إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وسلم تسليما كثيراً. أما بعد:
فاتقوا الله معاشر المسلمين, واعلموا أنّ شهر العبادة والصوم والقرآن قد قرب, وحان لقاؤه بعد طول انتظار, وسوف أتحدث بحول الله تعالى في هذه الخطبة وما بعدها, عن مسائلَ مهمةٍ في القراءات والتجويد والأحرف السبعة, وقيام الليل والصيامِ ونحوِها, فهي من المسائل التي لا ينبغي جهلُها, ومن العلوم التي لا ينبغي إهْمَالُها.
معاشر المسلمين: كانَ القُرْآنُ في زمنِ النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عَليْهِ وسلَّمَ مُتَفَرِّقًا في صُدُورِ الرِّجالِ، وقدْ كتَبَ النَّاسُ منْه في صُحُفٍ وفي جَرِيد النخل ونحوها.
فلَمَّا اشتد وكثر القَتْلُ بالقراء يَوْمَ الْيمَامةِ في زَمنِ الصِّدِّيقِ رضِي اللَّهُ عَنْهُ، وقُتِلَ مِنْهُمْ في ذلِكَ الْيَومِ فِيمَا قيلَ سَبْعُمِائَةٍ، أشَارَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ علَى أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضِي اللَّهُ عَنْهُمَا بِجَمْعِ الْقُرْآنِ؛ مَخَافَةَ أَنْ يَمُوتَ أَشْيَاخُ الْقُرَّاءِ، فَنَدَبَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ إِلَى ذَلِكَ، فَجَمَعَهُ غَيْرَ مُرَتَّبِ السُّوَرِ، بَعْدَ تَعَبٍ شَدِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ..
فَكَانَتِ الصُّحُفُ الَّتِي جَمَعَ فِيهَا الْقُرْآنَ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ, ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ, ثُمَّ عند حفصة بنت عمر.
ولَمَّا وقع الاختلاف بين الناس في القراءات, جمع عثمانُ الصحابة واسْتشارهم, فأَرْسَلَ عُثْمانُ إِلَى حَفْصَةَ بنتِ عمر: أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكَ، فَأَرْسَلَتْ بِهَا إِلَيْهِ, فَأَمَرَ زَيْدَ بن ثَابِتٍ ومن معه فَنَسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ, وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا، وَأَمَرَ بِمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْقُرْآنِ أَنْ يُحْرَقَ.
وَكَانَ هَذَا مِنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ أَنْ جَمَعَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ وَجِلَّةَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ, وَشَاوَرَهُمْ وَاطَّرَحَ مَا سِوَاهَا، وَاسْتَصْوَبُوا رَأْيَهُ وَكَانَ رَأْيًا سديدا مُوَفَّقًا.
فاتفق الناس على مصاحف عثمان رضي الله عنه, واتفقوا على الرسم الذي رسم به المصاحف, واسْتمرّ عمل الناس عليه.
ثم جعل الصحابة يُدَرِّسُونه ويُقْرِئُونه لطلابهم, "وكانت هناك مدارس متعددة في تفسيرِ القرآن وتعليمِه ، لكل مدرسة خصائصها ، ومميزاتها وأساتذتها وطلابها ، فكانت هناك مدرسة الحجاز ، وهي تشمل مدرستين :
مدرسة مكة ، وأستاذها الأكبر ابن عباس ، ومدرسة المدينة ، ومن أساتذتها : علي بن أبي طالب ، وأبيُّ بن كعب.
ومدرسة العراق ، وأستاذها الأكبر : ابن مسعود.
ومدرسة الشام ، ومن أساتذتها من الصحابة : أبو الدرداء الأنصاري الخزرجي ، وتميم الداري راهب عصره ، وعابد أهل فلسطين.
ومدرسة مصر وأستاذها الأكبر : عبد الله بن عمرو بن العاص.
ومدرسة اليمن وأستاذاها الأكبران : معاذ بن جبل ، وأبو موسى الأشعري ، إلى غير ذلك من المدارس التي انتشرت في العالم الإسلامي".
وتزاحم عليهم طلابُهم الذين هم التابعون وبعضُ صغارِ الصحابة , وبعد أنْ كبُر هؤلاءِ الطلاب فتحوا الحلق في المساجد, وأقرؤوا القرآن وعلّموه طلابهم, وهكذا اسْتمر الحال بعد ذلك.
وكانوا يقرؤون في صلاتهم وغيرِها بالأحرف السبعة أو أحدِها, ويُقرؤون الناس الأحرف السبعةَ التي تلقوها من رسول الله صلى الله عليه وسلم, واسْتمر الصحابة والتابعون ومَن بعدهم على هذا الحال.
فقد ثبت في صحيح مسلم عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ، فَدَخَلَ رَجُلٌ يُصَلِّي، فَقَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ دَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ قِرَاءَةً سِوَى قَرَاءَةِ صَاحِبِهِ، فَلَمَّا قَضَيْنَا الصَّلَاةَ دَخَلْنَا جَمِيعًا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: إِنَّ هَذَا قَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ، وَدَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ سِوَى قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ، فَأَمَرَهُمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَآ، فَحَسَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَأْنَهُمَا، فَسَقَطَ فِي نَفْسِي مِنَ التَّكْذِيبِ، وَلَا إِذْ كُنْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَدْ غَشِيَنِي، ضَرَبَ فِي صَدْرِي، فَفِضْتُ عَرَقًا وَكَأَنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَرَقًا، فَقَالَ لِي: "يَا أُبَيُّ, أُرْسِلَ إِلَيَّ أَنِ اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ، فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي، فَرَدَّ إِلَيَّ الثَّانِيَةَ اقْرَأْهُ عَلَى حَرْفَيْنِ، فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي، فَرَدَّ إِلَيَّ الثَّالِثَةَ: اقْرَأْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ".
ومعنى الأحرف السبعة, أي الأوجه السبعة التي يجوز نطق القرآن بها.
وهذه الأحرف هي كلام الله, وهي قرآنٌ يُتلى.
والحكمةُ من مشروعيَّتِها عامّةٌ للصحابة ومن بعدهم, كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي", وقوله: "إن أمتي لا تطيق ذلك", ولم يقل: أصحابي.
فالأحرف السبعةُ حَوَتْهَا قِراءَاتُ الْقُرَّاء, وهي الأوجه التي يظهر فيها التخفيف جليًّا, وأقرب ما تكون: اللهجات وكيفيّة نطق الكلمات, إمالةً وفتحًا, وترقيقًا وتفخيمًا, وهمزًا وإبدالاً, وتحقيقًا ونقلاً.
فيحتمل أنْ تكون الإمالة وعدمُها حرفًا, والترقيق والتفخيم حرفًا, وتحقيق الهمز وتسهله ونقلُه حرفًا, وهكذا.
"لأنه يبرز الحكمة الكبرى من إنزال القرآن على سبعة أحرف، ففيه تخفيف وتيسير على هذه الأمة التي تعددت قبائلها فاختلفت بذلك لهجاتها، وتباين أداؤها لبعض الألفاظ".
ثم كتب الناسُ المصاحف حسب الحرف الذي يقرؤون به, فيكتبون الألف المائلة ياءً مفتوحة, ويحذفون الهمز من المصاحف ونحو ذلك.
وكتبوا الكلمات التي تُخالف رسم المصحف, مِمَّا هي منسوخة.
فلما رأى عثمان هذا الاختلاف في رسم المصاحف أحرقها ووحد رسمها.
قال الطاهر ابن عاشور رحمه الله: ذَهَبَ جَمَاعَةٌ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْأَحْرُفِ لَهَجَاتُ الْعَرَبِ فِي كَيْفِيَّاتِ النُّطْقِ كَالْفَتْحِ وَالْإِمَالَةِ، وَالْمَدِّ وَالْقَصْرِ، وَالْهَمْزِ وَالتَّخْفِيفِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ رُخْصَةٌ لِلْعَرَبِ مَعَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ، وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَجْوِبَةِ، وَهنا لَك أَجْوِبَةٌ أُخْرَى ضَعِيفَةٌ, لَا يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ التَّعْرِيجُ عَلَيْهَا. ا.ه
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامْتنانه, وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيما لشأنه, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه (صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه) وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: أمة الإسلام: إنّ المصحفَ العثمانيَّ الذي بين أيدينا, رُسِمَ خطُّه على حرفٍ واحد, "لكنْ لكونِه جُرِّدَ عن النَّقْط والشكل, احتمل أكثر من حرف, إذ لم يترك الصحابة إدغامًا ولا إمالةً, ولا تسهيلاً ولا نقلاً ولا نحو ذلك مما هو في باقي الأحرف الستة, وإنما تركوا ما كان قبل ذلك من زيادة كلمة ونقص أخرى ونحو ذلك مما كان مباحًا لهم القراءة به" قبل عِلْمهم بنسخها.
ومِمَّا نُسخ كذلك: القراءة بالْمُترادف, فقد ثبت عن النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: إِنْ قُلْتَ: غَفُورًا رَحِيمًا، أَوْ قُلْتَ: سَمِيعًا عَلِيمًا، أَوْ عَلِيمًا سَمِيعًا فَاللهُ كَذَلِكَ، مَا لَمْ تَخْتِمْ آيَةَ عَذَابٍ بِرَحْمَةٍ، أَوْ آيَةَ رَحْمَةٍ بِعَذَابٍ".
فهذا كان في بداية الأمر, تيسيرًا على الناس في أن يقرؤوا بالمترادف, بشرط أن لا يخلَّ بالمعنى, حتى إذا ذلَّت ألسنتهم بالقرآن نُسخ هذا الحكم، وحفظ الصحابة الكرام رضوان الله عليهم القرآن الذي أُنزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلفظه ومعناه.
والمصاحف العثمانية مشتملةٌ على الأحرف السبعة كلّها, ولم يحذف الصحابة منها شيئًا, وكيف يجوز لهم إلغاءُ رخصةِ القراءةِ بالأحرف السبعة, والحكمةُ منها لا تزال قائمة؛ بل هي أشدُّ بعد دخول الناس من مختلف الألسن والأجناس في الإسلام؟!
فعثمان رضي الله عنه لم يهمل شيئًا من الأحرف المنزلة الثابتة في العرضة الأخيرة ولم يَطَّرِحْه، وهي باقيةٌ ضمن مصاحف عثمان، والرخصة بها قائمة إلى يوم القيامة".
نسأل الله تعالى أنْ يعلمنا ما ينفعنا, وينفعنا بما علّمنا, إنه سميعٌ قريبٌ مُجيب.