أنا تعبت في حياتي الدينية!
الشيخ خالد بن عبدالمنعم الرفاعي
السؤال
السلام عليكم.
مبدئيًّا؛ أحبُّ أعرِّفكم أنِّي شابٌّ تربيت في أُسرة متمسِّكة إلى حدٍّ كبير بالأخلاق والأدَب، مِن صغرى وأنا أحبُّ الأخلاق والاحترام والأدَب، ولكن - دائمًا - ما يأتيني شكٌّ: هل أفعل ذلك لأنِّي مخلصٌ لهذا الأمْر، أم لأنِّي ما أحسن أن أكون غيرَ هذا، أو لا أستطيع أن أعملَ مِثلَ الشباب الذي يُكلِّم البنات، أو خلافه مِن المخالفات العامَّة، والتي أصبحتْ مُتقبَّلة في مجتمعنا؟ وبالأخص أنَّ هذه النوعيةَ هي التي تحظَى بالقَبولِ الاجتماعي والشعبيَّة.
وفي المرحلة الإعدادية كنتُ دائمًا بالنسبة للناس - لأني مؤدبٌ - شخصًا ساذَجًا، وكنتُ - دائمًا - أرَى زملائي اجتماعيِّين، وأنا متضايق وأتطلَّع أن أكونَ مثلهم، ومحبوبًا، والناس كلهم يلتفُّون حولي في سنِّ الثانوي، حاولتُ أن أكونَ أكثرَ اجتماعيَّةً، ولكن ما زال لديَّ - دائمًا - سوءُ ظنٍّ في نَفْسي: أن أي شيء أعمله لا أكونُ مخلصًا فيه، ولكن أعمله لغرضٍ آخَرَ غير الذي أقوله، البعضُ قالوا لي: إنَّ هذه وسوسةُ شيطان، ولكن - كثيرًا - ما أستعيذُ وأدعو الله أن يهديني إلى الطريقِ الصحيح، لاحظتُ في حياتي أنَّ الأشخاص الملتزمين دِينيًّا - دائمًا - ما يحبُّون الاقترابَ مني، وارتبطتُ بهم كثيرًا، ولكن كانت – دائمًا - تُواجِهني مشكلةُ الخوف من إطلاق اللحية، والمظهَر الدِّيني بوجهٍ عام، كانت في البداية خوفًا من أمْن الدولة، ولكن اتَّضح لي أنَّ السبب الحقيقي هو أنِّي غيرُ قادر على أن أكونَ في صورةِ الشيخ أمامَ الناس، وأخاف جدًّا مِن الانتقادات اللاذعة من كلِّ مَن حولي؛ إذا أخطأت يقولون لي: كيف تكون شيخًا وتعمل كذا؟!
فأصبحتُ في حيرةٍ أخرى في كثيرٍ من أعمالي؛ هل هي لله أمْ للناس؟ وأصبحتُ أَحْذَر في كلِّ كلمة أقولها، وبعدَ أن أصبحتُ شخصًا اجتماعيًّا، صرت مرةً أخرى انطوائيًّا، ولا أحبُّ أن أتكلَّمَ كثيرًا، وأرَى أيَّ شخص يُذنب ذنبًا أنه شخصٌ عاصٍ، وأنظر له نظرةً دونيَّة، وفي الحقيقة هو إحساسي أنِّي أصبحتُ ضائقَ الصدر بالدِّين، وأني أتطلع لأنْ أستمتعَ مِثله، ولأني لا أجِدُ أي متعة في الدِّين، ولكن مجرد قُيود وفقط، أصبحتُ لا أعرف لماذا أنا ملتزم، فلا أحسُّ بإيمانيَّات نهائيًّا، وأي كلام أو خُطب أسمعها، لا يُؤثِّر فيَّ.
وممَّا أحبطني أكثرَ: أنَّني - كثيرًا - أدْعو أن يُريني ربُّنا الحق، ويُعينني ويقوِّيني، ومع ذلك أجِدني أضعُف أكثر، كثيرٌ يقولون لي: ابتلاء، لكن أنا لا أصبِر، وتعبتُ مِن حياتي، أصبحتُ موسوسًا في كلِّ تعاملاتي، لا أعرِف أن أتعامَل بطبيعتي نهائيًّا، ولدرجةِ أني بدأتُ أشكُّ في نصوصِ الدِّين نفسها؛ كيف هذا وكيف هذا، وطبعًا يستحيل - مع كلِّ شيءٍ أشكُّ فيها - أن أذْهَب لأسأل شيخًا؛ لأنِّي لن أجِد شيخًا لأسئلتي هذه كلها!
صعوبة الموضوع: أنِّي الآن مُقدِم على زواج، ولا أعرِف كيف أختار الزوجةَ؛ مِن كثرة التشتُّت الذي أنا فيه؟ هل أختارُ بنتًا جميلة، ولا أختار بنتًا دَيِّنة؟ وأنا أخاف - دائمًا - من أن يُضيِّق أحدٌ عليَّ في صورةِ الدِّين، أنا - حقيقةً – تعبتُ، وأصبحتُ لا أعرف أيَّ شيء، ولا أعرف أنَّ أحدًا يمكن أن يفهمني أو يعرفَ سببَ ما أنا فيه، وماذا يكون حلُّه؟
الجواب
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فالذي يَظْهَر مِن رِسالتك: أنَّك ابتُليتَ بالوسوسة، التي هي من حديثِ النَّفْس المعفوِّ عنه؛ كما قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الله تجاوز لي عن أُمَّتي ما وسوستْ به صُدورُها، ما لم تعملْ أو تَكلَّم))؛ متفق عليه، وفي روايةٍ في "الصحيحين" - أيضًا -: ((إنَّ الله تجاوز عن أمَّتي ما حدَّثتْ به أنفسُها، ما لم تعملْ أو تتكلَّم))، وتألُّم قلبِك مِن تلك الوسوسة، وكَراهةُ ذلك وبُغضُه، صَريحُ الإيمان؛ والحمدُ لله الذي جَعَل غاية كَيْد الشيطان الوسوسةَ.
هذا، وقدْ بيَّن شيخُ الإسلام ابن تيمية أسبابَ تسلُّط الشيطان بالوسواس وطُرق العلاج، فقال في - "مجموع الفتاوى" (7/ 282- 283) -:
"ولا بدَّ لعامَّةِ الخَلْقِ مِن هذه الوساوس؛ فمن الناس مَن يُجيبها فيصير كافرًا أو منافقًا، ومنهم مَن قد غمَر قلبَه الشهواتُ والذنوب، فلا يُحِسُّ بها إلا إذا طلَب الدِّين؛ فإمَّا أن يصيرَ مؤمنًا، وإمَّا أن يصيرَ منافقًا، ولهذا؛ يَعْرِض للناس مِن الوساوس في الصلاة ما لا يَعرِض لهم إذا لم يُصلُّوا؛ لأنَّ الشيطانَ يكثُر تعرُّضه للعبد إذا أراد الإنابةَ إلى ربِّه، والتقرُّبَ إليه، والاتصالَ به؛ فلهذا يَعرِض للمصلِّين ما لا يَعرِض لغيرهم، ويَعرِض لخاصَّة أهلِ العلم والدِّين أكثرُ مما يَعرِض للعامَّة؛ ولهذا يوجد عندَ طلاَّب العلم والعبادة مِن الوساوس والشبهات ما ليس عندَ غيرهم؛ لأنَّه لم يسلكْ شَرعَ الله ومنهاجه، بل هو مقبلٌ على هواه في غفلةٍ عن ذِكْر ربه، وهذا مطلوبُ الشيطان، بخِلاف المتوجهين إلى ربِّهم بالعِلم والعبادة، فإنَّه عدوُّهم يطلُب صدَّهم عن الله؛ قال – تعالى -: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ﴾ [فاطر: 6]؛ ولهذا أُمِر قارئُ القرآن أن يستعيذَ بالله من الشيطان الرجيم، فإنَّ قراءة القرآن على الوجه المأمور به تُورِث القلبَ الإيمانَ العظيم، وتَزيده يقينًا وطُمأنينة وشفاءً؛ وقال - تعالى -: ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا ﴾ [الإسراء: 82]، وقال - تعالى -: ﴿ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 138]، وقال - تعالى -: ﴿ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 2]، وقال - تعالى -: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ [التوبة: 124]، وهذا ممَّا يَجِده كلُّ مؤمِن مِن نفسه، فالشيطانُ يُريد بوساوسه أن يشغلَ القلبَ عن الانتفاعِ بالقرآن؛ فأمَر الله القارئَ إذا قرأ القرآن أن يستعيذَ منه؛ قال - تعالى -: {﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ﴾ [النحل: 98 - 100]، فإنَّ المستعيذَ بالله مستجيرٌ به، لاجِئ إليه، مستغيث به مِنَ الشيطان، فالعائذُ بغيرِه مستجيرٌ به، فإذا عاذَ العبدُ بربِّه، كان مستجيرًا به متوكلاً عليه، فيعيذه الله مِن الشيطان، ويُجيره منه؛ ولذلك قال الله - تعالى -: {﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [فصلت: 34 - 36]، وفي "الصحيحين" عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: ((إنِّي لَأَعلمُ كلمةً لو قالها لذهَب عنه ما يَجِد: أعوذ بالله مِن الشيطان الرجيم))، فأمَرَ - سبحانه - بالاستعاذة عند طلبِ العبدِ الخيرَ؛ لئلاَّ يعوقَه الشيطانُ عنه، وعندما يَعرِض عليه من الشر ليدفَعَه عنه عندَ إرادة العبدِ للحسنات، وعندَما يأمره الشيطان بالسيِّئات؛ ولهذا قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا يَزال الشيطانُ يأتي أحدَكم، فيقول: مَن خَلَق كذا؟ مَن خَلَق كذا؟ حتى يقول: مَن خلَق الله؟ فمَن وجَد ذلك، فليستعذ بالله ولينتَهِ))، فأمَر بالاستعاذةِ عندما يَطلُب الشيطان أن يوقعَه في شرٍّ، أو يمنعَه من خير، كما يفعل العدوُّ مع عدوِّه، وكلَّما كان الإنسانُ أعظمَ رغبةً في العِلم والعبادة، وأقدرَ على ذلك مِن غيره - بحيث تكون قوتُه على ذلك أقوى، ورغبتُه وإرادتُه في ذلك أتمَّ - كان ما يَحصُل له - إنْ سلَّمه الله مِن الشيطان - أعظمَ، وكان ما يفتَتِن به - إن تمكَّن منه الشيطان – أعظمَ".
وقال - أيضًا - في "مجموع الفتاوى" (22 / 608):
"والوسواسُ يَعرِض لكلِّ مَن تَوَجَّهَ إلى الله - تعالى - بذِكْر، أو غيره، لا بُدَّ له مِن ذلك، فيَنبغي للعبد أن يَثْبُتَ ويصبِر، ويلازم ما هو فيه مِن الذِّكْر والصلاة، ولا يَضْجَر؛ فإنَّه بملازمةِ ذلك ينصرِف عنه كيدُ الشيطان؛ ﴿ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 76]، وكلَّما أراد العبد توجُّهًا إلى الله - تعالى - بقلبِه، جاءَ مِن الوسواس أمورٌ أخرى، فإنَّ الشيطانَ بمنزلة قاطع الطريق، كلَّما أراد العبدُ أن يسيرَ إلى الله - تعالى - أراد قطعَ الطريق عليه؛ ولهذا قيل لبعضِ السَّلَف: إنَّ اليهودَ والنصارى يقولون: لا نُوسوَس، فقال: صَدَقوا، وما يصنع الشيطانُ بالبيتِ الخراب؟! وتفاصيل ما يَعرِض للسالكين طويلٌ موضعُه".
لتعلم - رعاكَ اللهُ - أنَّ مِن أهمِّ وسائل النجاة:
طلب العِلم الشرعي؛ قال القاضي عياضٌ في "ترتيب المدارك وتقريب المسالك": "قال ابن وهب: "كان أوَّل أمْري في العبادة قَبلَ طلبِ العلم، فولع بي الشيطانُ في ذِكْر عِيسى - عليه السلام - وكيف خلَقَه الله، فشكوتُ ذلك إلى شيخ، فقال لي: اطلبِ العلم؛ فكان سببَ طَلبِي".
ومنها: اتِّخاذُ رفقةٍ صالحة من طلاَّب العلم النافع؛ فإنَّ الشيطانَ مع الواحد، وهو مِن الاثنين أبعد، وإنَّما يأكُل الذئب من الغنَم القاصية، وقدْ قال الله - تعالى -: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾ [الكهف: 28].
ومنها: إدْمانُ الذِّكْر وجعْل أوراد يوميَّة مِن كتاب الله؛ قال الله – تعالى -: ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا ﴾ [الإسراء: 82]، مع المحافظةِ على أذكارِ الصباح والمساء، وأَدْبارِ الصلوات المكتوبات، وأَذْكارِ النَّوْم.
ولمعرفةِ بقية سُبل النجاة راجِع على موقعنا تلك الاستشارات: "الله أكبر! الحمد لله الذي رَدَّ كيدَه إلى الوسوسة، وساوس وخوف، الخوف والندم والرهبة".