الجندي المجهول!
كتبه/ أيمن عبد السلام
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فلا شك أن الكِيانَ الدعوي من أقوى الوسائل لتحقيق غاية شريفة؛ ألا وهي: نشر الدِّين؛ وهذا الهدف السامي لن يتم إلا مِن خلال العمل الجماعي الذي تلتحم فيه القيادة مع الأفراد، ولا يرى القائد فيه أن القيادة شرف، ولا الجندي أن الجندية مهانة، بل كل فرد فيه على ثغرٍ، ويعلم أن تحقيق الإخلاص أقرب للجندي منه إلى القائد.
والعلوم الإدارية وإن كانت قد اعتنت بذكر صفات ومهارات القيادة الناجحة؛ إلا أن الشرعَ قد بيَّنها، وزاد عليها: صفات الجندي، وآداب التعامل مع القيادة؛ هذا الجندي الذي لا يري لنفسه فضلًا؛ فهو إن حضر لم يُعرف، وإن غاب لم يُفتقَد؛ إنه باختصار: "الخفي التقي".
دلَّنا على وصفه وخبره إمام المربين حين قال: "طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة"، "ممسك بعنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه، كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه!"؛ غايته مرضاة ربه، وقدوته النبي صلى الله عليه وسلم، وصحبه، ولا يتشبع بما لم يُعطَ.
يحب أن يجري الخير حتى ولو على يد غيره؛ حاله كحال هذا الراهب الذي قال لغلام الأخدود: "أنت اليوم أفضل مني"، ويمتثل قول الشافعي رحمه الله: "وددتُ أن الناس تعلَّموا هذا العلم، ولا يُنسَبُ إليَّ شيءٌ منه!".
فغياب هذا الأدب يؤدي إلى آفاتٍ خطيرةٍ، أبرزها: "الكبر" الذي يدفعه للترفع عن بعض الأعمال التي يظنها لا تليق به! بزعم أن كفاءته وتخصصه أكبر من ذلك، بل حاله كحال الصِّدِّيق رضي الله عنه الذي قد جاوز الستين من عمره، ومع ذلك يلتزم السمع والطاعة لقائده أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وهو ابن سبعة عشرة عامًا! فالصِّدِّيق لا شك أعلم وأفضل من أسامة؛ ومع ذلك لا يضره أن كان أميره أصغر منه؛ المهم أنه لا يأمره إلا بطاعة الله.
هذا الجندي الذي يُقدِّر القيادة ويحترمها؛ ولا يرى لنفسه فضلًا عليها إذا تيسَّرت له طاعة لم تتيسر لقيادته؛ فالقائد ربما انشغل بإدارة الكيان عن التفرُّغ للتدريس والتعليم، فليحذر الجندي في الكيان الدعوي إذا ما تيسرت له هذه العبادة مِن العجب والغرور والكبر على قيادته، أو أن يظن أنه أعلم؛ لمجرد (ضجيج) الدورات والدروس، والمجالس والألقاب التي ربما لا يكون تحتها من العِلْم والتربية ما ينبغي، وعليه أن يعلمَ أن قائده ربما كان أعلم منه، لكنه منشغل عن التصدر للتدريس والإفتاء بما تعيَّن عليه من قيادة مركب الدعوة إلى الله تعالى.
فلا شك أن الصِّدِّيق أعلم من ابن عباس وابن عمر؛ إلا أنه انشغل بواجب الوقت الذي تحتاجه الأمة فجهَّز الجيوش لقتال المرتدين، ومانعي الزكاة، ووضع اللجنة المسئولة عن جمع القرآن وحفظ الدِّين على المسلمين.
ولم يقل واحدٌ من هؤلاء الأفاضل أنه أولى بالخلافة من الصِّديق؛ لكثرة ما يعقد من مجالس الحديث مثلًا؛ إنما كانوا يحفظون للقائد مكانته، ويعلمون أنه منشغل بواجباتٍ أخرى.
أمثال هؤلاء أبكوا الفاروق، حين فتحت نهاوند وسَأل عمَّن استُشهد من الصحابة؛ فقيل: بعض الجند لا يعرفهم أحدٌ، فبكى الفاروق وجثا بركبتيه على الأرض، وقال: "إياك أن تقول لا يعرفهم أحدٌ، لا يضرهم إن كان لا يعرفهم عمر، ويعرفهم الله الذي في سمائه".
إن الكثيرَ مِن المشكلات الدعوية والإدارية تعود لرؤية الأفراد أنهم أولى مِن قادتهم، وأحق أن يكونوا على رأس المنظومة الدعوية؛ فحالهم كحال هؤلاء الذين قالوا لنبيهم: "أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ"، فهم يرون التفاضل بالألقاب الدنيوية والنياشين الاجتماعية، فالعمل الصامت عند المخلص أحب إليه مِن العمل الذي يحفه ضجيج الإعلان وطنين الشهرة.
ورحم الله خالد بن الوليد رضي الله عنه؛ يأتيه أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه بخبر عزله عن القيادة؛ فيفرح بتخفيف الله، ويعلن صدق إخلاصه بحسن نصحه للقائد الجديد؛ فلم يَتَّهم عمرَ بإقصاء الكفاءات؛ فضلًا عن أن يقول: إنه بعزله له يصد عن سبيل الله، ويعرقل مسيرة الدعوة!
وليس معنى هذا: إغفال دور القيادة في احتواء الطاقات، والصبر على النماذج المتطلعة بالنصح والتوجيه، وتقويم الأخطاء التي تصدر مِن بعض القادة؛ حتى يقطع الطريق على المتربصين بها.
وللحديث بقية بإذن الله.