رمضان والإنفاق
إن من أركان الإسلام وعلامات الإيمان: إنفاق الأموال في سبيل الله تعالى، فهو الركن الثالث من أركان الإسلام، وهو علامةُ الإيمان، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «والصدقة برهان»؛ رواه الطبراني في (المعجم الكبير)، بُرهانٌ على صدق اليقين والإيمان، قال سبحانه: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]، وقال تعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران: 92].
كم من الآيات في كتاب الله تعالى الدالة على أهمية الإنفاق في سبيل الله وسوء عاقبة المانعين، يقول - سبحانه وتعالى - مُخاطباً المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267].
ويقول - سبحانه وتعالى - مخاطباً أصحاب الأموال: {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النــور: 33]، أعطاكم الكثير، وأمركم بإنفاق القليل، فاشكروا ربكم، وجُودُوا بأموالكم، فقد ذمَّ الله المُمسِكِين، فقال - سبحانه وتعالى -: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180].
وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي فيها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صُفحت له صفائح من نار فأُحمِيَ عليها في نار جهنم، فيُكوَى بها جنبه، وجبينُهُ، وظهرُهُ، كلما بردت أُعِيدَت له، في يومٍ كان مقدارُهُ خمسين ألف سنة حتى يُقضَى بين العباد»؛ (رواه مسلم في (صحيحه).
إن الأمر جِدُّ خطير، أين الغافلون عن الإنفاق؟ أين المفرطون في حساب الزكاة؟ أين المانعون لحقوق الله؟ أين الباخلون بأموال الله عن عباد الله؟
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من آتاه الله مالاً فلم يُؤدِّ زكاتَهُ مُثِّلَ له يوم القيامة شجاعاً أقرع، له زبيبتان، يُطوِّقُهُ يوم القيامة، يقول: أنا مالُكَ الذي مَلَكْتَ، وأنا كنزُكَ الذي كَنَزْتَ»؛ (رواه البخاري في (صحيحه).
عباد الله:
وما منع الأمطار، وحجبُ الخيرات، وظهور النكبات إلا من آثار منعِ الزكاة، يقول عليه الصلاة والسلام: «ما منع قومٌ الزكاةَ إلا ابتلاهم الله بالسنين»؛ رواه الطبراني في (الأوسط)، وقال: «ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنِعُوا القَطْرَ من السماء، ولولا البهائم لم يُمطَروا»؛ (رواه ابن ماجه في (سننه).
وعلى مستوى الأفراد؛ فإن منع الزكاة إذهابٌ لبركة المال، واستحقاقٌ للعذاب، كما أن تأدية الزكاة فيها الخير في العاجل والآجل، يقول عليه الصلاة والسلام: «من أدَّى زكاةَ مالِهِ فقد ذهب عنه شرُّهُ»؛ رواه الطبراني في (الأوسط)، ويقول: «حصِّنُوا أموالكم بالزكاة، وداوُوا مرضاكم بالصدقة»؛ (رواه الطبراني في (الأوسط).
الزكاةُ تُبارِكُ الأموال وتُضاعِفها، وقد قال أصدق القائلين: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39]، ويقول سبحانه وتعالى: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245]، وصحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قال الله تعالى: ابن آدم! أنفِق أُنفِق عليك»؛ (رواه البخاري، ومسلم).
وقال عليه الصلاة والسلام: «ثلاثةٌ أُقسِمُ عليهن: ما تواضع عبد لله إلا رفعه، وما فتح عبدٌ بابَ مسألة إلا فتح الله له باب فقر، وما نقصَ مالٌ من صدقة»؛ رواه الطبراني في (المعجم الصغير)، وفي روايةٍ صحيحةٍ: «ما نَقَصَ مالٌ من صدقة، بل تزده، بل تزده».
الصدقة عباد الله برهان، وهي تطفئ غضب الرب، كما أخبر الصادق المصدوق وهي الطريق إلى الجنة والغفران، {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران 133-134].
عباد الله:
يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «صنائع المعروف تقي مصارع السوء، والصدقة خفية تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم زيادة في العمر، وكل معروف صدقة، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة»؛ (رواه الطبراني في (المعجم الكبير).
عباد الله:
وإن من التحديث بنعمة المال: الإنفاق منه {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11]، ومن شكر المال الإنفاق منه، وقد قال - سبحانه وتعالى -: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]، ومن كُفْر نعمة المال الإمساك {وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].
إخوة الإيمان:
أين الباذِلُون؟ أين المُتصدِّقون؟
فليستبشروا بقول المولى - سبحانه وتعالى -: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274]، شهر رمضان هو شهر الجُود؛ تتضاعف فيه الحسنات، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان.
عباد الله:
تجبُ الزكاةُ على الأموال النقدية إذا مضى عليه الحول، وعلى عروض التجارة والذهب والفضة ربع العشر، ومن زاد فهو خيرٌ له، كما تجب على بهيمة الأنعام والزرع والثمار بتفصيلٍ معلومٍ عند الفقهاء، فأدُّوا زكاةَ أموالِكُم، وكونوا من المؤمنين الذين قال الله فيهم: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون: 4]، فهي ركنٌ من أركان الإسلام، ولا تبخلوا بها خوفاً من النقص والفقر، فقد قال - سبحانه وتعالى -: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268].
عباد الله:
لو أديت الزكاة في هذا البلد لما بقِيَ فقراء، إن مانعي الزكاة هم سُرَّاق أموال الفقراء، وهم باخِلون بحق الله تعالى، ومن أسباب سخط الله تعالى ونقمته على المجتمع، ولا عذر لأحد، فهذه الجمعيات الخيرية في كل أبواب الخير مشرعة توصل الأموال إلى مستحقيها، وكذا صندوق الفقر، وجمعيات الإحسان والقرآن، وصناديق الأسر.
عباد الله:
كم للزكاة من فوائد على المجتمعات، من كفالةِ الأيتام، وسدِّ حاجات الفقراء والمساكين، ومساعدة المجاهدين، وإعانة ابن السبيل والغارمين، فهي تحمي المجتمع من شرور الفقر، ومن الكراهية والبغضاء، وتُحصِّن المال من الآفات، وهي مَطهَرةٌ للمال، وتزكيةٌ للنفس: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} [التوبة: 103].
وهي فوق ذلك أمان في الدنيا والآخرة، ومجلبةٌ لرضى الرحمن، والأجر العظيم في الجنان، وهي أعظم استثمار {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261].
إن الأموال التي بأيدينا هي أموال الله، ونحن خلفاؤه فيها، وهو يأمرنا بالإنفاق {وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7] {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33].
أما بعد، عباد الله:
إنكم في شهرٍ عظيم، وموسمٍ جزيل وافر الأرباح، سخيِّ الفضائل، عظيمِ البركات، تتضاعفُ فيه الصالحات، وتُجزَلُ فيه المِنَحُ والهِبات.
عباد الله:
لقد مضى من رمضان صدره، وانقضى ثلثه، وأوشك أن يكتمل بدره، فاغتنموا فرصة تمر مرَّ السحاب، ولِجُو قبل أن يغلق الباب، وبادروا بالصالحات، فساعاته تذهب، وأوقاته تنهب، وزمانه يطلب.
معاشر المؤمنين:
إن البركات تتنزَّلُ في هذا الشهر الكريم؛ فهل من راغب؟ وإن الرحمات تتنزَّل؛ فهل من تائب؟ هل من مُشمِّرٍ للطاعة، فإنها ليال تمر، يمضي تعبها، ويبقى أجرها، أين الباذلون؟ أين الصائمون؟ أين القائمون؟ التالون لكتاب الله الحافظون لحدود الله؟
وقد قال عليه الصلاة والسلام: «.. ورمضان إلى رمضان مُكفِّراتٌ لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر»؛ رواه البيهقي في (سننه الكبرى).
صعَدَ عليه الصلاة والسلام المنبر، وقال: «آمين، آمين، آمين»، قالوا: يا رسول الله! أمَّنتَ ثلاثاً، قال: «نعم، أتاني جبريل فقال: يا محمد! رغِمَ أنفُ من أدرك رمضان فلم يُغفَر له، قل: آمين، فقلت: آمين»؛ رواه الطبراني في (المعجم الكبير).
عباد الله:
احتسبوا صومكم وقيامكم وسائر طاعاتكم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه»؛ (متفق عليه) ، وقال عليه الصلاة والسلام: «من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه»؛ (رواه البخاري، ومسلم).
عباد الله:
أقبِلوا على الله في هذا الشهر الكريم، لِمَ نُعرِض ونحن المحتاجون؟ لِمَ نرفض ونحن الغارمون؟ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15].
عباد الله:
عظِّمُوا شهر رمضان، وصونوا لياليه من كل باطل وحرام، واحفظوا صيامكم عن كل لغو وباطل، فقد قال عليه الصلاة والسلام: {من لم يَدَعْ قول الزور والعمل به فليس لله حاجةً أن يَدَعَ طعامَهُ وشرَابَهُ} ؛ (رواه البخاري).
عظِّمُوا أمر ربكم: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].
أيها الغافل! جدَّ القومُ وأنت قاعد، وقرَّبوا وأنت متباعد، وقاموا وأنت راقد، وتذكَّروا وأنت شارد، إن قام العُبَّاد لم تُرَ بينهم، وإن عُدَّ الصالحون فلست منهم، ترجوا النجاة ببضاعةٍ مُزجاة، ومركبٍ يُوشِكُ أن يغيض، من لم يعُدْ في رمضان فمتى يعود، أين الخاشعون؟ أين المُناجُون؟ أين المُستغفِرُون بالأسحار؟ أين المنفقون الباذلون؟ {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185].
عباد الله:
أقول ما تسمعون، وأُصلِّي على النبي المختار، فقد أمركم بالصلاة عليه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، اللهم صلِّ وسلِّم وزِدْ وبارِك على الحبيب المصطفى نبينا محمد وعلى آله وسلم.
عباد الله:
اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله وأكبر والله يعلم ما تصنعون.
__________________________________________________ __
الكاتب: أ. د. خالد بن عبدالله بن عبدالعزيز القاسم