عقوق التراث بين ببغاوية التقليد وغوغائية التجديد
عبدالله رجب موسى
إنَّ ناسًا من أهلِ الانتسابِ لِحَوزَةِ العِلْمِ يَتوهمون العكوفَ على تُراثِ الأقْدَمِينَ التفاتًا للوراءِ وابتعاثًا لآثار الفناء، وإطاحةً بخصائص العصريّة وعزوفًا عن أسباب النهضة. يقولون: إنّ الطرح العلمي في الحاضر لا بدّ أن يتواءم مع خصائص الحاضر ومُجريَاتِه، ويُعرضُ الرأيُ بلهجةٍ تُحِسُّ منها الاعتراض والامتعاض من ماضٍ كأنه لم يكن يومًا ناهضًا أو كان فضْلَةً وعَرَضًا....إنّ العَولَمَةَ في تحديث المناهج واستحداث القوانين لا يُمكن أن تَتطاوَعَ مع مصادر العلوم وجذور المعارف التي كلّما تَقادم الزمانُ عليها بَزَغَتْ أنوارها وتَعاظمتْ فضائلها ولاحتْ أسرارها كأنّ زَبَدَها يتناظَرُ مع نَافِعِ مُنتجاتنا فكيفَ بنافعِها! وما حالُ الغُثاءِ من مُخَلَّفاتِنا إزاءَ الرديء في تُراثنا؟! لا يستويانِ مَثَلا.
إنّ هذه اللهجة يُمكن أن تكون مقبولةً إذا كان المُنطَلَقُ والتحليق سيبدأ من تلك الواحةِ التراثيّة، وأنّى لك أن تنطلقَ وأنت-بَعْدُ-لم تَتَعَرّفْ على نقطةِ البَدء ولم تُحِطْ علمًا بأبعاد المُنْطَلَقِ ولم تَستَقْصِ قواعِد الطَيَران. أيكون تَحليقُك في الجَوّ من الخلاء الفضاءِ أم من الأرضِ الذّلولِ المِهاد؟!، ولكن تَعجَبُ أن يُوصَفَ الشيء ممن لا خِبْرَةَ له به ولا دراية غير أنّه لمّا امتنع عن ميراث أجداده بفهاهتِه وعَطَبِه تَمَنَّعَ عليه الموروثُ وعَزّ فلم يَلِنْ له، فلم يَكُن من الوريث إلا العقوق والحِران والاتهام والتّألِّي.
إنّ القديم يُمكنُ أنْ يَبلى لِنستعيض عنه أو نفكّرَ في استحداثِ بديلٍ جديد إذا لم يكن ممتد المفعول وذا مُقوّماتٍ تحملُ قابليّةَ التّجديد في خصائصها، نعَم.. ذلك إذا كان المُنتَجُ الوليد سيُضيفُ أو يُفيد أو يُغْني عن القديم أو يَسْتَقِلُّ عنه من غير أن يعتمد عليه.. وشيء آخر: أنّ الدّاعي إلى ذا يَظهرُ بوجه المُحامِي والمُعالِج وهو صفر اليدين غيرَ مُلِمٍّ بأطراف القضية وغير مُسْتَتْبِعٍ لأبعاد التشخيص، وثالثة الأثافي: أنّه لا يمتلك الأدوات ولا يَستَأهِلُ أن يُجاري حاضرَه فضلا عن ماضيه، سواء كان ذلك بأسباب الماضي أو الحاضر أو المستقبل.
لا ريبَ أنّ البطالة الفكريّة والصعلكة المعرفيّة التي يحياها أولو الانتساب لمعاقلِ العلوم ليستْ بسبب التجديد من عدمه أو الانحياز للموروث ولا حتى طرحه بما لا يتكيّف مع المعاصرة؛ لأنّ حقيقة الأمر أنه لا يوجد - أصلا - انحيازٌ حتى ينبثق عنه صَدعٌ أو جهر؛ لأنّه لم تتوفّر - بعدُ - الإرادةُ لإرادةِ ذلك، وإنّما الأمرُ كلامُ ولَعِب، وتهويشٌ وتهريج، وادّعاءٌ ومباهاة، وذاتيّةٌ وتَجَمُّل.