للطاولة ظل أسود
محمد أحمد بارحمة
(أ): كم مرة جلست على طاولة وتجاذَبْت أطراف الحديث مع أصدقائك واتفقت واختلفت؟
(ب): كم مرة انتبهت لظلِّ تلك الطاولة؟
من عادة الناس التركيز على مُثير واحد (الطاولة)، وإهمال المثيرات الأخرى (الظل).
أرباب السلوك يرون أن صعود مدارج النجاح النفسي في هذه الحياة يكون بالانتباه (للظل)!
كثيرًا ما تَحاورنا باسم المنطق وتبيان الحقيقة وهداية الناس..
كثيرًا ما كان الظلُّ ونوازع الباطن: الإلجام، وغلبة الآخر، وادِّعاء المعرفة، ونزاهة المذهب.
يسير البعض دون انتباه إلى إثبات أن ما هم عليه هو: المنطق الأبلج الذي لا تَشوبه نزغات العاطفة.
وفي تجربة بأمريكا طُبِّقت على مؤيدين للحزب (ج) والحزب (د):
عرضوا لـ (ج) فيديو فيه خطابات "لمرشَّحِهم المحبوب" يتناقض فيه، يقول الشيء وضده..
لم يعترفوا بالتناقض بل سموه عمقًا، وتأوَّلوا له!
ثم عرضوا لـ (ج) أيضًا فيديو فيه خطابات لمنافسهم من الحزب (د) يتناقض فيه، يقول الشيء وضده.. بانت علامات الامتعاض، واستنكَروا، واتهَموه بالتناقض!
لكلٍّ منا عينُه الخاصة التي يُبصر بها الأشياء والأفكار؛ يحكي غاليانو في روايته العميقة أفواه الزمن: "ذهب فريق تلفزيوني إلى تشاكو ليُصوِّر مشاهد عن حياة هنود إسهبر اليومية، راحت طفلة هندية تُلاحق مدير الفريق؛ كطفل صامت مُلتصق به، تنظر بإمعان إلى وجهه، كأنها تريد التغلغل في عينيه "الزرقاوين".
سألها ماذا تريد؟
فأجابت: أريد أن أعرف اللون الذي ترى به الأشياء؟!
فقال: إنه اللون نفسه الذي ترينها به.
فردت عليه: وكيف تعرفُ أنت اللون الذي أرى به الأشياء؟!
في داخل آحادنا ألوان متعددة - من الأبيض إلى الأسود - نُبصر بها المواقف حسب موقع إعراب الشخص في قلوبنا.
وكل جماعة بأبيها معجبة، ونُقش على جدار الأنفس: "عين الرِّضا عن كل عيبٍ كليلة".
معظم التيارات ترى النقد بشعًا إذا اقترب مِن مَنزلها، وتجد له ألف مبرِّر عند جدار الآخرين، ولو تجرَّد الواحد منا وحاكم نفسَه على ذات المُعطيات التي يُحاكم بها غيره، لاندهشنا من حجم التناقض والاغترار.
بين الحين والآخر يربي الله عباده على التوازن، فتجد رمزًا كبيرا يُسيء التقدير فيقع في خطأ مبين.
وأخطاء الرموز سبب في ضبط المقود، ومِن العناء البالغ أن تستميت لتبرير وتمرير كل قرارات وآراء جماعتك وشيخك.
في "إحياء علوم الدين" للغزالي بعد أن ذكر مذهب إمامه الشافعي في نجاسة الماء، قال: "هذا مذهب الشافعي، وكنت أود أن يكون مذهبه كمذهب مالك، في أن الماء وإن قلَّ لا ينجس إلا بالتغيُّر".
النفوس المتجردة وحدها مؤشِّر البوصلة يتجه للقِبلة، ولا تعاف أن تأخذ العسل ولو من محجمة الحجَّام!
سيغدو الأمر بسيطًا لو اقتنعنا بأن مع كل أحد منجمَ ذهب وكومة قذَر.
ومَن سكنْتَ لِوَصْفتِه وشفاك دواؤه، فلا يكن في قلبك حزازة من باقي الأطباء.
الحق لا ينفرد به أحد، ومِن كمال العقل أن نستعدَّ للنظر لكل رأي بحياد، ولو أعياك ذلك خذ الرأي وذيِّله باسم شيخك، ستجد الرأي بهيًّا ومُختلفًا.
لا رقية أشفى للقلب من قول الشافعي: "والله لا أبالي إذا ما ظهر الحق على لساني أو لسان غيري"، والذين يحتكرون الصواب يطوفون في حرم التعصُّب، والمُتعصِّبون في الغالب حمقى، ومِن الهند يُخبر اللكنوي بأنه: "لا اعتداد لقول المتعصِّب".
ودستوفيسكي يدعو دون أن يستقبل القبلة: "احمِني يا إلهي من شرِّ المتعصِّبين".
ما كل حوار يستدعي الغلبة، وكم من مرَّة كان أولى أن تفتح شرفة الانسحاب لتلج السكينة إلى قلبك!
هناك سجالات تستحق التجاهل والتعامل معها كـ "مكالمة لم يتم الرد عليها"!
تعجل المفكر عبدالوهاب المسيري نعيمًا فردوسيًّا حين آثر راحة البال على إثبات صحة الرأي فقال:
"أنا لا أحب الدخول في المعارك الصغيرة، وأفضِّل الاستسلام فيها؛ حتى لا تستنفد طاقتي فيما لا يفيد"، جلُّ المتناظرين يسعى الواحد فيهم أن يُسقط صاحبه، وقليل من يتحاور ولديه استعداد للاقتناع.
مِن أطرف المقدمات ما كتبه علي الوردي في كتابه "خوارق اللاشعور": "لا أريد بهذا البحث أن أقنع إلا من يريد أن يقتنع، أما الذي لا يريد أن يَقتنِعَ، فليس لدينا إزاءَه أيُّ حيلة".
لنُسمِّها "القابلية للاقتناع"، فما لم يكن من الطرفين استعداد للاقتناع، فالأَولى أن يُضرب بالمطرقة وتُرفع الجلسة؛ فلا جدوى من محاورة مَن قلبُه مُقفل بأربعين قفلًا.
مُقزِّزة سياسة بعض المتحاورين "يا تحشرني يا أحشرك"، ودراما "المنتصر هو صاحب آخر ردٍّ".
ويستمر المتحاوران في مسلسل التعليق والتعليق على التعليق، والثمرة المجنية: ﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ [البقرة: 74]، هذه نتيجة قرآنية جاءت بعد جدل بني إسرائيل في شكل البقرة.
أحَقُّ الناس بالشفقة مَن يَستدعي روح الملاكمة في كل قضية، ولا قيمة لمُحاور يَستحضِر في قاموسه كلمة "في مُنتصَف الجبهة".
كم مِن أحمق فجَّر جرحًا لا يُطاق تحت بند "أنا طبيعتي أعطي في الوجه"، فرِّق يا حبيبي بين الوقاحة والصراحة.
الحقائق سلع نفيسة، سيُعرض عنها الناس إذا أسأنا تغليفها، ومَن يقف على شاهق الفاجعة، يجد حربًا باردة ونفوسًا تلتهب، آثرت كسر الأواني بدلَ أن تضع فيها الزهور!
﴿ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً ﴾ [ص: 23]، لله هذا القلب الذي لم ينسَ الأخوة عند عتبات المحكمة!
من مشاهد البؤس أن ترى الرجل يفاصل ويُخاشن أهل ملَّته، ويَستدعي قيم التعايش والتسامح مع غيرهم؛ كعين العذارى تسقي البعيد وتترك القريب!
دونك تغريدة من تغريدات المشاهير أبصر القيح تحتها، تجد نصفنا لا يثق في النصف الآخر، نصفنا يدعو لسجن النصف الآخر، ثم ترفع رايات الوحدة الوطنية زورًا!
في كل مكان التنوع (يُثري)، وفي الضفة الأخرى التنوع (يثير)..
الحوار المثمر هو الهادئ.. الهادي.. الهادف، وتبطل العبادة إذا اختل ركن.
الحوار ظلُّنا الذي يكشف طول عود الاستقامة!
"ومن لا يراقب عقله جيدًا عند الحوار، لن يكشف ثغراته" العودة.
للنفوس من الخبايا والأغوار ما لا يعلم مداه إلا الله، وهذا المقال بمثابة "حجر" ألقيتُه في بئرنا لنقيس عمق الهاوية!
يستهلكنا في هذه الحياة الركض اليومي، لا بد من الالتفات للظل الذي يُرافقنا في كل الأزقة، الغيرة منه.. مراقبته.. تفقُّد زواياه الحادة.. الابتعاد عن الأضواء حتى لا يصبح ظل الأشياء مثلها مرتين!