لا تسأل شيخك عما لا يحسنه!
أبو مالك العوضي
التصدُّر قبل الأوان فتنةٌ للمتبوع، وآفة للتابع، والركون الكامل إلى شيخ واحد مِن أكبر آفات المنتسبين لطلب العلم، وخاصةً في هذا العصر.
لأن الطالب إذا وجد شيخه متْقنًا للفن الذي هو فنه، قد يجرُّه ذلك إلى اعتقاد أن شيخه بكل شيء عليم! فيسأله عن كل شيء في جميع الفنون.
وأسوأ من ذلك أن الشيخ - لِكَثرة ما يلقاه من مديح وتبجيل في فنه الذي هو فنه - يحسب هو أيضًا أنه قد صار متبحِّرًا في كل الفنون التي لا يعرف عنها شيئًا.
ثم يحمله تطاولُ العهد، وكثرةُ الأتْباع على أن يُفتي في كل شيء، ويجيب في كل سؤال.
وما كثرة الاختلافات التي نراها قد زادتْ وفاضت إلا من هذا الباب؛ إذ لو سكت مَن لا يعلم لسقط الخلاف.
• يا شيخ لو سمحت، أي المَتْنين أفضل: ألفية السيوطي أو ألفية العراقي؟
• يا ابني، المهم الفهم، ولا عبرة بالحفظ، لا تحفظ شيئًا؛ حتى لا تتربى على التقليد!
والآفة هنا مركَّبة مِن هجوم الشيخ على ما لا يُحسن، ومن سؤال الطالب وهو يعلم حقَّ العلم أن شيخه لا يعرف ذلك!
إنما يُسأل عن الحفظ الحافظ، وإنما يُسأل عن الفهم الفاهم، وإنما يُسأل عن الفقه الفقيه، وإنما يُسأل عن الحديث المحدِّث، وإنما يُسأل عن التفسير المفسر، وهكذا.
أما أن تأتي إلى الفقيه فتسأله عن اختلاف المفسرين، فحينئذٍ سيأتي لك بأعاجيب الأقوال التي ما أنزل الله بها من سلطان.
وأما أن تأتي إلى المحدِّث فتسأله عن العلة والقياس، فهو لا بد سيخبط فيما لا يحسن.
• يا شيخ لو سمحت، هل نحفظ صحيحي البخاري ومسلم؟
• اترك الحفظ نهائيًّا، المهم أن تقرأ، المهم أن تفهم طبعًا!
طيب يا أخي الفاضل، هل شيخك هذا يحفظ الصحيحين؟
الجواب: لا.
إذًا لماذا تسأله عما لا يحسنه أصلاً؟!
إنما يُسأل عن الحفظ مَن يحفظ، ائتِ من يحفظ ثم اسألْه عن أهمية الحفظ، أما إذا أتيتَ من لا يحفظ أصلاً، فمن المستبعد جدًّا أن يفتيك بأهمية الحفظ الذي ابتعد هو نفسه عنه طوال حياته!
• يا شيخ لو سمحت، هل حلق اللحية جائز؟
• اللحية سنة يا بني، احلقها لا شيء في ذلك!
طيب يا أخي، هل شيخك هذا ذو لحية؟
الجواب: لا.
إذًا لماذا تسأله أصلاً؟ وهل تَتوقع منه أن يفتيك بتحريم حلق اللحية التي يحلقها كلَّ يوم بنفسه؟!
إنما يسأل عن العمل من يعمل.
• يا شيخ لو سمحت، الأرض ثابتة أو تدور؟
• الأرض ثابتة يا ابني، دعك من الدوران وهذه الأقوال الكفرية!
طيب يا أخي، هل شيخك هذا عالم في الفلك؟
الجواب: لا.
إذًا لماذا تسأله عن علم لا يعرفه ولا يفقهه، وعن شيء لا يدركه عقله؟! وهو لم يرجع فيه إلى أهل الاختصاص ليتعلم منهم.
إنما يسأل عن الفهم من يفهم.
إن هذه الآفة التي عمَّت وطمَّت - مع الأسف الشديد - لها أضرار بالغة في حياتنا العِلمية.
ومع هذا، فهي شيء متوقع؛ بل لا يمكن أن نتوقع شيئًا سواها، مع هذا التخبط والعشوائية في الطلب والتعليم، حتى لا يكاد ينجو منه أحد.
مع أنك واجِدٌ كثيرًا مِن أهل العلم المتْقِنين، الذين قضوا أعمارهم في الجِد والتحصيل، وتجدهم كذلك من أهل التقوى والورع والديانة، وتجدهم كذلك من أهل القدوة والتربية، وتجدهم كذلك من أهل التواضع وهضم النفس.
ولكن:
لا يعني هذا أن الواحد من هؤلاء معصوم فيما يقوله.
لا يعني هذا أن الواحد منهم قد صار على علمٍ بكل شيء في جميع العلوم.
لا يعني هذا أن الواحد من هؤلاء يمكنه أن يحل جميع مشاكل الأمة.
فينبغي لنا أن نحترم التخصص، وينبغي لنا ألاَّ نتكلم فيما لا نحسن، وينبغي لنا أن نقف طويلاً قبل الكلام فيما نظن أننا نحسن.
لأن الإشكال ليس في أن تتكلم فيما لا تحسن، ولكن الإشكال أنك تظن أنك تتكلم فيما تحسن والحالُ غير ذلك.
وهذه آفة عظيمة جدًّا؛ لأن الإنسان إذا كان يجهل حال نفسه، فهو لما سواها أجهل.
فكيف نثق في كلام مَن يجهل حال نفسه، إذا تكلم عن غيره؟!
إذا كنت تجهل حال نفسك، فكيف تتكلم في دقائق المسائل من العلوم؟!
وهذه كلمة عظيمة لأبي الحسن الماوردي - رحمه الله - تجمع هذا المعنى، وتلخصه بأفضل أسلوب وأحسن بيان؛ قال:
"وقلما تجد بالعلم معجبًا، وبما أدرك مفتخرًا، إلا من كان فيه مقلاًّ ومقصرًا؛ لأنه قد يجهل قدره، ويحسب أنه قد نال بالدخول فيه أكثره، فأما من كان فيه متوجهًا، ومنه مستكثرًا، فهو يعلم مِن بُعد غايته، والعَجْز عن إدراك نهايته، ما يصدُّه عن العُجْب به".
وهنا مسألة قد تختلط على كثير من أهل العلم، فضلاً عن طلبته، وهي الفرق بين التقليد وبين التسليم للعالم في علمه.
فقد ورد - مثلاً - عن الإمام أحمد أنه قال: الغريب يسأل عنه أهل الغريب، وقال إسحاق بن راهويه: إذا اجتمع الثوري والأوزاعي ومالك على أمر، فهو سُنة، وقال الأوزاعي: وجدت أصحابي وقفوا فوقفت.
ومثل هذا تجده كثيرًا في كلام أهل العلم المتقدمين والمتأخرين في كثير من الفنون؛ فيظن المرء - بادي الرأي - أن هذا تقليد محض، لا يصلح في مقام الاجتهاد، وهذا خطأ؛ لأن هؤلاء العلماء مجتهدون، ولكنهم يسلِّمون لكل عالمٍ في فنه؛ لأنه أعلم به، وكونُه أعلمَ به مَظِنَّةُ إصابته الحقَّ فيه، ولما لم يكن هناك ما يعارض ذلك مما هو أقوى منه، كفى ذلك في الترجيح؛ لأن اليقين المطلق لا يطلب في كل شيء.