بسم الله الرحمن الرحيم
إضاءات لأئمة المساجد في الوقف والابتداء في القرآن الكريم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.. أما بعد:
فهذه أسطر كتبتها قبيل هذا الشهر المبارك: شهر رمضان، الذي أنزل فيه القرآن، أوجهها إلى أئمة المساجد خاصة، وإلى من أراد الإفادة منها عامة، حول موضوع كان يشغلني مذ سنين عديدة، ألا وهو الوقف والابتداء في تلاوة الكتاب العزيز، وقبل الشروع في المقصود أقدم بأربع مقدمات:
الأولى:أن من نافلة القول التأكيدَ على شرف علم الوقف والابتداء، وارتباطه بتأويل كتاب الله تعالى، فهما وإفهاما، ولذا اهتم العلماء به اهتماما بليغا، وألفوا فيه المؤلفات في أوائل مؤلفات التراث الإسلامي( تقديرا لمجهود صاحب البوست او المشاركه فانه لا يمكن مشاهدة الروابط إلا بعد التعليق على البوست In appreciation of the efforts of the owner of the post or participation, the links cannot be viewed until after responding to the post or participation
)، وكتبوا فيه أبوابا في كتب التجويد، وَقَلَّ أن يخلوَ كتاب تفسير من المطولات من الكلام عن الوقف والابتداء، بل أشار ابن الجزريِّ - رحمه الله - إلى اشتراط كثير من الأئمة على المجيز ألا يجيزَ من لا يعرف الوقفَ والابتداء( تقديرا لمجهود صاحب البوست او المشاركه فانه لا يمكن مشاهدة الروابط إلا بعد التعليق على البوست In appreciation of the efforts of the owner of the post or participation, the links cannot be viewed until after responding to the post or participation
).
ولو لم يكن من الحضّ عليه من كلام الأئمة إلا ما قاله ابن النحاس - رحمه الله - لكفى، فقد قال: «قد صار في معرفة الوقف والاستئناف التفريقُ بين المعاني، فينبغي لمن قرأ القرآن أن يتفهم ما يقرؤه، ويشغل قلبه به، ويتفقد القطع والاستئناف، ويحرص على أن يُفهِم المستمعين في الصلاة وغيرها، وأن يكون وقفه عند كلام مستغنٍ أو شبيه، وأن يكون ابتداؤه حسنًا»( تقديرا لمجهود صاحب البوست او المشاركه فانه لا يمكن مشاهدة الروابط إلا بعد التعليق على البوست In appreciation of the efforts of the owner of the post or participation, the links cannot be viewed until after responding to the post or participation
)، وقال علم الدين السخاوي - رحمه الله -: «ففي معرفة الوقف والابتداء الذي دوّنه العلماء تبيينُ معاني القرآن العظيم، وتعريف مقاصده، وإظهار فوائده، وبه يتهيأ الغوص على درره وفرائده»( تقديرا لمجهود صاحب البوست او المشاركه فانه لا يمكن مشاهدة الروابط إلا بعد التعليق على البوست In appreciation of the efforts of the owner of the post or participation, the links cannot be viewed until after responding to the post or participation
).
الثانية:أن فروع هذا العلم كثيرة، فقد تكلم العلماء فيه عن أنواع الوقف، من التام والحسن والقبيح، وكذلك الوقف على رؤوس الآي والخلاف فيه، ونحو ذلك.
إلا أن هذه الأحرف لن تتطرق لهذه التقسيمات وهذه التفصيلات، بل الكلامُ مُتَّجِهٌ إلى ما يهم الإمام في الصلاة من قواعدَ جامعات، أو تنبيهات نافعات، والداعي إليها هو ما يلاحظ من خلوّ قراءة كثير من الأئمة من الاهتمام بهذا الموضوع الشريف، بل والزهد فيه أكبر زهد، فَفَقَدَتِ التلاوةُ عند هؤلاء جمالَهَا، وفارق الأداءَ رونقُه وبهاؤه، وقُطع الكلام المتصل، ووُقِف على ما يؤدي معنى قبيحا، وبُدِئَ من حيث ما يُفهِم باطلا، وربما شَعَرَ ببعض ذلك فاعلُه، ولم يشعر بأكثره، ولا يراعي في ذلك إلا النفس، فيقف حيث انتهى النفس، ويبدأ مما يلي ذلك!.
وقد تناسى هؤلاء - أنار الله بصائرهم - أن حالَ تالي القرآن مع السامع كحال الدليل مع المستدلّ، فالمستدلُّ يتبع أثر دليله حيثما تَوَجَّهَ، ويقف حيث وقف، والتالي لكتاب الله كذلك، فهو بصوته وأدائه ووقوفه يُفَسِّرُ القرآن، ويستخرج المعاني، ويلفت النظر أيان اقتضى الأمر؛ فإذا كان ذلك كذلك فأنّى لنفوس تعطشت إلى كتاب الله في رمضان عَطَشَ الظمآنِ في يوم صائف إلى الماء القُراح، ولربما اقترفت هجرا طويلا عن هذا الكتاب الكريم، أنّى لها أن تتدبر كتاب ربها حق التدبر، وتتعقلَهُ حقَّ التعقل، والقارئ لا يعينها على ذلك؟!
الثالثة: أن الوقف والابتداء علم وثيق العلاقة بعلم التفسير، وعلم النحو، وعلم البلاغة، فلا يمكن أن يَفَقَهَ الوقفَ والابتداءَ حق فِقْهِه من لا يَعِي مفاتيحَ هذه العلومِ وَأُسُسَها، ولكن المأمور المشروع يأتي المسلم منه بما استطاع، وما لا يُدرَكُ كلُّه لا يُترَك كلُّه، وهذا العلم كلما أدار التالي كتابَ ربه ذهنَه إليه أكثر، وكانت ملازمته له أطول؛ كانت فائدتُه أتم، وإدراكُ قواعده أسرعَ وأحسن.
وسأحاول جاهدا إن شاء الله تسهيلَ ما سأذكره من قواعد وملاحظات، ويأخُذُ كلٌّ منها ما تيسر له.
الرابعة:بلا شك أنه يغتفر في القراءة في صلاة التراويحِ والقيام ما لا يغتفر في قراءة التعليم والتعلم ونحوها، فقراءة القيام يغلب عليها الحدر، فيتجاوز فيها في بعض الوقوف التي لا تحيل المعنى وغير القبيحة؛ ذلك ليعلم أن ما يُنَبَّهُ إلى وصله أو الوقف عنده ليس على درجة واحدة من حيث اللزوم، وسيأتي بيان ذلك تفصيليا إن شاء الله.
والكلام في الوقف والابتداء فيما يهم الإمام يمكن أن يجعل على قسمين:
القسم الأول: الوقف قبل الركوع، والابتداء بعد الفاتحة من الركعة التالية في نفس اليوم أو من الغد، وهو المسمى بـ (قطع القراءة)، وهذا يعني اختيارَ الإمامِ للوقف المناسب على رأس آية قبل الركوع، والابتداء بعد ذلك، كأن يقطع القراءة في الركعة الأولى عند نهاية الآية السادسة عشرة من سورة البقرة، ثم يستأنف في الركعة الثانية من الآية السابعة عشرة {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17] ويقف عند نهاية الآية الرابعة والعشرين من السورة ذاتها {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24]، وهكذا.
وليس المعنيُّ بذلك الخلافَ في الوقف على رؤوس الآي ووصل بعضها ببعض عند شدة تعلق المعنى، فليس هذا موضعَ الكلامِ عليه.
القسم الثاني: الوقف والابتداء وسطَ الآية الواحدة، كأن يقرأ قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ}، ثم يقفُ هنا لانقطاع النفس، ثم يعيد: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17]، أو أن يقف اختيارا؛ كأن يقرأ قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا}، ثم يقف ثم يكمل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}[البقرة: 275].
فأما القسم الأول؛ فإن المشاهد من بعض الأئمة الالتزام بقطع القراءة عند نهاية الوجه والابتداء بما بعده من مصحف مجمع الملك فهد، أو ربما عند انتصاف الوجه عند من يخففون صلاة التراويح جدا، ونحو ذلك، بقطع النظر عن تعلق معنى الآية التي قطع القراءة عليها بما بعدها مهما كان التعلق شديدا؛ وربما فَعَل ذلك من فَعَله لأن فيه ضبطا لعدّ ركعات الصلاة، وبخاصة من يقرأ عن ظهر قلب، وربما خَوْفَ تفاوت الركعات طُولًا وَقِصَرًا في الوقت، وخشية الإثقال على المصلين، إلى غير ذلك من الأسباب.
وفي حقيقة الأمر أن من الآيات ما يكون تعلقها ببعضها شديدا، يقبح القطع على الأولى منهما والابتداء بما بعدها إطلاقا، ومنها ما يكون التعلقُ بينها تعلقا ظاهرا إلا أن القطع على الأولى منهما لا يحيل المعنى، ومنها ما يكون القطع فيها قاطِعًا لاتصال المعاني ببعضها، ويكون الاستئناف بما بعد ذلك لا يؤدي معنًى إلا مع ما قبله، فهذا النوع الأخير ربما يُعفَى عنه بين الركعتين في اليوم الواحد، لكن لا يُقبَل أن يقفَ عليه القارئ في هذا اليوم، ثم يأتيَ من الغد يكمل ما وقف عليه بالأمس.
وَفِقْهُ هذا الأمر يتطلبُ الْتِفَاتَةً إلى تدبر المعاني والسياقات، واتصالِ بعض الكلام ببعض من عَدَمِه، والتفريق بين ما يكون عطفا وما يكون استئنافا، ويستعين الإمام في معرفة ذلك بالله - تعالى -، ثم بالرجوعِ إلى كُتُبِ التفسير، وتناسُبِ الآيات، والإعراب، وسؤالِ المختصين في هذا المجال.
ومثال القطع على الآية المتعلقة بما بعدها تعلقا ليس بشديد: القطعُ على قوله -تعالى- {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16] ثم الابتداء في الركعة التالية بقوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا}[البقرة: 17]؛ فنلحظ أن هناك تعلقا بين الآيتين، فقد تضمنت الثانية ضميرا يعود على ألئك المنافقين الذين اشتروا الضلالة بالهدى، وهو يذكر هنا صفتهم، إلا أن في الآية الثانية بَدْءَ ذِكْرِ صِفَتِهِمْ بضرب مثالين لهم، و(مَثَلُهُمْ) مبتدأ مرفوع كما لا يخفى.
أما ما كان التعلق فيه شديدا وإن كان القطع عليه والابتداء بما بعده لا يؤدي معنى فاسدا؛ فهو كقوله تعالى في سياق قصة آدم وزوجه - عليهما السلام - وإخراجهما من الجنة: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 37]، ثم الابتداء بما بعدها {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} [البقرة: 38].
وحين نتأمل سياق الآيات نجد أن اللهَ - عزَّ وجلّ- قال: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 36-39]، فنلاحظ أن قوله (قلنا اهبطوا منها جميعا..) إنما هو تفسيرٌ لقوله: (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ).
ثم إن الآيات سيقت للاعتبار والذكرى، وتحذيرا لبني آدم أن يفتنهم الشيطان كما أخرج أبويهم من الجنة، وهذا إنما يكون بوصل الآيتين جميعا (38، 39)، وهما ثلاثة أسطر ليس فيها إطالة على المأمومين.
وما بعدهما بداية موضوع آخر، وهو تذكير بني إسرائيل بنعم الله عليهم: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} الآية [البقرة: 40].
ومن هذا أيضا قوله تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 15-16]، فربما قَطَعَ بعض الأئمة عند نهاية الآية الخامسة عشرة لانتهاء الوجه دون أن يتفطن لشدة تعلق المعنى، وهو أن قوله (الذين يقولون) ليست استئنافا، بل نعت للذين اتقوا، فالمعنى: للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار...، القائلين ربنا اغفر لنا ذنوبنا.
ومثله أيضا قول الله سبحانه: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ(45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 45-46]، فالآيتان متعلقتان ببعضهما كما لا يخفى.
ومثال الابتداء بما لا يؤدي معنًى إلَّا بما بَعْدَه قولُهُ تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} الآية والتي بعدها [النساء: 23-24]، فمن الأئمة من يقطع على آخر الآية الثالثة والعشرين، ثم يأتي من الغد فيبتدئ بقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ }، ولو سُئِل: المحصنات من النساء ما شأنها؟! لاستحضر أنها معطوفة على المحرَّماتِ قبلها في الآية السابقة؛ وبهذا يُعْلَمُ أنه لمْ يُرَاعَ المعنى في وضع بدايات الأجزاء والأحزاب؛ فعلى الإمام أن يَتَنَبَّهَ لذلك.
وفي مثل هذا الموضع يمكن الإمامَ أن يقفَ على آخر الآيةِ الرابعة والعشرين، ثم يبتدئَ بالآية التالية: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } [النساء: 25].
- ومن المواضع ما يكون التعلق فيها شديدا وإن كان خافيا على كثيرين، ومن ذلك: الوجه رقم (101) في سورة النساء، فإن الله تعالى قال عن اليهود: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [النساء: 155]، وهذه الباء التي في قوله: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ) هي باء السببية، أي بسبب نقض اليهود ميثاقهم، وبسبب كفرهم بآيات الله، وبسبب قتلهم الأنبياء بغير حق، وقولهم قلوبنا غلف. ثم رد الله - تعالى - على قولهم: قلوبنا غلف بقوله: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 155]، ثم عطف على ما سبق من سوء فعال اليهود، فقال: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} [النساء: 156، 157] ثم رد على قولهم الأخير وفنَّد دعواهم بقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157]، ومضى السياق في الكلام عن عيسى - عليه السلام -.
والشاهد من هذا أننا نلحظ أنه لم يأت حتى الآن متعلَّقُ الباء في قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} الآيات، بمعنى أنه بسبب نقضهم ميثاقهم وبسبب كفرهم وبسبب قتلهم الأنبياء بغير حق، وبسبب قولهم الإفك، إلخ... ماذا حصل لهم بسبب ذلك كله؟ هذا لم يأت حتى الآن، وهذا المتعلَّق هو في قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160]، فأَجْمَلَ جميعَ أفعالهم التي ذكرها سابقا بقوله: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا}، وَذَكَرَ زيادةً على ذلك: الصدَّ عن سبيل الله، وأخْذَ الربا، وأكلَ أموالِ الناس بالباطل، فسبب ذلك كله حرم الله عليهم طيبات كانت قد أحلت لهم من قبل.
فَمَنْ قَطَعَ على ما قَبْلَ قولِه: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} كان بمثابة من يقطع القراءة على قوله تعالى: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ}، ثم يستأنف في الركعة التالية بقوله تعالى: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ } [الصافات: 161-162].
هذا هو القسم الأول من قسمي الوقف والابتداء.
القسم الثاني: هو الوقف والابتداء وسط الآية الواحدة، وسيكون القسم على هذا القسم أكثر -إن شاء الله تعالى-؛ ذلك أنه أكثر ما يُعْنَى في تقسيمات العلماء حين قسموا الوقف إلى تامٍّ وكافٍ وحسنٍ وقبيح، ونحو ذلك من التقسيمات، وهو أيضا أكثر إهمالا عند كثيرين من القسم الأول، وفي الوقت ذاته يجري فيه ضدُّ الإهمال من الإفراط والتكلف.
فتجد بعض الأئمة - وفقهم الله - لا يلقي للوقوف من هذا النوع أيَّ بال، بل يقف حيث ساعده النفس، ويكمل من حيث وقف، ويترك الوقف التام والكافي، فلا يقف عنده، ثم يقف وقفا قبيحا، كأن يقول: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى} [الأنعام:36]، ثم ربما يعيد، وإعادته أمر حسن، ولكنَّ تركَه للوقف عند المعنى التام عند (يسمعون) ووقفه حيث يفيد معنى قبيحا هو فعل عن الصواب بمعزل.
وهناك بعض الأئمة - هداهم الله - ربما تعدَّوُا في الوقف وغَلَوْا في تكلف المعاني التي لا يدل عليها السياق، ولا تساعد عليها اللغة، بل تردها ردا بينا، وهؤلاء بلا شكّ من غير العارفين بتفسير ولا لغة، وليتهم أدركوا هذا فقلَّدوا غيرهم من القراء المعتبرين، أو التزموا بعلامات الوقف في المصحف الشريف، وذلك مثل قراءة أحدهم لقوله تعالى: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ} [القصص: 9]، فقرأها: (وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا)، ولا شك أن هذا غلط، لم ينتبه فاعله إلى حقيقته، وسيأتي بيانه إن شاء الله.
وقبل ذكر القواعد والتنبيهات في هذا القسم؛ أنبه إلى أهمية النظر في علامات الوقف في المصحف الشريف سواء كان من طباعة مجمع الملك فهد أو غيره، ولا شك أن مصحف المجمع من أحسنها وأجودها؛ إذ هو ثمرة اجتهاد لجنة علمية تَضُمُّ نُخْبَةً من كبار العلماء المختصين بالقرآن وعلومه والتفسير واللغة، فيحسن بالإمام كثرةُ النظر في هذه الوقوف، وتلمسِ مواضعها كل يوم أثناء مراجعته، وفي قراءته عموما، فمن أدام النظر استحضر أغلب هذه الوقوف، بل مَنَحَتْه مَلَكَةً عالية في معرفة قواعدها، ومتشابهاتها.
وهنا أذكر بعض القواعد والتنبيهات العامة للوقوف:
أولا:أن لا يقف على ما يقبح الوقوف عليه، مما يؤدي معنى فاسدا، وأكثر هذه الوقوف سببها ضيقُ النَّفَسِ وقلةُ التحضير، ولو أن القارئ حَضَّرَ لهذه الوقوفِ لَوَسِعَهُ أن يقف قبل هذه المواضع؛ حتى لا يقع في مغبة الوقف على ما يؤدي معنى فاسدا.
- ومن هذه الوقوف ما تكون شديدة القبح جدا، تجد من عوام الناس من يتأفف منها ويتضايق، ومن الناس من يكاد يقطع الصلاة لقبح الوقف الذي وقفه الإمام، وأمثّل لذلك بما وقف عليه بعضهم في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النحل:60]، فقد وقف عند (ولله) فتأمل كم يؤدي هذا الوقف من قبيح معنى تعالى الله عنه!!
- ومن الوقف القبيح: الوقف بعد النفي وقبل أداة الاستثناء التي للحصر، فيؤدي هذا إلى نفي المعنى مع أن المراد إثباته، كأن يقرأ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} الآية [الحج: 52]، فيقرأ من أول الآية ويقف عند (ولا نبي) فيكون نفيا لإرسال أي رسول أو نبي! والمشكلة الأكبر إذا لم يشعرِ الإمامُ بذلك، فأكمل: {إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ}!.
- ومن الوقف القبيح: الوقف على أول كلمة من الجملة التالية بما يوهم أنها عطف على ما سبق، مع امتناع أن تكون عطفا، كأن يقرأ قوله تعالى: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان:31]، فيقرؤها (يدخل من يشاء في رحمته والظالمين) فهذا يفهم أن الظالمين داخلون في رحمة الله، ونحوها قوله تعالى: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} [الأعراف:30]، فيقول: (فريقا هدى وفريقا) فهنا يوهم العطف، ولو أنه وَصَل الجميع لتبين المعنى، أو وقف عند (فريقا هدى) ثم أكمل؛ لأن المعنى: وأضل فريقا حق عليهم الضلالة.
ومثاله أيضا أن يقرأ قوله - عز وجل-: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [الرعد:14]، فيقرأ هكذا: (له دعوة الحق والذين يدعون من دونه)؛ فهذا يؤدي معنى مناقضا لمعنى الآية - تعالى الله عن ذلك -، فإما أن يصل {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ...}، أو أن يقف عند الجملة الأولى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} ثم يكمل، وفي المصحف قد وُضع عليها علامةٌ للوقف.
ومثل ذلك قوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} [الأعراف: 58]، فيقرؤها هكذا: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ}، فهنا لو أُخِذَ على ظاهر هذا الوقفِ لَفُهِمَ أن الذي خبث يخرج نباته بإذن ربه كذلك، وهنا للإمام أن يقف عند (بإذن ربه) إذ قد تمت الجملة ثم يستأنف( تقديرا لمجهود صاحب البوست او المشاركه فانه لا يمكن مشاهدة الروابط إلا بعد التعليق على البوست In appreciation of the efforts of the owner of the post or participation, the links cannot be viewed until after responding to the post or participation
)، وقد وضع عليها علامةٌ للوقف في المصحف.
وربما قيل: إن هذا لا يرد على الذهن؛ فمن المعلوم أن البلد الطيب ليس كالبلد الخبيث، فاستشكال هذا الوقف واستقباحه غير وراد، فيقال في الجواب عن ذلك: إنَّ كتابَ الله تعالى ينبغي أن يُؤَدَّى على الوجه الأكمل ما اسطاع القارئ إلى ذلك سبيلا، وأن يصان عن كل ظن ووهم، وبلا شك أن الأكمل أن لا يقف هذا الوقف.
ومن ذلك قول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج:4]، فقد سمعت من يقرؤها هكذا: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ}!! وكيف يكون الشيطان مضلا هاديا؟! بل هو عدو مضل مبين - معاذ الله منه - فهو يضله، ويهديه إلى عذاب السعير، أما مطلق الهداية فإنها يفهم منها الهداية إلى الحق. فإذا حَفَزَ القارئَ النفسُ فليقف على قوله (يُضِلُّهُ) ثم يعيد (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ).
- ومن قواعد الوقف القبيح الذي يؤدي معنى فاسدا: الوقف على فعلٍ فاعلُه اسمٌ ظاهر بعده، وهذا الوقف يوهم أن فاعلَه ضميرٌ مستَتِرٌ يعود على ما قبله، وبالمثال يتضح ذلك: قول الله تعالى: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} الآية [يوسف:70]؛ فلو قرأها القارئ هكذا: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ} ووقف هنا؛ لأوهمَ من لا يدري أن فاعل الفعل (أذّن) ضمير مستتر يعود على الفاعل السابق، وهو الذي جهزهم بجهازهم وجعل السقاية في رحل أخيه، وهو يوسف عليه السلام، أي أنه لما جهزهم يوسف بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن، بينما المعنى أنه أذن مؤذن آخر غير يوسف، فكان الأولى بالقارئ أن يقف عند (أخيه) أو أن يكمل إلى (مؤذن)، وبهذا يسلم من الوقوع في قبيح الوقف.
وَمِثْلُه قولُه - تعالى-: {قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ}[يوسف:17]، فلو قرأها: وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ}؛ لأوْهَمَ من جنسِ ما أَوْهَمَ المثالَ الذي قبله.
- ومن الوقف القبيح أن يقرأ: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ}[البقرة:17]، فيقف عند (ذهب الله).
- ومن أمثلته المتكررة الوقف على لفظ (تجري) من جملة: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة: 25]، فهذا يوهم أن الجنات هي التي تجري.
ثانيا: ألا يبتدئَ بما يؤدي معنى فاسدا أو غيرَ مراد في الآية:
- كأن يبتدئ بالكلام الكفري المحكيِّ عن الكفار في وسط الآية، فعليه أن يجتنب الابتداء بذلك ما استطاع، كأن يقرأ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [سبأ:43] فيبتدئ من عند (إن هذا إلا سحر مبين)، وهذا قول للكفار لا يحسن الابتداء به.
ونحوه أن يقرأ: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال:31]، فربما ابتدأ من عند (لو نشاء لقلنا مثل هذا) أو (إن هذا إلا أساطير الأولين)، وكان الأولى به أن يعيد من عند (قالوا...) إلى آخر الآية، وهذا ليس بعسير لمن يقرأ قراءة سريعة وبقصر المنفصل.
- ومما يقبح الابتداء به: {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة:120]، فإنها جواب شرط، والابتداء بها يوهم أن الله - عز وجلّ- ليس وليا لرسوله -صلى الله عليه وسلم- ولا ناصرا له، بينما هذا مشروط باتباعه لأهواء أهل الكتاب تحذيرا له ولأمته: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120].
- وكذلك الابتداء بكلمة (وإسحاق) من قوله تعالى: {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133]، فربما انتهى نفس القارئ عند (وإسحاق)، أو (إلها واحدا) فيعيد: (وإسحاق إلها واحدا)، ولا شك في فساد المعنى وقبحه حينئذ.
- أحيانا البدء بــــ (ما) الموصولة أو المصدرية يوهم أنها نفي، كما في قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف:51]؛ فإن المعنى: فاليوم ننساهم كنسيانهم لقاء يومهم هذا وجحدهم بآياتنا. فإذا وقف القارئ على (هذا) ثم ابتدأ (وما كانوا بآياتنا يجحدون) يوهم نفي أنهم كانوا بآيات الله يجحدون!.
- ومن قبيح الابتداء: البدءُ بآخر كلمة من بعض الجمل ووصلُها بالجملة التالية، كأن يقرأ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 20] فيبتدئ: {أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}.
- ومنه أن يقرأ قوله تعالى: {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد:2]، فيقرؤها (لأجل مسمى يدبر الأمر)، فكأن المعنى أن الله تعالى يدبر لأجل أجل مسمى، أو إلى غاية أجل مسمى، وهذا ليس مرادا في هذه الآية والله أعلم، بل إن قوله (لأجل مسمى) متعلق بما قبله، ثم تنتهي الجملة، ثم جملة أخرى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ}.
ثالثا: من قواعد الوقف الصحيح في هذا القسم: ألّا يقفَ على ما لم يكتملْ معناه، وذلك بأن تكون الجملةُ لم تكتمل بعد، وبلا شك أن هذا يتفاوت في لزوم وصله، وفي قبح قطعه، وكثيرٌ من ذلك إنما يحسن الوصل فيه لاتصال المعنى، ولكون الكلامِ جملةً واحدة، لا لأن الوقف عليه يؤدي معنى فاسدا كما مر معنا آنفا، وفي مثل هذا يمكن القارئ أن يقف، لكن عليه أن يعيد لئلا ينقطع الكلام المتصل، ومن أمثلة ما يتصل بعضه ببعض اتصالا وثيقا:
1. المبتدأ والخبر.
2. الصفة والموصوف.
3. الحال وصاحبها.
4. المعطوف والمعطوف عليه.
5. المستثنى مع المستثنى منه.
6. فعل الشرط وجزاؤه.
7. التعليل والمعلل.
- فمثال تعلق المبتدأ بالخبر مما قد لا يُفطَنُ له قوله - تعالى-: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 79]، فكثيرون هم الذين يقفون عند: (فيسخرون منهم) ثم يكملون {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، ولم يراعوا أن معنى الآية لا يتم إلا بالوصل؛ فإن قوله (الذين يلمزون المطوعين..) هو المبتدأ وصلة الموصول، وخبره هو قوله (سخر الله منهم)، والمعنى: أن الله تعالى يسخر من الذين يسخرون من المتصدقين من المؤمنين.
وكذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } [محمد: 2]، فهذه الآية عبارة عن مبتدأ وخبر؛ فالمبتدأ (الذين)، وخبره الجملة: {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} [محمد: 2]، فربما انقطع نفس القارئ عند قوله: {وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ}، فهنا يعيد ليتصل الكلام.
- ومثال تعلق الصفة بالموصوف إذا كانا في آية واحدة، قول الله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158]، فقوله: {النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} هذه ثلاث صفات لموصوف واحد وهو قوله (ورسوله) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وهذه الثلاث صفات هي: النبي، والأمي، والاسم الموصول (الذي). فلا يحسن أن يقول (فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي) ثم يكمل: (الذي يؤمن بالله وكلماته).
وهنا الصفة هي اسم مفرد، وهي أشد التصاقا بالموصوف، أما الصفة التي تكون جملة فهي كقوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة: 151]، فجملة (يتلو عليكم آياتنا) هي نعت لـ (رسولا).
وكقوله: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} [آل عمران:154]، فإن جملة: {يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} نعت للنعاس، فلا يحسن الوقف قبلها والابتداء بها.
- وكذلك: الحال سواء كانت مفردا أو جملة، فلا يحسن فصلها عما قبلها، وربما حسن الوقف قبلها في مواضع، لكن لا يحسن الابتداء بها، ومثال ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} [النحل:91]؛ فإن َّجملةَ: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} جملةٌ حالية؛ بمعنى: لا تنقضوا الأيمان بعد أن وثقتموها والحال أنكم جعلتُمُ اللهَ فيها كفيلا عليكم( تقديرا لمجهود صاحب البوست او المشاركه فانه لا يمكن مشاهدة الروابط إلا بعد التعليق على البوست In appreciation of the efforts of the owner of the post or participation, the links cannot be viewed until after responding to the post or participation
).
وأيضا قولُهُ تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال:5]؛ فإن جملة (وإن فريقا..) حال، أي: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق في حال كُرْهِ بَعضِ المؤمنين لهذا الخروج.
ولا يخفى أن فصل بعض الأحوال عن أصحابها ممَّا يقلِّلُ من وقع المعنى وَقُوَّتِه، وربما جَعَلَ جملةَ الحال لا معنى لها،كما في قوله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة:44]؛ فإن هذا السياقَ للتشنيع عليهم؛ كيف أنهم يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم في حال أنهم تالون للكتاب عالمون بأحكامه، فإن هذا أعظمُ شناعةً ممن يأمر الناس بالبر وينسى نفسه في حال كونه لا يقرأ الكتاب ولا يدريه.
ثمَّ لو وقف القارئ عند قوله: (وتنسون أنفسكم)، ثم استأنف (وأنتم تتلون الكتاب) لكان هذا إخبارا لهم بأنهم يتلون الكتاب، ومجرد الإخبار بذلك لا يفيد شيئا؛ فإنهم يعلمون أنهم يتلون الكتاب، فَعُلِمَ ضرورةُ وصلِ الحال بصاحبها في مثل هذه الآية وأمثالها، كقوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ}[آل عمران:99]؛ فإن جملة (وأنتم شهداء) جملة حالية، أي لم تصدون عن سبيلِ اللهِ مَن آمَنَ في حال كونكم شاهدين بأن ما آمنوا به حق، وتجدونه في كتبكم؟!
- ومما لا يحسن فصله عن بعض: المعطوفُ والمعطوفُ عليه، سواء كان المعطوف مفردا أو جملة.
مثال عطف المفرد قولُه -تعالى-: { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} الآية [الأحزاب:35]، فنلحظ كثرة المعطوفات في هذه الآية من (والمسلمات) حتى (والذاكرات) كلها معطوفات على (المسلمين) في أول الآية، فهذه لو قُطِعَ بعضُها عن بعض لم يترتب عليها فسادُ مَعْنًى؛ إلّا أنَّ الوصلَ أولى بلا شك.
أما عطفُ الجمل فمثل قوله -تعالى-: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157]، ففي هذه الآية أربع جمل معطوفة، الأولى (وينهاهم عن المنكر)، الثانية (ويحل لهم الطيبات)ـ الثالثة (ويحرم عليهم الخبائث)، الرابعة (ويضع عنهم إصرهم..).
ومن عطف الجُمل قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة:59].
ومما هو جديرٌ بالتنبيه عليه في العطف: التفريقُ بين (أنَّ) مفتوحة الهمزة، و(إنَّ) مكسورة الهمزة، المثَقَّلَتَيْنِ (مشدَّدَتَيِ النون)؛ فإن المكسورة تكون بداية جملة، فيحسن الوقف عند ما قبلها والابتداء بها ما لم تكن جملة حالية ونحو ذلك، أما المفتوحة فالغالب في القرآن أنه لا يحسن الوقف عند ما قبلها والابتداء بها إذا كان قبلها واوٌ؛ لأنها حينئذ تكون معطوفة، مثالها: { ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف:52]، وقوله - تعالى -: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} [النور:10]، وقوله: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:47].
- وكذلك الاستثناء؛ فلا يحسن فصلُ المستثنى وأداةِ الاستثناءِ عن المستَثْنَى منه إذا كان ذلك في آية واحدة، كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ } [هود:40]، وقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى}[النجم:26]، ومن ذلكَ قولُهُ تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة:229].
وأحيانا يكونُ الوقفُ قبلَ أداةِ الاستثناءِ يؤدي معنى فاسدا، كما في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء:25]، وقوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل:64].
ومما يلحق بالاستثناء: الاستدركُ بـ (وَلَكِن)، فيحسن وصلُ ما قبلها بما بعدها، وهي كثيرة جدا في القرآن، كقوله تعالى: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة:57]، وقوله سبحانه: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:4].
- ومما لا يحسن الفصلُ بينهما: فعلُ الشرطِ وجزاؤُه، كقوله تعالى: { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [البقرة:228]، وكقوله: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233]، فإن قوله (إذا سلمتم...) شرط لما قبله؛ فلا يحسن الوقف قبله ثم البدء به.
ومنه قوله تعالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء:25]، فإن جزاء الشرط هو: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء: 25]، وللأسف فإن بعض الأئمة، يقرؤها هكذا: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ}، ثم يكمل: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا}، والله سبحانه أعلم بما في نفوسنا صالحين كنا أو غيرَ صالحين؛ ولكن هذا الشرطَ هو حضٌّ على الأوبةِ والرجوع إلى الصلاح: {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا}، أي إن أصلحتم نياتكم في والدِيكم وأطعتم الله فيما أمركم به من القيام بحقوقهم بعد هفوة أو زلة في حقهم فإنه كان للأوابين بعد زلة أو هفوة غفورا( تقديرا لمجهود صاحب البوست او المشاركه فانه لا يمكن مشاهدة الروابط إلا بعد التعليق على البوست In appreciation of the efforts of the owner of the post or participation, the links cannot be viewed until after responding to the post or participation
).
- كما لا يحسن الفصل بين التعليل والمعلّل، ومن ذلك قوله - تعالى -: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12]، فإن جملة (لتعلموا..) تعليل لما قبلها، فلا يحسن الوقف قبلها والابتداء بها.
ومن التعليل قولُه تعالى عن الظالمين: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } [الأنعام:93]، فقوله (بما كنتم تقولون..) تعليل لما قبله، وهو قوله (تجزون عذاب الهون).
وربما كان التعليل بالكاف، كما في قوله تعالى عن أصحاب النار: {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف:51]، فقوله: (كَمَا نَسُوا..) تعليل لما قبله.
ومن ذلك: التعليلُ أو الترجي بـ (لعلّ)، وهو كثير جدا في القرآن، كقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [الأنبياء:31]، وقوله تعالى: {إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طه:10]؛ فلا يحسن الوقف على ما قبل (لعلّ) ثم إكمال ما بعدها.
وربما كان التعليل بـ(كي)، كما قال - عز وجلّ-: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ } [الحشر:7]، وللتعليل أدواتٌ كثيرة غيرُ ما ذُكِر.
- والمفعولُ لأجله هو في الحقيقة تعليلٌ لما قبله، كقوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:47]؛ فقوله (بَطَرًا) مفعول لأجله منصوب، والواو بعده عاطفة، و(رئاء) معطوف على (بطرا)، أي لا تكونوا كالمشركين الذين خرجوا من ديارهم لأجل البطر، ومراءاة الناس بِزِيِّهِمْ وأموالهم وكثرة عددهم( تقديرا لمجهود صاحب البوست او المشاركه فانه لا يمكن مشاهدة الروابط إلا بعد التعليق على البوست In appreciation of the efforts of the owner of the post or participation, the links cannot be viewed until after responding to the post or participation
).
رابعا: هناك مواضع يحسن الوقفُ عندها لغرضٍ تفسيريٍّ، أو بلاغيٍّ، أو شدا لانتباه السامع، ونحو ذلك، ومن هذه المواضع:
أ- عند نهايةِ جملةٍ أو كلمةٍ يُخْشَى من توهم أن ما بعدها معطوف عليها، ومن ذلك قوله -تعالى-: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران: 154]؛ فإن الجملة الأولى في هذه الآية تنتهي عند (طائفةً منكم)، ثم بداية جملة جديدة تتضمن إخبارا عن طائفة أخرى قد أهمتهم أنفسهم، فالوصل ربما أوهم عطف الطائفة الثانية على الأولى، وأن الله أنزل نعاسا يغشى طائفة منكم ويغشى طائفة أخرى قد أهمتهم أنفسهم. وهنا ربما يرد أن (وطائفةٌ قد أهمّتهم أنفسهم) من الواضح أنها جملة استئنافية؛ لِكَوْنِ قولِهِ: (وطائفةٌ) مرفوع، فلا يمكن أن تعطف على المنصوب قبلها: (طائفةً منكم)؛ ولكن في الحقيقة لا يدرك ذلك إلا من كان عالما بقواعد النحو، أما أكثر الناس فلا يعرفون هذا، ثم إن الوقوف على كل جملة أدعى للتأمل والتدبر والفهم، وهذا ما لَمْ تَتَوالَ الجُمَلُ القصيرة، أما إذا توالتِ الجُمَلُ القصيرة فربما كان المناسبُ وصلَها؛ خاصة في مثل القراءة في صلاة التراويح والقيام.
ومما يحسن الوقوف عليه خشية أن يُفهَم أن ما بعده معطوفٌ عليه: قوله -تعالى-: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:40]؛ فإن قوله (وكلمةُ الله هي العليا) هي جملة استئنافية وليست معطوفة على ما قبلها. وهناك فرقٌ كبيرٌ في المعنى بين كونها معطوفة وبين كونها استئنافية؛ وذلك أن الله -تعالى- أخبرنا أنه جعل كلمةَ الذين كفروا السفلى، فَعَلى العطف يكون المعنى أنه جعل كلمة الذين كفروا هي الكلمةَ السفلى، وجعل كلمته - تعالى- هي الكلمةَ العليا، وليس هذا هو المراد، بل كلمتُهُ تعالى هي العليا دائما، أما كلمة الكفار فربما يُظن أنها علت وانتصرت فيمحقها الله -تعالى-، ويجعلها السفلى؛ لأن للباطلِ جولةَ ساعة، أما الحقُّ فهوَ الغالِبُ إلى قيام الساعة، ولا شك أن التعبير بالجملة الاسمية يفيد الثبوت والاستمرار، أما التعبير بالجملة الفعلية فإنه يفيد الحدوث، وبذلك يُعلم أنه لا يحسُنُ الظنُّ أن اللهَ - سبحانه - جعل كلمتَه هي العليا حين هجرة نبيه - صلى الله عليه وسلم-، بل كلمته هي العليا دائما، وبهذا يظهرُ وَجَاهَةُ الوقف عند قوله: (وجعل كلمة الذين كفروا السفلى)، ونلاحظ أن عليها في المصحف علامة الوقف (قلى) التي تدل على أن الوقف أولى.
ب- الوقفُ بعد جملةِ الشرطِ إذا كان جزاءُ الشرطِ مُقَدَّرًا غيرَ مذكور؛ فإن هذا الوقف من الضرورة بمكان، فهو يدعو إلى الانتباه والتفكر، وَلَيَسِيحَ البالُ في سبيل تقدير هذا الجزاء، ثم مطالعة كتب التفسير، أو السؤال عن ذلك. مثالُهُ قولُه - تعالى-: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا} [الرعد:31]، فنلاحظ أن على (الموتى) في المصحف علامة (قلى)؛ وذلك أن هذه الجملة: (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال..) جملة شرطية، ومعناها: لو أن أقرآنا من عظمته أنه تُسَيَّرُ به الجبالُ وَتُقَطَّعُ به الأرض ويكلم به الموتى لكان هو هذا القرآن؛ فجزاء الشرط هو: لكان هذا القرآن المنزل( تقديرا لمجهود صاحب البوست او المشاركه فانه لا يمكن مشاهدة الروابط إلا بعد التعليق على البوست In appreciation of the efforts of the owner of the post or participation, the links cannot be viewed until after responding to the post or participation
)، وهو مقدَّرٌ لِلِعِلْمِ به، فيحسن الوقف إذن بعد انتهاء جملة الشرط، وقبل قوله: (بل لله الأمر جميعا).
ومن ذلك قوله - تعالى-: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [يوسف: 15]، فالجملة شرطية أيضا وتنتهي عند (الجبّ)، والجواب مقدر: أي لما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب فعلوا ذلك وجعلوه فيها، ويكون قولُه تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} جملةً استئنافية، ولذلك جُعِلَ في مصحف مجمع الملك فهد على (الجب) علامةُ الوقف الجائز (ج)، وهذا على أحد القولين في المسألة.
والقولُ الآخرُ هو مذهبُ الكوفيين، وهو أنَّ جزاء الشرط هو (أوحينا)، ويجوز إقحام الواو قبل جزاء الشرط عندهم مع (حتى) و(لما)( تقديرا لمجهود صاحب البوست او المشاركه فانه لا يمكن مشاهدة الروابط إلا بعد التعليق على البوست In appreciation of the efforts of the owner of the post or participation, the links cannot be viewed until after responding to the post or participation
).
ت- إذا كان الكلام مسوقا للذم؛ فإنه لا يحسن الوقف على ما لا ذَمَّ فيه ثم الابتداء بما بعده، وذلك كما في حكاية الله - تعالى - لكلام المنافقين، واختلاف قولهم مع المؤمنين عن قولهم مع شياطينهم وإخوانهم. مثال ذلك قوله -تعالى- عنهم: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14]؛ فإن هذا الكلامَ المحكيَّ عنهم إنما ذكره الله على سبيل الذمّ لهم به بلا شك. وإذا تأملنا قراءة كثير من أئمة المساجد نجد أنهم يقفون عند (آمنا)، فيقرأ الإمامُ: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا}، ثم يقف ويكمل: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}، وهذا الوقف لا يفيد ذما، بل قول الإنسان: "آمنت" أمر محمود، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لسفيان بن عبدالله الثقفي رضي الله عنه: (قل آمنت بالله ثم استقم)( تقديرا لمجهود صاحب البوست او المشاركه فانه لا يمكن مشاهدة الروابط إلا بعد التعليق على البوست In appreciation of the efforts of the owner of the post or participation, the links cannot be viewed until after responding to the post or participation
)، إنما الذم في أن يقول عند المؤمنين: آمنت، وعند الكفار يقول: لم أومن بل أستهزئ. إذن الذم لا يتحقق إلا بالوصل؛ لإيضاح التناقض والنفاق.
ومثل ذلك قوله - تعالى - في سياق الكلام عن المنافقين أيضا: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} [النساء:81]، فلو قرأ القارئ: (ويقولون طاعة) ثم وقف؛ لما تحقق بذلك الذم؛ فإن قولهم: "طاعة" أمر محمود، إنما الذم في تناقضهم ونفاقهم بأنهم يقولون طاعة ما داموا عندك، فإذا خرجوا من عندك نقضوا ما قالوه.
ث- يحسن الوقف بعد انتهاء كلامِ الكفارِ المحكيِّ عنهم؛ لأجل إظهارِ الرد عليهم بالابتداء به، ورفعِ الصوتِ به أداءً، وذلك مثلُ قوله - تعالى-: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة:64]؛ ولا يخفى أن جملة (غلت أيديهم..) هي ردٌّ من الله - تعالى- عليهم؛ ولذا يحسن الوقف قبلها والابتداء بها، ومثلها: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [المائدة:17]، وأمثلته كثيرة.
ج- من المهم الوقفُ قبلَ جملةٍ وَرَدَتْ بَعْدَ ذكر الْقَوْلِ وَوَصْلُهَا بِهِ يُوهِمُ أنها مقولُ القول، ويتضح ذلك بالمثال، قال تعالى: {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يونس: 65]، ففي المصحف وُضِعَ علامةُ الوقفِ اللازمِ على (قولهم)؛ لأن الوصل ربما أوهم أن قولهم هو: إن العزة لله جميعا. بينما قولُهم لم يُذْكَرْ في الآيةِ لِيَشْمَلَ كلَّ تكذيبٍ وافتراءٍ وقولٍ قبيح( تقديرا لمجهود صاحب البوست او المشاركه فانه لا يمكن مشاهدة الروابط إلا بعد التعليق على البوست In appreciation of the efforts of the owner of the post or participation, the links cannot be viewed until after responding to the post or participation
)؛ أما قوله تعالى: {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [يونس: 65] فهو من كلام الله - تعالى- تسليةً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأتباعه، ونحوُ هذه الآيةِ قولُه: {فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [يس: 76].
ومثلها أيضا: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} [فصلت: 43]، فيحسن الوقف عند: (من قبلك)، ثم الابتداء بما بعدها.
ح- مما ينبغي الوقف عنده: جملةُ مقولِ القولِ التي قد يُفهَمُ أن ما بعدها تبع لها، مثال ذلك قوله تعالى: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران: 72-73]، فالآية الأولى والتي رقمها (72) من الواضح أنها لا وقف فيها، أما الآية الثانية (73) فإن أولَ جملةٍ فيها: (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم) هي تبع لكلام الطائفة التي من أهل الكتاب في الآية الأولى؛ فإنهم يقولون لبعضهم: لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم. فرد الله عليهم بقوله (قل إن الهدى هدى الله) وهذا بلا شك هو كلام الله -تعالى-. أما الجملة الثالثة في هذه الآية (أن يؤتى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم أو يحاجُّوكم عند ربكم) فهي عَوْدٌ لحكايةِ كلام الطائفة التي من أهل الكتاب، فالحاصلُ أن القارئَ لو قرأ: (قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم) لأوهم أن هذا كله من كلام الله الذي رد به على أهل الكتاب، وفي الحقيقة أن قوله (أن يؤتى أحد..) هذا من كلام أهل الكتاب( تقديرا لمجهود صاحب البوست او المشاركه فانه لا يمكن مشاهدة الروابط إلا بعد التعليق على البوست In appreciation of the efforts of the owner of the post or participation, the links cannot be viewed until after responding to the post or participation
)؛ ولذا حسن الوقف بعد (هدى الله).
وهذه الجمل الثلاث في الآية (73) إما أن توصل جميعا فتقرأ هكذا: {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ}، فيكون كلام أهل الكتاب متصلا وَبَيْنَهُ الجملة الاعتراضية التي رد الله بها عليهم وهي (قل إن الهدى هدى الله). أو أن يوقف عليها جميعا، فتكون الجملة الأولى من كلام أهل الكتاب، والثانية رد الله -تعالى- عليهم، والثالثة تتمة كلام أهل الكتاب.
خ- الوقف قبل المنصوب على الاختصاص؛ لأن الله -سبحانه- خصَّه بالمدح، فمن المناسب إفراده عما سبقه، وبخاصة أنه لا يعرب معطوفا على ما سبقه، بل يعرب منصوبا بفعل محذوف، ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة:177] ومعنى الآية - والله أعلم-: ولكنَّ البرَّ فعلُ مَن آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب والأنبياء، ومن آتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين...، ومن أقام الصلاة، ومن آتى الزكاة، والذين يوفون بعهدهم إذا عاهدوا، وأخص بالمدح الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس( تقديرا لمجهود صاحب البوست او المشاركه فانه لا يمكن مشاهدة الروابط إلا بعد التعليق على البوست In appreciation of the efforts of the owner of the post or participation, the links cannot be viewed until after responding to the post or participation
).
ولذا وُضِعَ قبل: (والصابرين) علامةُ وقف في المصحف؛ لأنها جملة مستأنفة.
ومنه قوله تعالى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء:162]؛ فإن (والمقيمين الصلاة) منصوب على المدح؛ ولذا فيحسن الوقف قبلها والابتداء بها( تقديرا لمجهود صاحب البوست او المشاركه فانه لا يمكن مشاهدة الروابط إلا بعد التعليق على البوست In appreciation of the efforts of the owner of the post or participation, the links cannot be viewed until after responding to the post or participation
).
خامسا: قف - أيها الإمام المبارك - في الوقف والابتداء حيث بلغ علمك، وحذارِ حذارِ من تَلَمُّسِ الإغراب، وتكلُّفِ ما لا يساعد عليه معنى ولا لغة؛ فإن الوقفَ في القرآن تَبَعٌ للتفسير، ومنْ وَقَفَ فَقَدْ أشارَ إلى المعنى بوقفه.
وإنَّ الملاحَظَ على بعض الأئمة في صلاة التراويح والقيام ركوبُ متنِ الشطط، والوقوعُ في أقبح الغلط في هذا المجال؛ فيأتون من الوقوف بما لو فقهوا مؤداه لَـمُلِئُوا منه حَسْرَةً وَأَسَفًا، وقُتِلُوا نَدَمًا وَخَجَلا، وربما ظنَّ أحدُهم أنه أتى بما لم يأتِ به الأوائل، وتفَطَّنَ لما عَزُبَ عنِ الجهابذة الأعلام.
وأذكرُ عَلَى عُجَالةٍ بعضَ الأمثلة على ذلك، فمنها قراءة بعضهم: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [القصص:9]، فقرأها (وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا) ثم استأنف (تقتلوه)، أو أعاد (لا تقتلوه..) ومراده بذلك أن امرأة فرعون قالت له: إن هذا الغلام - الذي هو موسى عليه السلام- قرة عين لي، أما أنت فلا؛ أي فَلَيْسَ قُرَّةَ عين لك؛ لأنه سيكون على يديه زوال ملكك، وهذا ليس بصحيح؛ لأمور:
1. أن امرأةَ فرعونَ آسيةَ بنتَ مزاحمٍ - عليها السلام - لا عِلْمَ عندها بأنه سيكون على يدي هذا الغلام زوالُ ملكِ فرعون، وقد روى كثير من المفسرين عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن امرأة فرعون لما قالت له: قرة عين لي ولك؛ قال لها: قرة عين لك أما أنا فلا؛ فهذا يدل على أنها قالت له: قرة عين لي ولك( تقديرا لمجهود صاحب البوست او المشاركه فانه لا يمكن مشاهدة الروابط إلا بعد التعليق على البوست In appreciation of the efforts of the owner of the post or participation, the links cannot be viewed until after responding to the post or participation
).
2. أن هذا يناقض قولها بعد ذلك: {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}، فلو قالت: قرة عين لي، أما لك فلا؛ لقالت: عسى أن ينفعني أو أتخذه ولدا.
3. أن هذا الذي وقف على (ولك لا) إنِ ابْتَدَأَ بلفظِ: (تقتلوه) لكان هذا لغوا في الكلام؛ فكيف تخبر أنهم يقتلونه ثم تقول: عسى أن ينفعنا؟! وأيضا لكان لحنا نحويا؛ فمقتضى الاستئناف أن يكون الفعل مرفوعا، فيلزم أن تلحَقَه نونُ الرفع؛ فيكون: (تقتلونه).
4. أما إن قرأ (ولك لا) ثم أعاد (لا تقتلوه..) لكانت (لا) تنفي ما قبلها، وهي أيضًا نهيٌ للفعل بعدها؛ وهذا لا يجوز لغة، فضلا عن كون هذا الصنيع يوهم من لا يدري بوجود هذا الحرف (لا) مرتين في هذا الموضع، وأن ذلك من جنس تكرار (فيه) في قوله - تعالى-: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108].
- ونوع آخر من التكلف، وهو إعادة بعض جملة الاستفهام في الجواب، كقوله تعالى: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16]، فالاستفهام في هذه الآية هو قوله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ}، ثم أجاب الحقُّ - سبحانه- نفسه: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}، فبعض الأئمة ربما قرأها هكذا (لمن الملك اليوم) ثم أعاد (الملك اليوم لله الواحد القهار)، وهذا الفعل غلط من وجوه:
1. أن فيه استدراكا على كلام الله - تعالى-؛ فكأن هذا القارئَ أراد أن يجمِّلَ الجواب ويكمِّله بذلك، وما علم أن الأبلغ هو تقدير المبتدأ كما سيتضح.
2. أن كون الجواب كما ذكر الله -تعالى-: (لله الواحد القهار) أبلغ؛ وذلك من جهتين: من جهة أن تقدير الكلام المعلوم أولى من ذكره عند العرب، ومن جهة أن المقصود في جملة الجواب هو الخبر: (لله الواحد القهار)، وذكر المبتدأ قبله تطويل.
3. أن هذا الفعل تُبْطِلُهُ اللغة - وهذا هو الأهم -؛ وَيُخِلُّ بالنظم القرآني؛ فإن قوله (الملك اليوم) إما أن يتبع ما قبله أو يتبع ما بعده، أمّا أن يتبع ما قبله وما بعده في آن واحد فإن هذا لا يصح. وَيُبَيِّنُ ذلك أكثر: أن الكلمة في الجملة من اللغة العربيةِ لا تُعرَبُ إعرابَيْنِ اثنين في آنٍ وحد، فلا تكون حالا وصفة في وقت واحد، ولا تكون مبتدأ وخبرا في آن واحد، ولكن يجوز أن تحتمل أحد إعرابين، فيقال: هذه الكلمة إما مبتدأ أو خبر، ومثاله: قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة: 177]، فبعض القراء نصب (البر) على أنه خبرُ ليسَ مقدمٌ، وبعضهم رَفَعَهُ على أنه اسمُ لَيْسَ، فهنا يقال: (البر) إما أن تكون اسم ليس، وخبرها (أن تولوا)، أو تكون خبر ليس مقدم، واسمها (أَن تُوَلُّوا)، ولا يمكن أن يكون (البر) اسم ليس وخبرها في الوقت نفسه؛ فإن هذا تناقض.
فقوله (لمن الملك اليوم)؛ (الملك) مبتدأ مؤخر لهذه الجملة، فإذا أعاد القارئ وقال: (الملك اليوم لله الواحد القهار) فيلزم أن تكون (الملك) هنا مبتدأ لهذه الجملة، وهذا لا يصح.
ومثله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ} [الطارق:2-3]، فلو أعاد فقال: (الطارق النجم الثاقب) لكان: (الطارق) يعرب خبرا لمبتدأ (ما) الاستفهامية، ويعرب مبتدأ لجملة: (الطارق النجم الثاقب)، وهذا لا يصح كما سبق، إضافة إلى أن هذه الطريقة توهم المستمع غير العارف أن هذه الآية الثالثة من سورة الطارق هي هكذا: "الطارق النجم الثاقب"، فتكون كلمة (الطارق) وردت في هذه السورة ثلاث مرات حسب ما توهمه المستمع، بينما هي لم ترد إلا مرتين.
وبعد؛ فإني لم أقْصِدْ من هذه الكتابةِ استِقْصَاءَ القواعدِ التي تُعينُ على ضبطِ مواضعِ الوقف والابتداء، وتدوينَ جميع التنبيهات في هذا الموضوع. كلا؛ بل تركت كثيرا من أمثال ما ذكرت، إذِ القصدُ من ذلك لفت الانتباه إلى العناية بهذا المجال الشريف؛ إعانة على تدبر كلام الله لقارئه ومستمعه.
كما أني حرصت كل الحرص ألَّا أتطرق للمسائل الخلافية، وإنما ذكرْتُ قواعدَ جامعةً مُتَّفَقًا عليها في الجملة.
وهو - بلا شكٍّ - عملٌ بشريٌّ يتطرق إليه الخطأ والنسيان والجهل، ورحم الله من أهدى إلينا عيوبَنا.. اللهم اغفر لكاتبه ما فيه من خطأ وزلل، ووفقه وقارئه إلى اتباعِ أحسنِ القول وابتدارِ خيرِ العمل.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...
عبدالرحمن بن إبراهيم العليان
محاضر في كلية الشريعة بجامعة القصيم
القصيم- بريدة
([1]) من تصانيف الأئمة في هذا العلم: كتاب شيبة بن نصاح مولى أم سلمة - رضي الله عنها - (ت 130هـ)، وكتاب (مقطوع القرآن وموصوله)، لعبدالله بن عامر اليحصبي (ت 118ه)، وألف فيه الإمام أبو عمرو بن العلاء (ت 154هـ)، والإمام حمزة الزيات أحد القراء السبعة أيضا (ت 156ه)، والإمام نافع إمام أهل المدينة وأحد القراء السبعة (ت 169هـ). ينظر: الفهرست لابن النديم (ص55-56)، غاية النهاية في طبقات القراء لابن الجزري (1/329-330)، معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار للذهبي (ص 77).
([2]) انظر: النشر في القراءات العشر (1/225).
([3]) القطع والاستئناف (ص 97)، نقلا عن: فضل علم الوقف والابتداء وحكم الوقف على رؤوس الآيات/ عبدالله الميموني (ص 17).
([4]) جمال القراء (ص 553).
([5]) انظر: منار الهدى في بيان الوقف والابتدا للأشموني (1/269).
([6]) انظر: التفسير الوسيط للواحدي (3/80)، الجدول في إعراب القرآن/ محمود صافي (14/376).
([7]) ينظر: تفسير الطبري (17/421-422).
([8]) انظر: تفسير الطبري (13/581).
([9]) انظر: تفسير القرطبي (9/319).
([10]) انظر: تفسير البغوي (2/479)، تفسير الزمخشري(2/449)، تفسير القرطبي (9/142).
([11]) أخرجه مسلم في صحيحه ح رقم (38)، وأحمد في مسنده ح رقم (15416)، والنسائي في السنن الكبرى ح رقم (11425).
([12]) انظر: تفسير الطبري (15/142)، تفسير ابن عطية (3/129).
([13]) انظر: تفسير الطبري (6/515).
([14]) انظر: منار الهدى في الوقف والابتدا للأشموني (1/96)، الجدول في إعراب القرآن/محمود صافي (2/353).
([15]) انظر: تفسير الزمخشري (1/590)، تفسير القرطبي (6/13)، تفسير البيضاوي (2/109).
([16]) انظر: تفسير الطبري (19/525)، تفسير الماوردي (4/237).