الدين النصيحة
د. جمال عبدالناصر
دعا الإسلام النَّاس أن يعبُدوا الله الواحد الأحد، الفرْد الصَّمَد، الذي لَم يتَّخذ صاحبةً ولا ولدًا، وأن يلتزِموا بهذه العبوديَّة قولاً وعملاً، ولمَّا كانت هناك شواغل؛ كالنَّفس، والدُّنيا، والشَّهوات، والشَّيطان، كان لا بدَّ مِنْ وُجُود النَّصيحة ابتغاءَ مرْضاة الله تعالى، وأخذًا بأيْدي الغافلين إلى رِحاب الإيمان، وتلك مُهمَّة الدُّعاة إلى الله - عزَّ وجلَّ - ومهمَّة كلِّ مسلمٍ تجاه أخيه المسْلِم، أن يكونَ مرآةً لأخيه، وأن يَتَوَاصَى معه بالحقِّ والصَّبر.
النَّصيحة من هدْي المرسلين:
ما من نبيٍّ أرْسله الله إلى قومه إلاَّ وقام فيهم ناصحًا آخِذًا بأيديهم من الظُّلُمات إلى النُّور:
فها هو سيِّدُنا نوح - عليْه السَّلام - يقول لقومه: ﴿ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 61 - 62].
وها هو سيِّدُنا صالح - عليه السَّلام - يقول لقومه: ﴿ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ﴾ [الأعراف: 79].
وها هو سيدنا شُعيب - عليْه السَّلام - يقول لقومه: ﴿ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آَسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴾ [الأعراف: 93].
أخي المسلم، بادِر بالنَّصيحة:
الكثيرون يعزفون عن نُصْحِ إخوانِهم، إمَّا حياءً أو انزواءً وانطواءً على أنفُسِهم، وهذا ليس من هدْي رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الَّذي قال: ((المسلِم الَّذي يُخالط النَّاس ويصْبِر على أذاهم خيرٌ منَ المسلم الَّذي لا يُخالط النَّاس ولا يصبر على أذاهم))، فالمسلم صاحب رسالة؛ فلا بدَّ له أن يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفْسه.
إذًا؛ فلا بدَّ لكلِّ مسلم أن يُبادرَ بالنَّصيحة حتَّى ولو لَم يُطْلَب منه؛ لأنَّ المسلمين يسعى بذمَّتهم أدْناهم، وهم يدٌ على مَن سواهم؛ قال ربُّنا - سبحانه وتعالى - على لسان لقمان الحكيم وهو ينصح ابنه: ﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [لقمان: 17]، والآية توضِّح لنا أنَّ مَن ينصح آمرًا بِمعروف أو ناهيًا عن منكر فإنَّه لا بدَّ أن يتحلَّى بالصَّبر وأن يتحمَّل الأذى؛ لأنَّ بعض النفوس تَستثقِل النَّصيحة وتأْباها، فلا بدَّ للنَّاصح أن يكونَ صابرًا مُحتسبًا أجْره عند الله، ولا يؤتى مثل هذا الخُلُقَ العالي إلاَّ من رُزِقَ عزْمَ الأمور وضبْطها وإحكامها.
انصح والتمس العذر:
ما ينبغي عليْنا تجاه إخوتِنا المسلمين هو نصيحتُهم والتِماس العذر لهم، وينبغي عليْنا ألا نتصيَّد لهم الأخطاء، وإنَّما نتلمَّس المعاذير لهم، مع تكْرار النَّصيحة لهم؛ استِنادًا لقول النَّبيّ - عليْه الصَّلاة والسَّلام -: ((الدّين النَّصيحة))، قالها ثلاثًا، قُلْنا: لِمن يا رسولَ الله؟ قال: ((لله ولكتابِه ولرسولِه ولأئمَّة المسلمين وعامَّتهم)).
وفي الحديث الصَّحيح: ((ثلاثُ خصالٍ لا يغلُّ عليهنَّ قلبُ امرئٍ مسلم))، لا يغل عليهنَّ؛ أي: يكنَّ طهارة لقلْبِه من الغلّ، فلا يجتمع القلب على الغلِّ إذا حقَّق هذه الخصال الثَّلاثة: ((إخلاص العمل لله - عزَّ وجلَّ - ومناصحة أولي الأمْر، ولزوم الجماعة))، والمقصود بالجماعة: لزوم الدّين وما عليه جُمهور المسلمين؛ أي: أن تلزم الدين فلا تبْتَدع.
وأيضًا في الحديث الصَّحيح أنَّ عبادة بن الصَّامت - رضِي الله تعالى عنْه - بايع النَّبي - عليْه الصَّلاة والسَّلام - على: السَّمع والطَّاعة، وألاَّ ينازع الأمر أهْله، ثمَّ قال: "والنّصح لكلّ مسلم".
إذًا؛ النُّصح لا بدَّ أن يكون لكلِّ مسلم، فنحن ننصَحُهم ونتلمَّس العذر فيما يقومون به ما استطعْنا إلى ذلك من سبيل، ما لَم يكُن ما يفعلونه خطأً واضحًا لا مِرْية فيه ولا شكَّ.
جاء في "فتح الباري" لابن حجَر (ج 6 / ص 90): "في حديث أبي أمامة: ((وإذا استنصرَ بي نصرتُه))، وفي حديث أنس: ((نصحني فنصحت له))، وقد وقع في حديثِ أبي أمامة: ((وأحب عبادة عبدي إليَّ النَّصيحة))"، وهذه النصيحة لا بدَّ أن تتَّصف بصِفَتين: الرّفق، والسّرّ أو الإسرار؛ إذًا فلا بدَّ أن تكون النَّصيحة سرًّا، إمَّا في كتابٍ تدفعُه إلى أخيك المسلم، وإمَّا أن تَختلي به، وإمَّا أن تبلغ النَّصيحة لِمَن يبلغه إيَّاها، فهذه كلّها سبلٌ للنّصح، ولا بدَّ أن تكون النَّصيحة بالرِّفق دون تغْليظ ودون تعنيف.
وقد أُمرنا كمسلمين أن ننصح لله ورسولِه، كما ورد عن النَّبيّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الدِّين النَّصيحة))، قُلْنا: لِمَن يا رسولَ الله؟ قال: ((للهِ ولرسوله ولكتابِه، ولأئمَّة المسلمين وعامَّتهم))، وقد يكون في رأيك ما خفِي على غيرك.
ولمَّا جلس النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - مع أصحابه يومًا، وقال: ((أتدْرون ما الشَّجرة الطيبة؟))، وذلك في قوله تعالى: ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ ﴾ [إبراهيم: 24]، فلم يُصِب أحدٌ الجواب، وكان في رَوْع ابنِ عمر أنَّها النخلة، ولكنَّه استحى أن يقول ذلك أمام كبار الصَّحابة، فلمَّا قال الرَّسول لأصحابه: ((إنَّها النَّخلة)) وانتهى المجلس، قال ابنُ عمر لأبيه عمر: والله يا أبتِ، لقد وقع في نفسي أنَّها النخلة، فتمنَّى عُمَر أن لو كان قالَها ولدُه في محْضر من رسولِ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم.
فكُن - أخي الحبيب - كالنَّخلة؛ يرميها النَّاس بالحجَر فترميهم بأطيَب الثَّمر، مستشعرًا ثواب الله في الآخرة وعظيم أجر الصَّابرين، إن شاء الله.