموم الأمة تتزايد، وهموم الأفراد وأحزانهم لا تنقطع.
لكن الحقيقة أن وصفهم ما يتحدثون عنه بالزمن الجميل هو ايضا نوع من تراجع سلبي مؤلم!
فالزمن الجميل لم يكن يوما هو زمن الفن الساقط، الذي جاء به الممثلون فنشروه في ربوع بلادنا، ولا زمن الأغنيات والآهات التي ملأت إذاعاتنا وشاشاتنا عبر السنين.
ولا هو كذلك زمن رخص الأثمان للمشتريات، ولا زمن تحسين الخدمات، فهي كلها ماديات تتحول وتتغير، تروح وتأتي، يستغنى عن بعضها، ويصبر على الآخر، وتنقضي الحياة بما يتيسر منها.
إنما الزمن الجميل حقيقة، هو ايام كانت الأخلاق هي المرجع الحقيقي للمجتمعات، وكانت المبادىء هي الاصول التي تنظم معيشتهم، وكانت القيم هي الآمال التي يرتجي كل واحد أن يلتزم بها ليكون قدوة لغيره.
الزمن الجميل الحقيقي هو كل زمن أطعنا فيه أمر ربنا - سبحانه -، فكانت كل لحظة في طاعته فوز وكسب وفلاح، وفوز في الدنيا والآخرة.
وهو كل زمن أصلحنا فيه مجتمعنا، بالإيجابية التطبيقية، وبالعلم النافع الراقي، وبمواقف المروءة الثابتة، وبالتعاون والتعاضد والمشاركة في الإصلاح.
وهو كل زمن أدينا فيه الحق الذي علينا، فقمنا فيه بآداء الأمانة، وبلغنا رسالة الكلمة والسلوك، وربينا أنفسنا وأبناءنا ومن حولنا على كريم المعاني، وأدينا حقوقنا تجاه أنفسنا ومن نعول، وتجاه مجتمعنا والمحيطين بنا، وقبل ذلك كله تجاه ديننا وربنا وكتابنا.
إذا قلنا ذلك واعتبرناه، ثم بحثنا عن وصف للزمن الجميل سيصعب أن نجد فيه ذلك الزمان بتلك الأوصاف، لكننا ولاشك سنتفق أن نطلق هذا الوصف على زمن القرون الفاضلة، قرن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان.
إنه حقا الزمن الجميل الذي يستحق ذلك الوصف، يوم كانت قيم الإيمان وأخلاق الإسلام تتمثل حقيقة واقعة على الأرض في أشخاص المؤمنين، وكانت العلوم تحمل المجتمعات حملا، وتسير بها سيرا، وتدفعها للتقدم في مقدمة الأمم، يوم كانت الآمال كلها معلقة بالآخرة، وبمصلحة الأمة الكبيرة، وكان المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، فإذا اشتكى عضو من جسد الأمة تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، زمن الذين كانت سيرتهم تحيي القلوب، وشجاعتهم تفتح البلدان، وصدقهم ينير السبل.
ودعني اقتطف لك بعضا من كلمات أبناء هذا الزمن الجميل مما ثبت عنهم، تنبئنا عن بعض مبادئهم وقيم حياتهم:
فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: سمعتُ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يوماً وخرجت معه حتى دخل حائطاً فسمعتُه يقول وبيني وبينه جدار: "عمر! ! أمير المؤمنين! ! بخٍ بخٍ، واللهِ بُنَيّ الخطاب لتتقينّ الله أو ليعذبنّك".. إنه إمام المسلمين، فانظر كيف يحاسب نفسه ويأمرها بالتقوى والعدل والإنصاف!
وأمَّ أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه-: قوماً مرة، فلما انصرف، قال: «ما زال الشيطان بي آنفا حتى رأيت أن لي فضلا على من خلفي، لا أؤم أبدا».. انظر الى ذلك الكريم النقي الذي يحاسب نفسه على كل لفتة وإحساس، وانظر اليه كيف هو لايريد من قلبه مجرد لحظة يشعر فيها بتميزه على غيره.. رضي الله عنه
وقال ابن شهاب الزهري - رحمه الله -: كان أهل المدينة عيالا على عبد الرحمن بن عوف: ثلث يقرضهم ماله، وثلث يقضى دينهم، ويصل ثلثا. وكان لا يعرف من بين عبيده. ! أي من تواضعه في اللباس".. كيف كان هذا الصالح الفاضل - رضي الله عنه - يرى الحياة؟ إنه المال الصالح في يد الرجل الصالح، فهل لنا من مثله والأمة عطشى لهم!
وقال سلمة بن دينار - رحمه الله -: «أفضل خصلة ترجى للمؤمن أن يكون أشد الناس خوفا على نفسه وأرجاه لكل مسلم».. إنه - رحمه الله - يرجو الخير للمؤمنين، فيأمر نفسه بالخوف ويتمنى لغيره من المؤمنين الأمل والخير ونعم الرجاء.
وقال الفضيل بن عياض - رحمه الله -: رأس الأدب عندنا أن يعرف الرجل قدره".. هذا العالم النحرير يرى ان رأس الأدب الذي تعلمه من مجتمعه ومعلميه أن يعرف كل انسان قدره، فيتواضع لغيره، ولا يتوانى عن القيام بما هو أهل له.
وقيل لأحمد بن حنبل - رحمه الله -: جزاك الله عن الإسلام خيرا. فقال: بل جزى الله الإسلام عني خيرا، من أنا؟ وما أنا؟؟ "... هذا الإمام أحمد إمام أهل السنة، لايرى لنفسه فضلا، ويرد الفضل كله لربه - سبحانه - ودينه، وانه إنما هو قائم بحق الإسلام عليه.
وقال يونس بن عبيد - رحمه الله -: كنت أذاكر يوما عن الحسن التواضع، قال: فالتفت إلينا الشيخ، فقال: أتدرون ما التواضع؟ أن تخرج من بيتك حين تخرج فلا تلقى مسلما إلا رأيت أن له عليك الفضل ".. إنه بذلك يرفض الكبر والعجب، ويتواضع للمؤمنين، وينكسر في نفسه لربه، فيقوم بحق غيره، ورغم ذلك فهو إمام رفيع الشأن عالي المقام.
وسئل أحمد بن حنبل عَنْ مسألة في الورع. فقال: أنا أستغفر الله، لا يحل لي أن أتكلم في الورع؛ أنا آكل من غلة بغداد. لو كان بشر بْن الحارث صلح أن يجيبك عنه؛ فإنه كان لا يأكل من غلة بغداد ولا من طعام السواد؛ فهو يصلح أن يتكلم فيه.. !
وقال وهب بن منبه - رحمه الله -: لا يستكمل الرجل العقل حتى يستكمل عشر خصال:
حتى يكون الخير منه مأمولا، والشر منه مأمونا، وحتى لا يتبرم بكثرة حوائج الناس من قبله، وحتى يكون الفقر أحب إليه من الغنى، والذل أعجب إليه من العز، والتواضع أحب إليه من الشرف، وحتى يستقل كثير المعروف من نفسه، ويستكثر قليل المعروف من غيره، والعاشرة وما العاشرة بها شَادَ مجده، وعلا جده، إذا خرج من بيته لم يلق أحدا إلا رأى أنه خير منه!
قد يقول قائل إن هؤلاء أئمة وليسوا من عامة الناس، ولكن الحقيقة أن تلك المبادىء وهذه القيم والمفاهيم كانت تعم المجتمع، وتظله وتحويه وتحتويه، ولئن عبر عنها هؤلاء بقولهم، فالآخرون كانوا يعبرون عنها بأفعالهم..
إنه الزمن المستحق لهذا الوصف، والذي لايزال نورا ونبراسا لكل مهتد..والذي يدعونا أن نقتدي به، ونطبق معانيه وقيمه، فنعيد بيننا زمنا جميلا ونقيم في مجتمعاتنا معانيه.