مقدمة المترجم: كريم محمد - موقع ميدان
إيلان بابيه هو أحد المؤرخين الجدد الإسرائيليين المعادين للدّولة الصهيونيّة، وهو ناشطٌ ومفكّر معروف بتوجهاته تلك. في هذه المقالة الطويلة، المأخوذة من كتابه "عشر أساطير حول إسرائيل"، يدحض بابيه فكرة أنّ إسرائيل هي الدّولة الديمقراطيّة الوحيدة في الشرق الأوسط، بل يقول إنّها ليست ديمقراطيّة على الإطلاق، ويتتبّع ذلك من قبل ١٩٦٧، وتقسيمها للأرض وتهجير الفلسطينيين، والسجن بلا محاكمة إلخ... إنها مادّة فاضحة لدولة استعماريّة استيطانيّة تأكل الفلسطينيين وأرضهم كلّ يوم.
______________________________________________
تُعدّ إسرائيل، من منظور كثيرٍ من الإسرائيليين وداعميهم دوليّاً -حتّى أولئك الذين قد ينتقدون بعضاً من سياسات الدّولة الإسرائيليّة-، دولةً ديمقراطيّة حميدة في نهاية المطاف، دولةً تسعى إلى السّلام مع جيرانها، وتكفلُ المساواة لكافّة مواطنيها.
ويفترضُ هؤلاء الذين ينقدون إسرائيل أنّه إذا حصلَ أيّ شيءٍ خاطئٍ في هذه الديمقراطيّة، فإنّه راجع بالأساس إلى حرب ١٩٦٧. فمن وجهة النّظر هذه، أدّت الحرب إلى إفساد مجتمع نزيه ودؤوب عن طريق توفير المال السّهل في الأراضي المحتلّة، ممّا سمحَ للجماعات المسيانيّة (messianic) بالتدخّل في السياسة الإسرائيليّة، وقبل كلّ شيء تحويل إسرائيل أيضاً إلى كيانٍ محتلّ وقمعيّ في الأراضي الجديدة.
والحال أنّ الخرافة القائلة إنّ إسرائيل الديمقراطيّة وقعت في مأزق سنة ١٩٦٧ لكنّها لا تزال ديمقراطيّة هي خرافة يتمّ بثّها وإذاعتها حتّى من قبل بعض الباحثين الفلسطينيين البارزين والمؤيّدين للفلسطينيين -لكن ليس لها أيّ أساس تاريخيّ
لم تكن إسرائيل ديمقراطيّة قبل عام 1967:
لم يكن بالإمكان تخيّل إسرائيل ديمقراطيّة قبل ١٩٦٧. فقد أخضعتِ الدولة خُمس مواطنيها للحكم العسكريّ القائم على لوائح الطوارئ الانتدابيّة البريطانيّة الوحشيّة التي حرمت الفلسطينيين من أيّ حقوق إنسانيّة أو مدنيّة أساسيّة.
وكان الحكّام العسكريّون المحليّون هم الحكام المطلقون لحياة هؤلاء المواطنين: حيث يمكنهم وضع قوانين خاصّة لهم، وتدمير منازلهم وأرزاقهم، وزجّهم في السجن متى رغبوا بذلك. في أواخر الخمسينيّات فقط، ظهرت معارضة إسرائيليّة قويّة لهذه التعسّفات، الأمر الذي أدّى في نهاية المطاف إلى تخفيف الضّغط عن المواطنين الفلسطينيين.
وبالنسبة إلى الفلسطينيين الذين عاشوا في إسرائيل ما قبل الحرب وإلى هؤلاء الذين عاشوا في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة ما بعد ١٩٦٧، فإنّ هذا النظامَ سمح حتى للجنديّ الأقلّ رتبةً في جيش الدفاع الإسرائيليّ بأن يحكم حيواتهم ويدمّرها. وكانوا عاجزين إذا ما قرّر جنديٌّ كهذا، أو وحدتُه أو قائدُه، أن يهدموا بيوتهم أو يحتجزوهم لساعاتٍ عند نقطة تفتيش أو سجنهم دون محاكمة. ولم يكُ ثمّة شيء بإمكانهم أن يفعلوه.
وفي كلّ لحظة من ١٩٤٨ حتى الآن، كان هناك مجموعة من الفلسطينيين الذين يخضعون لتجربة كهذه.
وكانت أولى المجموعات التي عانت تحت نير كهذا هي مجموعة الأقليّة الفلسطينيّة داخل إسرائيل. وبدأ ذلك في العامين الأوّليْن من إقامة الدّولة عندما زُجّ بهم في الأحياء اليهوديّة، مثل جماعة حيفا الفلسطينيّة التي تعيشُ على جبل الكرمل، أو عندما طردوا من المدن التي سكنوها لعقود، مثل مدينة صَفَد. وفي حالة مدينة إسدود، نُفيَ السّكان جميعاً إلى قطاع غزّة.
وفي الرّيف، كان الحالّ أسوأ حالاً. فشتّى حركات الكيبتوز رغبت في القرى الفلسطينيّة على الأراضي الخصبة. وشملَ ذلك الكيبوتز الاشتراكيّ، هاشومير هازير، الذي كان ملتزماً زعماً بالتضامن الثنائيّ بين الدّولتين (binational).
وبعد فترةٍ طويلة من خمود حرب ١٩٤٨، فإنّ القرويين في مدينة غابسيّة وإقرت وبيريم وزيتون وغيرها خُدعوا بخديعة ترك منازلهم لأسبوعين، حيث ادّعى الجيش أنه بحاجةٍ إلى أراضيهم للتدريب ولم يكتشفوا إلّا عند عودتهم أنّ قُراهم تمّ طمسها أو تمّ تسليمها لشخصٍ آخر.
وتتجلّى دولة الإرهاب العسكريّ هذه في مذبحة كفر قاسم في أكتوبر ١٩٥٦، عندما قتل الجيش الإسرائيليّ، عشيّة عمليّة سيناء، تسعةً وأربعين مواطناً فلسطينيّاً. وادّعت السُّلطات بأنّهم تأخّروا في العودة إلى منازلهم من العمل في الحقول عندما كان مفروضاً حظر التجول على القرية. بيد أنّ ذلك لم يكن السّبب الرئيسيّ.
حيث تُظهر أدلّة لاحقة بأنّ إسرائيل قد أخذت على محمل الجدّ أمر طرد الفلسطينيين عن الأرض كافّة المسماة وادي عرا والمثلث الذي تقعُ فيه القريّة. وقد تمّ ضمّ تلك المنطقتين -أولاهما وادي يربطُ العفولة في الشرق والحضيرة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، والأخرى التي وسّعت المناطق الشماليّة النائية في القدس- إلى إسرائيل بموجب شروط ١٩٤٩ لاتفاقيّة الهدنة مع الأردن.
وكما رأينا، رحّبت إسرائيل بالأرض الإضافيّة دائماً، ولكن لم ترحّب بازدياد في أعداد الشعب الفلسطينيّ. وبالتالي في كلّ منعطف، عندما توسّعت الدّولة الإسرائيليّة، فقد بحثت عن سُبلٍ لحصْر الشّعب الفلسطينيّ في الأراضي المُلْحَقة مؤخراً.
وكانت عمليّة حفارفر هي الاسم الرمزيّ لمجموعة من المقترحات لطرد الفلسطينيين عندما اندلعت حربٌ جديدة مع العالم العربيّ. ويعتقدُ كثيرٌ من الباحثين اليوم أنّ مجزرة عام ١٩٥٦ كانت ممارسة تهدف لرؤية إذا كان الناس في المنطقة يمكن أن يُرْهبوا بالرحيل.
وتمّ تقديم مرتكبي المجزرة للمحاكمة بفضل جدّ ومثابرة عضوين من الكنيست هما: تواق توبي من الحزب الشيوعيّ ولطيف دوري من الحزب اليساريّ الصهيونيّ مابام. ومع ذلك، فإنّ القادةَ المسؤولين عن المنطقة والوحدة نفسه التي ارتكبت الجريمة أُطلق سراحهم، وتلقوا مجرّد غرامات ضئيلة. وكان ذلك دليلاً آخر على أنّ الجيش قد سُمح له بفعل ما يُريد دون محاسبةٍ في الأراضي المُحتلّة.
إنّ القسوة المنتظمة لا تُفصح عن وجهها فحسب في حدثٍ رئيسيّ مثل المجزرة. حيث يمكن أيضاً إيجاد أبشع الجرائم في الوجود اليوميّ والعاديّ.
لا يزال الفلسطينيّون في إسرائيل لا يتحدثّون كثيراً عن فترة ما قبل ١٩٦٧، ولا تكشف وثائق ذلك الزمن الصورة بأكملها. المثير للدهشة هو أننا نجد في الشعر إشارةً إلى ما كان عليه العيش في ظلّ الحكم العسكريّ.
كان ناتان الترمان واحداً من الشعراء الأكثر أهميّة وشهرةً في جيله. وكان له عمودٌ أسبوعيّ يُدعى "العمود السابع"، حيث كان يعلّق فيه على الأحداث التي قرأها أو سمع بها. وأحياناً ما كان يُسقط بعض التفاصيل بشأن التاريخ أو حتى موقع الحدث، لكنّه كان يعطي القارئ معلومات كافية لفهم ما يُشير إليه. وكثيراً ما عبّرَ عن هجماته بصورة شعريّة:
ظهرت الأخبار بصورة وجيزة لمدّة يومين، ثمّ اختفت.
ولا يبدو أنّ أحداً ما مكترث، ولا يبدو أنّ أحداً يعرف.
ففي قرية أم الفحم النائية، لعبَ الأطفال -يجب عليّ أن أقول عنهم مواطني الدّولة- في الطين،
ويبدو أن أحدَهم مشتبه في أحد جنودنا البواسل الذين صرخَ فيه: قِفْ!
النّظام هو النظام
النّظام هو النظام، لكن الطفل الأحمق لم يقف، لقد هرب.
لذلك أطلق عليه جندنا الباسل النار، ولا عجب فقد قتلوا الطفل.
وما من أحدٍ يتحدّث حول ذلك.
وكتبَ في إحدى المناسبات قصيدةً حول مواطنيْن فلسطينييْن أصيبوا بالرصاص في وادي عرا. وفي حالةٍ أخرى، روى قصّة امرأة فلسطينيّة مريضة جداً طُردت مع طفليها اللذين تتراوح أعمارهما بين ستّة وثلاثة أعوام، دون إبداء أسباب، وأُرسلوا عبر نهر الأردن. وعندما حاولت العودة، قُبِضَ عليها وعلى ابنيها وسُجنوا في سجن الناصرة.
أمِلَ الترمان أنّ شعره حول الأمّ قد يحرّك القلوب والعقول، أو على الأقلّ يثير بعضاً من استجابةٍ رسميّة. ومع ذلك، كتبَ بعد ذلك بأسبوع:
افترضَ هذا الكاتبُ خطأً
بأنّه إمّا سيتمّ نفي القصّة أو شرحها. لكن لا شيء، ولا كلمة واحدة.
وهناك أدلّة أخرى على أنّ إسرائيل لم تكن ديمقراطيّة قبل ١٩٦٧، وانتهجت الدّولة سياسة إطلاق النار حيال اللاجئين المحاولين أن يستردوا أراضيهم ومحاصيلهم وزراعتهم، وشنّت حرباً كولونياليّة لإسقاط نظام عبد الناصر في مصر. وكما كانت قواتها الأمنيّة تقتل بكلّ سعادة، ممّا أسفرَ عن قتل خمسين مواطناً فلسطينيّاً أثناء الفترة من ١٩٤٨-١٩٦٧.
إخضاع الأقليّات في إسرائيل ليس ديمقراطياً
إنّ اختبار أيّة ديمقراطيّة يكمن في مستوى التسامح المُستعد لتوسعته نحو الأقليّات الذين يعيشون فيها. بهذا الصدد، تفشلُ إسرائيل في أن تكون ديمقراطيّة حقيقيّة.
على سبيل المثال، بعد المكاسب الإقليميّة تمّ إقرار عدّة قوانين تكفل موقفاً متفوقاً للأكثريّة: القوانين التي تحكم المواطنة، والقوانين التي تتعلّق بالملكيّة، والأهمّ من ذلك كلّه قانون العودة.
فقانون العودة يمنح المواطنة التلقائيّة لكلّ يهوديّ في العالم أينما وُلدَ/ت. وهذا القانون خصّيصاً هو غير ديمقراطيّ بصورة صارخة؛ لمصاحبة ذلك رفضٌ شاملٌ للحقّ الفلسطينيّ في العودة -المعترَف به دوليّاً بقرار الجمعيّة العامة للأمم المتحدة ١٩٤ لعام ١٩٤٨. ويأبى هذا الرفض بأن يسمح للمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل بالتوحد مع أسرهم المباشرة أو مع أولئك الذين طُردوا في عام ١٩٤٨.
إن حرمان الناس من حق العودة إلى وطنهم، وفي الوقت نفسه تقديم هذا الحق للآخرين الذين ليس لهم صلة بالأرض، هو نموذج للممارسة غير الديمقراطية.
يُضاف إلى ذلك طبقات أخرى من الحرمان من حقوق الشعب الفلسطينيّ. فكل تمييز تقريباً ضد المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، تبرّره حقيقةُ أنهم لا يخدمون في الجيش. ومن المفيد فهم العلاقة بين الحقوق الديمقراطية والواجبات العسكرية إذا ما أعدنا النظر في السنوات التأسيسيّة التي كان يحاول فيها واضعو السياسات الإسرائيليّون التفكير في كيفية معاملة خُمس السكان.
إذ كان افتراضهم أنّ المواطنين الفلسطينيين لا يريدون الانضمام إلى الجيش على أيّة حال، وأنّ الرفض المفترض بدوره برّر السياسة التمييزيّة ضدّهم. وقد وُضع هذا موضع الاختبار في عام ١٩٥٤ عندما قررت وزارة الدفاع الإسرائيليّة استدعاء المواطنين الفلسطينيين المؤهلين للتجنيد للعمل في الجيش. وأكدت المخابرات للحكومة أنّه سيكون هناك رفض واسع النطاق لهذا الاستدعاء.
وما أثار كبير اندهاشهم أنْ ذهبَ كلّ من استدعوا إلى مكتب التجنيد، بمباركة الحزب الشيوعيّ، وهو أكبر وأهم قوة سياسيّة في المجتمع آنذاك. وأوضحت المخابرات لاحقاً أن السبب الرئيسيّ هو ملل المراهقين من الحياة في الريف ورغبتهم في بعض العمل والمغامرة، وعلى الرغم من هذه الحادثة، واصلت وزارة الدفاع نشر سرديّة تصوّر المجتمع الفلسطينيّ بأنه غير راغب في الخدمة في الجيش.
لا محالة أنّ الفلسطينيين، في الوقت المناسب، قد تحوّلوا بالفعل ضد الجيش الإسرائيلي، الذين أصبحوا هم محلّ قمعه الدائم، ولكن استغلال الحكومة هذا كذريعة للتمييز يطرح شكوكاً كبيرة على ادعاء الدّولة لكونها ديمقراطيّة.
فإذا كنت مواطناً فلسطينيّاً ولم تخدم في الجيش، فإن حقوقك في المساعدة الحكوميّة كعامل أو كطالب أو والداً أو أحد الزوجين مقيّدة بشدة. وهذا يؤثر على الإسكان خاصّةً، وكذلك على العمالة؛ حيث يُعتبر ٧٠٪ من جميع الصناعات الإسرائيليّة حساسة أمنيّاً، وبالتالي فهي مغلقة أمام هؤلاء المواطنين كمكان لإيجاد عمل.
لم يقتصر الافتراض الأساسي لوزارة الدفاع على أنّ الفلسطينيين لا يرغبون في الخدمة، ولكنهم قد يكونون عدواً ضمن الذين لا يمكن الوثوق بهم. تكمن المشكلة في هذه الحجة في أنّ الأقليّة الفلسطينيّة، في كافّة الحروب الكبرى بين إسرائيل والعالم العربيّ، لم تتصرف كما هو متوقع. لم يشكلوا طابوراً خامساً أو ثاروا ضدّ النظام.
ومع ذلك، لم يساعدهم ذلك: فحتى يومنا هذا يُنظر إليهم على أنّهم مشكلة "ديموغرافيّة" يجب حلها. والعزاء الوحيد هو أنّ معظم السياسيين الإسرائيليين لا يعتقدون اليوم أن الطريق إلى حل "المشكلة" هو نقل أو طرد الفلسطينيين "على الأقل ليس في زمن السّلم".
السياسات الإسرائيليّة بشأن الأرض ليست ديمقراطيّة
إنّ الزعم بكونها ديمقراطيّة أمر مشكوك فيه أيضاً عندما يدرس المرء سياسة الميزانية المتعلقة بمسألة الأراضي. فمنذ عام ١٩٤٨، حصلت المجالس المحلية والبلديّات الفلسطينيّة على تمويل أقلّ بكثير من نظرائها اليهود. ويؤدي نقص الأراضي، مقروناً بندرة فرص العمل، إلى خلق واقع "سوسيو-اقتصاديّ" (الاقتصاد الاجتماعي) شاذّ.
مثلاً، لا تزال أكثر الجماعات الفلسطينيّة ثراء، ألا وهي قرية ميليا في الجليل الأعلى، أسوأ حالاً من أفقر مدينة تنمويّة يهوديّة في النقب. وفي عام ٢٠١١، ذكرت صحيفة جيروساليم بوست أنّ "متوسط الدخل اليهوديّ كان أعلى بنسبة ٤٠٪ إلى ٦٠٪ من متوسط الدخل العربيّ بين عامي ١٩٩٧ و٢٠٠٩".
ويملك الصندوق القوميّ اليهوديّ اليوم أكثر من ٩٠٪ من الأراضي. ولا يسمح لأصحاب الأراضي بالدخول في معاملات مع مواطنين غير يهود، كما أنّ الأراضي العامّة تُمنح الأولوية لاستخدام المشاريع القوميّة، مما يعني أن المستوطنات اليهوديّة الجديدة يجري بناؤها في حين لا تكاد توجد أيّ مستوطنات فلسطينية جديدة. وبالتالي، فإن أكبر مدينة فلسطينيّة، ألا وهي الناصرة، رغم تضاعف عدد سكانها منذ عام ١٩٤٨، إلّا أنّها لم توسّع كيلومتر مربع واحد، في حين أنّ المدينة التنمويّة التي بنيت فوقها، الناصرة العليا، تضاعفت ثلاث مرات في الحجم، على الأراضي المُصادَرة من ملاك الأراضي الفلسطينيين.
ويمكن العثور على أمثلة أخرى على هذه السياسات في القرى الفلسطينيّة في جميع أنحاء الجليل، مما تكشف عن القصة نفسها: كيف تم تقليص حجمها بنسبة ٤٠٪، وحتى إلى ٦٠٪ في بعض الأحيان، منذ عام ١٩٤٨، وكيف بنيت المستوطنات اليهوديّة الجديدة على الأراضي المصادَرة.
وفي مكان آخر، دُشّن هذا الأمر كمحاولات تامّة لـ"التهويد". فبعد عام ١٩٦٧، أصبحت الحكومة الإسرائيليّة قلقة بشأن عدم وجود يهود يعيشون في شمال وجنوب الدّولة وعليه خطّطت لزيادة عدد السكان في تلك المناطق. هذا التغيير الديمغرافي يستلزم مصادرة الأراضي الفلسطينيّة لبناء المستوطنات اليهوديّة.
إنّ الأسوأ من ذلك هو استبعاد المواطنين الفلسطينيين من هذه المستوطنات. فهذا الانتهاك الصارخ لحق المواطن في العيش أينما يرغب لا يزال قائماً اليوم، وجميع الجهود التي بذلتها المنظمات غير الحكومية لحقوق الإنسان في إسرائيل للطعن في هذا الفصل العنصريّ قد باءت حتى الآن بالفشل التامّ.
ولم تقدر المحكمة العليا في إسرائيل سوى على التشكيك في شرعية هذه السياسات في عدد قليل من الحالات الفرديّة، ولكن ليس من حيث المبدأ. تخيّل إن كان هناك مواطنون يهود أو كاثوليك بهذا في المملكة المتحدة أو الولايات المتحدة يُمنعون بالقانون من العيش في بعض القرى أو الأحياء أو ربما البلدات كلها؟ كيف يمكن توفيق بين هذا الموقف مع فكرة الديمقراطيّة؟
الاحتلال ليس ديمقراطيّاً
وعليه، لا يمكن للدّولة الإسرائيليّة، نظراً إلى موقفها من مجموعتين فلسطينيتين -أي اللاجئين والجماعة في إسرائيل-، أن يُفترَض أن تكون ديمقراطيّة بأي قدر من الخيال.
بيد أنّ التحدّي الأكثر وضوحاً لهذا الافتراض هو الموقف الإسرائيليّ الذي لا يرحم تجاه مجموعة فلسطينية ثالثة: أي أولئك الذين عاشوا تحت حكمها المباشر وغير المباشر منذ عام ١٩٦٧، في القدس الشرقّية، وفي الضّفة الغربيّة، وقطاع غزّة. فمن البنية التحتيّة القانونيّة التي وُضعت في بداية الحرب، من خلال السلطة المطلقة وغير المُساءَلة للجيش داخل الضفة الغربية وخارج قطاع غزة، وحيث إهانة الملايين من الفلسطينيين كروتينٍ يوميّ، و"الديمقراطية الوحيدة" في الشرق الأوسط تتصرف كدكتاتوريّة في أسوأ صورها.
والردّ الإسرائيليّ الرئيسيّ، الدبلوماسيّ والأكاديمي، على الاتهام الأخير هو أنّ كل هذه الإجراءات مؤقتة؛ فهي ستتغير إذا تصرّف الفلسطينيون أينما كانوا "بشكل أفضل". ولكن إذا كان لمرءٍ أن يبحثَ في مسألة الأراضي المحتلّة، ناهيك عن مسألة العيش فيها، فسيفهم المرءُ كم هي سخيفة هذه الحجج.
والحال أنّ صنّاع السياسة الإسرائيليين، كما رأينا، مصمّمون على إبقاء الاحتلال حيّاً طالما أن الدولة اليهودية لا تزال غير مصابة بأذى. إنّه جزء مما يعتبره النظامُ السياسي الإسرائيليّ الوضعَ الراهن، وهو دائماً أفضل من أيّ تغيير. ستسيطر إسرائيل على معظم فلسطين، وبما أنها ستشمل دائماً على السكان الفلسطينيين الأساسيين، فذلك لا يمكن أن يتمّ إلا بالوسائل غير الديمقراطيةّ.
بالإضافة إلى ذلك، وعلى الرغم من جميع الأدلّة على عكس ذلك، تدّعي الدولة الإسرائيليّة أن الاحتلال مستنيرٌ. والأسطورة هنا هي أنّ إسرائيل جاءت بنوايا حسنة للقيام باحتلال خيِّر، ولكنها اضطرت إلى اتخاذ موقف أكثر صرامةً بسبب العنف الفلسطينيّ.
وتعاملت الحكومة في ١٩٦٧ مع الضفة الغربّية وقطاع غزة كجزء طبيعّي من "أرض إسرائيل"، واستمرّ هذا الموقف مذَّاكَ. وعندما تنظرون إلى النقاش بين الأحزاب اليمينيّة واليساريّة في إسرائيل حول هذه القضية، فإنّ خلافاتهم تتعلّق بكيفية تحقيق هذا الهدف، وليس حول صحّته.
ومع ذلك، في أوساط الطيف الأوسع من الجمهور، كان هناك نقاش حقيقيّ بين ما يمكن للمرء أن يسميه "المخلصين" و"الأوصياء". آمنَ "المخلصون" أنّ إسرائيل استعادت قلب بلادها القديمة، والتي لن تتمكن من البقاء في المستقبل بدونها. وحاججَ على النقيض من ذلك "الأوصياء" قائلين إنّ الأراضي يجب أن يتم تبادلها من أجل السلام مع الأردن، في حالة الضفة الغربية، ومع مصر في حالة قطاع غزة. ومع ذلك، لم يكن لهذا النقاش العموميّ تأثير يُذكر على الطريقة التي كان بها صانعو السياسات الأساسيّون يقرّرون كيفية حكم الأراضي المحتلّة.
أمّا أسوأ جزء من هذا "الاحتلال المستنير" المزعوم، فتمثّل في أساليب الحكومة لإدارة الأراضي. ففي البداية، قُسِّمَتِ المنطقة إلى أراضٍ "عربية" و"يهودية" محتملة. وأصبحت تلك المناطق المكتظة بالسّكان الفلسطينيين مستقلّة، يديرها متعاونون محليّون تحت حكم عسكريّ. ولم تحل محل هذا النظام إدارةٌ مدنيّة إلّا في عام ١٩٨١.
أمّا المناطق الأخرى، أي الأراضي "اليهودية"، فقد استُعمِرت مع المستوطنات اليهودية والقواعد العسكريّة. وهدفت هذه السياسة إلى ترك السكان في كلٍّ من الضفة الغربية وقطاع غزة في مقطعاتٍ مفصولة بلا مساحات خضراء ولا أيّ إمكانية للتوسّع الحضريّ.
ولم تتحسّن الأمور إلّا عندما بدأ غوش إمونيم في الاستيطان في الضفة الغربية وقطاع غزة، بعد فترة وجيزة جداً من الاحتلال، مدّعياً أنّه يتبع خريطة توراتية للاستعمار بدلًا من خريطة الحكومة. وبينما توغلوا في المناطق الفلسطينيّة المكتظة بالسكّان، تمّ تقليص المساحة التي تُركَت للسكّان المحليين إلى أبعد من ذلك.
إنّ ما يحتاجه كل مشروع كولونياليّ (استعماري) في المقام الأول هو الأرض، وفي الأراضي المحتلّة لم يتحقق ذلك إلا من خلال مصادرة الأراضي على نطاق واسع، وترحيل الناس من المكان الذي عاشوا فيه لأجيال، وحبسهم في مقاطعات مع مساكن عَسِرة.
وعندما تحلّقون فوق الضفة الغربيّة، يمكنكم أن تروا بوضوح نتائج رسم الخرائط لهذه السياسة: أحزمة المستوطنات التي تقسم الأرض ونحت المجتمعات الفلسطينية إلى مجتمعات صغيرة ومعزولة ومفكّكة. حيث تفصل أحزمة التهويد القرى عن القرى، والقرى من المدن، وفي بعض الأحيان تُقسّم قريةً واحدة.
هذا ما يسميه الباحثون بجغرافيا الكارثة، ليس أقلّها أن هذه السياسات تبين أنها تشكّل كارثة بيئية أيضاً: تجفيف مصادر المياه، وتدمير بعض أجمل أجزاء المشهد الطبيعيّ الفلسطينيّ.
وعلاوة على ذلك، أصبحت المستوطنات بؤراً استطاع فيها التطرّف اليهودي أن ينمو بصورة لا يمكن السيطرة عليه -وكان الفلسطينيّون هم الضحايا الرئيسيين له. وهكذا، فقد دمرت مستوطنة في إفرات موقع التراث العالميّ في وادي الولجه بالقرب من بيت لحم، وقرية الجفنة قرب رام الله، التي اشتُهرت بقنوات مياهها العذبة، فقدت هويتها كمنطقة سياحية. هذان ليسا سوى مثالين صغيرين من مئات الأمثلة المماثلة.
تدمير منازل الفلسطينيين ليس ديمقراطيّاً
ليس هدم المنازل بظاهرة جديدة في فلسطين. وكما هو الحال مع العديد من الأساليب الهمجيّة للعقاب الجماعي التي تستخدمها إسرائيل منذ عام ١٩٤٨، فقد مُورسَت أوّل الأمر من قبل الحكومة الانتدابيّة البريطانيّة خلال الثورة العربية الكبرى في ١٩٣٦-١٩٣٩.
فقد كانت هذه أوّل انتفاضة فلسطينيّة ضد السياسات المؤيّدة للصهيونيّة للانتداب البريطانيّ، واستغرق الجيش البريطاني ثلاث سنوات لقمعها. وفي هذه العملية، هدموا حوالي ألفيْ منزل خلال العقوبات الجماعيّة المختلفة التي تم التعهد بها للسكّان المحليين.
وهدمت إسرائيل المنازل منذ اليوم الأول تقريباً من احتلالها العسكريّ للضفة الغربية وقطاع غزة. وقام الجيش بتفجير مئات المنازل كلّ عام رداً على أعمال مختلفة قام بها فردٌ من أفراد الأسرة.
ومن الانتهاكات البسيطة للحكم العسكريّ إلى المشاركة في أعمال العنف ضدّ الاحتلال، سارع الإسرائيليون بإرسال جرافاتهم للقضاء ليس فقط على المباني ولكن أيضاً على محور الحياة والوجود. وفي منطقة القدس الكبرى -باعتبارها داخل إسرائيل-، كان الهدم أيضاً عقاباً على التمديد غير المرخّص به لبيت قائم أو لعدم دفع الفواتير.
وثمّة شكلٌ آخر من أشكال العقاب الجماعيّ عادَ مؤخراً إلى الذخائر الإسرائيلية، ألا وهو غلق المنازل. تخيلوا أنّ جميع الأبواب والنوافذ في منزلك يتم إغلاقها بالإسمنت والهاون والحجارة، لذلك لا يمكنكم العودة إليه أو لاسترداد أيّ شيء كنتم قد فشلتم في إخراجه في الوقت المناسب. لقد بحثت بجدٍّ في كتب التاريخ لأجدَ مثالاً آخر، ولكن لم أجد أيّ دليل على أن هذا التدبير الشاذّ تجري ممارَسته في أماكن أخرى.
سحق المقاومة الفلسطينيّة ليس ديمقراطيّاً
وأخيراً، في ظلّ "الاحتلال المستنير"، سُمحَ للمستوطنين بتشكيل عصابات حراسة لمضايقة الناس وتدمير ممتلكاتهم. وقد غيّرت هذه العصابات نهجها على مرّ السنين.
وخلال الثمانينات، استخدموا إرهاباً فعليّاً؛ من إصابة القادة الفلسطينيين -فقد أحدهم ساقيه في هجوم من هذا القبيل-، إلى التفكير في تفجير المساجد في الحرم الشريف في القدس.
وشاركوا في هذا القرن في المضايقة اليوميّة للفلسطينيين: اقتلاع أشجارهم، وتدمير غلاتهم، وإطلاق النار عشوائياً على منازلهم ومركباتهم. ومنذ عام ٢٠٠٠، وقعت ما لا يقل عن مائة هجمة من هذا القبيل شهرياً في بعض المناطق مثل الخليل، حيث قام خمسمائة من المستوطنين، بتعاون صامت من الجيش الإسرائيلي، بمضايقة المحليين الذين يعيشون في مكان قريب بصورةٍ أكثر وحشيّةً.
إذن منذ بداية الاحتلال، تمّ منحُ الفلسطينيين خيارين: قبول واقع الحبس الدائم في سجن ضخم لفترة طويلة جداً، أو المخاطرة بأقوى جيش في الشرق الأوسط. وعندما قاوم الفلسطينيون -كما فعلوا في الأعوام ١٩٨٧ و٢٠٠٠ و٢٠٠٦ و٢٠١٢ و٢٠١٤ و٢٠١٦ - فقد استُهدِفوا كجنود ووحدات للجيش التقليديّ. وبالتالي، قُصفت القرى والبلدات كما لو كانت قواعد عسكريّة، وأُطلقت النيرانُ على السكان المدنيين العزّل كما لو كانوا جيشاً في ساحة المعركة.
ونحن اليوم نعرف الكثير عن الحياة في ظل الاحتلال، قبل أوسلو وبعدها، لنأخذ على محمل الجدّ الادعاء بأنّ اللامقاومة ستكفل قدراً أقلّ من الاضطهاد. الاعتقالات دون محاكمة، كما تمّ تجريبها من قبل الكثيرين على مر السنين؛ وهدم آلاف المنازل؛ وقتل وجرح الأبرياء؛ وتصريف آبار المياه -كلّ ذلك بيّنة على واحدة من أقسى النظم المعاصرة في زمننا.
وتقوم منظمة العفو الدوليّة سنوياً بتوثيق طبيعة الاحتلال بطريقة شاملة جداً. وفيما يلي تقرير عام ٢٠١٥:
ارتكبت القوّات الإسرائيليّة في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، عمليات قتل غير مشروعة للمدنيين الفلسطينيين، بمن فيهم الأطفال، واحتجزت آلاف الفلسطينيين الذين احتجوا ضدّ أو عارضوا الاحتلال الإسرائيليّ العسكريّ المستمر، محتجزةً مئات في الاعتقال الإداري. ولا يزال التعذيب وغيره من ضروب سوء المعاملة منتشراً ويُرتكب دون رادع.
وواصلت السلطاتُ تعزيز المستوطنات غير القانونيّة في الضفة الغربيّة، وقيّدت بشدة حرية الفلسطينيين في التنقل، مما زاد من تشديد القيود في ظل تصاعد أعمال العنف التي وقعت في أكتوبر، وشملت الهجمات التي شنّها الفلسطينيون على المدنيين الإسرائيليين وعمليات الإعدام خارج نطاق القضاء على ما يبدو من جانب القوات الإسرائيليّة. وهاجم المستوطنون الإسرائيليون في الضفة الغربية الفلسطينيين وممتلكاتهم مع الإفلات الفعليّ من العقاب. وظلّ قطاع غزة تحت الحصار العسكري ّالإسرائيليّ الذي فرض عقاباً جماعياً على سكّانه. وواصلت السلطات هدم منازل الفلسطينيين في الضفة الغربية وداخل إسرائيل، ولا سيما في القرى البدوية في منطقة النقب، طاردةً سكّانَها قسراً.
دعونا نأخذ ذلك على مراحل. أولًا، الاغتيالات -ما يسميه تقرير منظمة العفو الدوليّة بـ"القتل غير المشروع": حيث قُتِلَ نحو خمسة عشر ألف فلسطينيّ "بشكل غير قانونيّ" من قبل إسرائيل منذ عام ١٩٦٧. وكان من بينهم ألفا طفلٍ.
سجن الفلسطينيين دون محاكمة ليس ديمقراطيّاً
ثمّة سمة أخرى من سمات "الاحتلال المستنير" ألا وهي السجن دون محاكمة. وقد خضع كلّ فلسطيني في الضفة الغربيّة وقطاع غزة لتجربة من هذا القبيل.
وإنّه من المثير للاهتمام أن نقارن هذه الممارسة الإسرائيليّة بسياسات أميركية مماثلة في الماضي والحاضر، حيث يدعي منتقدو حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات (BDS) أن الممارسات الأميركية أسوأ بكثير. في الواقع، إنّ أسوأ مثال أميركان كان هو السجن بدون محاكمة لمائة ألف مواطن ياباني خلال الحرب العالمية الثانية، حيث احتُجز ثلاثون ألفاً في وقت لاحق تحت لافتة ما يُسمّى بـ"الحرب على الإرهاب".
ولا يأتي أيٌّ من هذين الرقمين حتى على مقربة من عدد الفلسطينيين الذين عانوا من هذه العملية: بمن فيهم الصغار جداً، والمسنون، فضلاً عن المسجونين لفترة طويلة.
إنّ التوقيف بدون محاكمة هو تجربة مؤلمة. عدم معرفة التهم الموجهة إليك، عدم وجود اتصال مع محام وبالكاد وجود اتصال مع عائلتك، ما ذلك سوى بعض من المخاوف التي سوف تؤثر عليك كسجين. الأكثر وحشيّةً من ذلك أنّ كثيراً من هذه الاعتقالات تستخدم كوسيلة للضغط على الناس في التعاون. كما إنّ نشر الشائعات أو تهجير الأشخاص بسبب توجههم الجنسي الحقيقيّ أو المزعوم يُستخدم غالبا كوسيلة للاستفادة من التواطؤ.
أما فيما يتعلّق بالتعذيب، فقد نشر موقع (Middle East Monitor) الموثوق به مقالًا مروعاً يصف مائتين من الأساليب التي يستخدمها الإسرائيليون لتعذيب الفلسطينيين. وتستند القائمة إلى تقرير للأمم المتحدة وتقرير من منظمة حقوق الإنسان الإسرائيليّة المسمّاة "بتسليم". ومن بين الطرق الأخرى، فإنّها تشمل الضرب، وتصفيد السجناء إلى الأبواب أو الكراسي لساعات، وسكب الماء البارد والساخن عليهم، ونزع أصابعهم، ولي خصيتيهم.
إسرائيل ليست ديمقراطيّة
وبالتالي، ما يجب علينا أن نتحداه ههنا ليس فقط ادعاء إسرائيل بأنّها تحافظ على احتلال متنور ومستنير وإنّما أيضاً تظاهرها بكونها ديمقراطيّة. فهذا السلوك نحو الملايين من الناس في ظلّ حكمها يُكذّب هذه المغالطة السياسيّة.
ومع ذلك، على الرغم من أن قطاعات كبيرة من المجتمعات المدنيّة في جميع أنحاء العالم تنكر ادعاء إسرائيل بكونها ديمقراطية، إلّا أنّ النخب السياسية، لأسباب متنوعة، لا تزال تتعامل معها كعضو في النادي الحصريّ للدول الديمقراطية. وتعكس شعبية حركة المقاطعة، من نواح كثيرة، إحباط تلك المجتمعات بسياسات حكوماتها تجاه إسرائيل.
والحال أن هذه العوائق، بالنسبة إلى معظم الإسرائيليين، غير ذات صلة في أحسن الأحوال، وخبيثة في أسوئها. إن الدولة الإسرائيليّة تتفق مع الرأي القائل بأنها محتلّ خيّر. وتشير حجة "الاحتلال المستنير" إلى أنّه وفقاً للمواطن اليهوديّ العادي في إسرائيل، فإن الفلسطينيين أفضل حالًا من الاحتلال، وليس لديهم أي سبب في العالم لمقاومته، ناهيك عن أن يقاوموه بالقوة. إذا كنتَ مؤيدا غير ناقد لإسرائيل في الخارج، فإنك تقبل هذه الافتراضات أيضاً.
ومع ذلك، هناك قطاعات من المجتمع الإسرائيليّ تعترف بصحة بعض الادعاءات المقدمة هنا. في التسعينيّات، وبدرجات متفاوتة من القناعة، أعربَ عددٌ كبير من الأكاديميين والصحفيين والفنانين اليهود عن شكوكهم بشأن تعريف إسرائيل كديمقراطيّة.
ويحتاج الأمر إلى بعض الشجاعة ليتحدى المرءُ الأساطير التأسيسية للمجتمع والدولة الخاصة به. وهذا هو السبب في تراجع عدد قليل منهم في وقت لاحق عن هذا الموقف الشجاع، وعادوا التماشي مع الخط العام.
ومع ذلك، لفترة من الزمن خلال العقد الأخير من القرن الماضي، فإنّهم أنتجوا الأعمال التي تحدت افتراض إسرائيل بأنّها ديمقراطية. لقد صوروا إسرائيل على أنها تنتمي إلى مجتمع مختلف: أي إلى مجتمع الدول غير الديمقراطيّة. ووصف أحدهم، وهو الجغرافي أورين يفتاشيل من جامعة بن غوريون، إسرائيل بأنها إثنوقراطيّة، وهو نظام يحكم دولة عرقية مختلطة مع تفضيل قانوني ورسميّ لمجموعة إثنيّة واحدة على كافّة الجماعات الأخرى. وذهب آخرون إلى أبعد من ذلك، ووصفوا إسرائيل بأنّها دولة الفصل العنصري أو الدولة الكولونياليّة الاستيطانيّة.
بإيجازٍ، أيّاً كان التوصيف الذي قدّمه الباحثون النقديّون، فإنّ "الديمقراطيّة" لم تكن من بينها.
=============================
رابط المقال الأصلي:
تقديرا لمجهود صاحب البوست او المشاركه فانه لا يمكن مشاهدة الروابط إلا بعد التعليق على البوست In appreciation of the efforts of the owner of the post or participation, the links cannot be viewed until after responding to the post or participation