كلمات صنعت علماء
عبدالرحمن بن أحمد بن أبي جمرة
كلماتٌ قيلت عرَضًا، لم يُلقِ أصحابها لها بالًا، رفع الله بها أقوامًا من حَضيض الجهل إلى سماء العلم، وقدحت زناد الهمَّة في نفوس سامعيها، وأشعلَت روحَ العزيمة في قلوب متلقيها، فبعثَتهم من رقادهم، وأيقظَتهم من سباتهم، فصاروا أئمَّة أعلامًا.
• قال الفرَّاء: "إنَّما تعلَّم الكسائي النحوَ على الكِبَر، وكان سبب تعلُّمه أنه جاء يومًا، وقد مشى حتى أَعْيَا، فجلَس إلى الهبَّاريين[1]، وكان يجالسهم كثيرًا، فقال: قد عييت، فقالوا له: أتجالسنا وأنت تَلحن؟! فقال: كيف لحنتُ؟ قالوا له: إن كنت أردتَ من التعب، فقل: أعيَيَت، وإن كنت أردتَ من انقطاع الحيلة والتحير في الأمر، فقل: عَيِيت - مخفَّفة - فأنِف من هذه الكلمة، ثمَّ قام من فوره ذلك، فسأل عمَّن يعلِّم النحو، فأرشدوه إلى معاذ الهراء، فلَزِمه حتى أنفد ما عنده، ثم خرج إلى البصرة، فلقي الخليلَ، وجلس في حلقته..."[2].
• ويقول الإمام محمد بن إسماعيل البخاري: "كنتُ عند إسحاق بن راهويه، فقال لنا بعض أصحابنا: لو جمعتم كتابًا مختصرًا لسنن النبي صلى الله عليه وسلم، فوقع ذلك في قلبي، فأخذتُ في جَمع هذا الكتاب؛ يعني: كتاب الجامع"[3].
• وذكر أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم أنَّ سبب تعلُّمه الفقه أنَّه شهد جنازةً لرجل كبير من إخوان أبيه، فدخل المسجدَ قبل صلاة العصر والحفل فيه، فجلس ولم يركع، فقال له أستاذُه - يعني الذي ربَّاه - بإشارة: أنْ قم فصلِّ تحيَّة المسجد، فلم يفهم، فقال له بعضُ المجاورين له: أبلغتَ هذه السنَّ ولا تَعلم أن تحيَّةَ المسجد واجبة[4]؟! وكان قد بلَغ حينئذٍ ستةً وعشرين عامًا، قال: فقمتُ وركعتُ وفهمت إذًا إشارة الأستاذ إليَّ بذلك، قال: فلما انصرفنا من الصلاة على الجنازة إلى المسجد مشاركة للأحياء من أقرباء الميت، دخلتُ المسجدَ فبادرتُ بالركوع، فقيل لي: اجلس، اجلس، ليس هذا وقت صلاة، فانصرفتُ عن الميت وقد خزيتُ ولحقني ما هانت عليَّ به نفسي، وقلتُ للأستاذ: دلني على دار الشيخ الفقيه المشاور أبي عبدالله بن دحون، فدلَّني فقصدتُه من ذلك المشهد وأعلمتُه بما جرى فيه، وسألتُه الابتداءَ بقراءة العلم، واسترشدته، فدلَّني على كتاب الموطأ لمالك بن أنس رضي الله عنه، فبدأتُ به عليه قراءة من اليوم التالي لذلك اليوم، ثمَّ تتابعَت قراءتي عليه وعلى غيره نحو ثلاثة أعوام وبدأتُ بالمناظرة"[5].
• وقال ابن السبكي عن الإمام العز بن عبدالسلام رحمه الله: "سمعتُ الشيخ الإمام [أي: والده التقي السبكي] يقول: كان الشيخ عز الدين في أول أمره فقيرًا جدًّا، ولم يشتغل إلَّا على كِبَر؛ وسبب ذلك أنَّه كان يبيت في الكَلَّاسة[6] من جامع دمشق، فبات بها ليلة ذات بردٍ شديد فاحتلم، فقام مسرعًا ونزَل في بركة الكلَّاسة، فحصل له ألَم شديد من البَرد، وعاد فنام، فاحتلم ثانيًا، فعاد إلى البركة؛ لأنَّ أبواب الجامع مُغلقة وهو لا يمكنه الخروج، فطلع فأغمي عليه من شدَّة البرد - أنا أشك هل كان الشيخ الإمام يَحكي أنَّ هذا اتَّفق له ثلاث مرات تلك الليلة أو مرتين فقط - ثمَّ سمع النِّداءَ في المرة الأخيرة: يا بن عبدالسلام، أتريد العلمَ أم العمل؟ فقال الشيخ عز الدين: العلم؛ لأنَّه يَهدي إلى العمل، فأصبح وأخذ "التنبيه" فحفِظَه في مدَّة يسيرة، وأقبل على العلم، فكان أعلَمَ أهل زمانه، ومِن أعبد خلق الله تعالى"[7].
• وقال الإمام الذَّهبي عن شيخه علَم الدين البرزالي: "وكان هو [أي: علم الدين البرزالي] الذي حبَّب إليَّ طلَبَ الحديث؛ فإنَّه رأى خطِّي فقال: خطك يشبه خطَّ المحدِّثين، فأثَّر قوله فيَّ، وسمعتُ وتخرجت به في أشياء"[8].
• والشيخ العلَّامة "خالد بن عبدالله بن أبي بكر المصري الأزهري الوقَّاد النَّحوي، اشتغل بالعلم على كبر، قيل: كان عمره ستًّا وثلاثين سنة، فسقطَتْ منه يومًا فتيلة على كرَّاس أحد الطَّلبة، فشتمه وعيَّره بالجهل، فترك الوقادةَ وأكبَّ على الطَّلَب، وبرع وأشغل الناس"[9].
• وعلَّامة شنقيط المختار بن بون الجكني لم يشتغل بالعلم إلَّا بعد أن كبر، وكان في أول أمره يَضرب أقرانه من الصبيان، وينزع منهم ما بأيديهم، فاتَّفق أنه سَطا ذات يوم على صبيٍّ فضربه، فانتصرَت له أمه، وسبَّت المختار بن بون سبًّا قبيحًا، وعيَّرَته بالجهل؛ فأنِف لذلك، وسار من غير علم أبويه يريد المختار بن حبيب، فوصل إليه، وشرع في قراءة الآجرومية، فلم يفهمها، ثمَّ فتح الله عليه[10].
هذه كلماتٌ أوقدَت نارَ الحماسة في قلوب سامعيها، فنفضوا الكسل والسُّهاد، وشمَّروا عن ساعد الجدِّ والاجتهاد، فكانوا مناراتٍ يَهتدي بها الحائرون، وأعلامًا يستضيء بنورها السالكون.
[1] نسبة إلى هبَّار، وهو اسم جد عبدالعزيز بن علي بن هبَّار الهبَّاري؛ انظر: "الأنساب"؛ للسمعاني (13/ 382).
[2] "تاريخ بغداد" (13/ 345).
[3] "تاريخ بغداد" (2/ 322).
[4] أي: على مذهب الظاهرية.
[5] "معجم الأدباء" (4/ 1652 - 1653).
[6] الكَلَّاسة (بالتشديد): موضع بدمشق، كذا في "تاج العروس" (16/ 449)، وهو لا يناسب سياق القصَّة هنا.
[7] "طبقات الشافعية الكبرى" (8/ 212 - 213).
[8] "ثلاث تراجم نفيسة للأئمة الأعلام" (ص: 40).
[9] "شذرات الذهب" (10/ 38 - 39).
[10] "الوسيط في تراجم أدباء شنقيط" (ص: 278).