أقسام التوحيد وتحريف المبطلين (1)
كتبه/ أشرف الشريف
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فينقسم التوحيد باعتبار ما يتعلَّق به إلى ثلاثة أقسام؛ لا تنفك ولا تنفصل عن بعضها، ولا بد من الإتيان بها جميعًا ليتحقق معنى التوحيد المنجي لصاحبه، وهي: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.
وهذه الأقسام قامت عليها أدلة كثيرة في الكتاب والسنة، ومنها قوله -تعالى-: "رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا"، وقد زعم بعض المتعالمين بدعيّة هذا التقسيم الثلاثي للتوحيد، وأنه من مخترعات ابن تيمية؛ ليلبسوا بذلك على أتباعهم الذين خَيَّلوا لهم أن التوحيد ينحصر في إفراد الله بالخلق، وأنه واحد في ذاته، واحد في صفاته، واحد في أفعاله، وهي معاني حقة، لكنها لم تتعرَّض من قريب أو بعيد إلى حقيقة التوحيد الذي جاءت به الرسل، وأُنزلت به الكتب، وهو: إفراد الله بالعبادة الظاهرة والباطنة قولًا وعملًا.
حتى صرَّح بعض المعاصرين: أن صرفَ النداء والاستغاثة، وطلب العون والمدد يصح للولي الميت طالما أنك تعتقد أنه لا يجيب طلبك استقلالًا، فيقولون: مدد يا فلان ... ! ويزعمون أنهم ينادونه ويطلبون منه مع اعتقادهم أنه لا ينفع استقلالًا، بل بمددٍ من الله، وصرَّحوا بأنه يجوز ذلك طالما أنك لا تعتقد فيه الربوبية، ومثل هذا تغبيش على حقيقة توحيد الألوهية، وتزيين لخطوات الشرك في العبودية، بدعاوى ساقطة وتأويلات كاسدة وحجج فاسدة لا تقف أمام وصف القرآن لفعلهم وكلامهم بالشرك؛ قال الله تعالى: "وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ . إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ"، فسمَّى عز وجل دعاء الأموات وغيرهم فيما لا يقدر عليه إلا الله شركًا.
فإن قيل: سمَّاه الله شركًا؛ لأنهم كانوا يعتقدون فيهم الربوبية، فما دعوهم إلا لكونهم يعتقدون فيهم الملك، والتصرف والتدبير.
قلتُ: هذا حرث في الماء، وإثارة للغبار على حقيقة أوضح من الشمس في ضحاها، فإن مجرد صرف شيء من العبادات لغير الله هو مِن الشرك الظاهر، فإن كان صرف هذه العبادة لغير الله لاعتقاده الواسطة فيمن صرف له العبادة؛ فهذا شرك في الألوهية، وإن كان يعتقد فيه أن له الأمر والتدبير المطلق؛ فهذا شرك في الربوبية تبعه شرك في الألوهية، فمثلًا: الذي يدعو المخلوق الغائب عنه لينقذه من الغرق بقول: "مدد يا فلان، وأغثني يا فلان ... !" هو بين حالين؛ إما أن يعتقد أنه قادر على إنقاذه بنفسه، وهذا شرك في الربوبية أثمر الشرك في الألوهية، وإما أن يعتقد أن لهذا الغائب الذي يدعوه جاهًا عند الله تعالى، فيسلِّمه الله بسبب جاه هذا الغائب، فكان الغائب واسطة للقبول، وهذا شرك في الألوهية.
وللتأكيد على هذا نسأل سؤالًا: هل كان مشركو العرب حين يدعون وينادون ويستغيثون باللات والعزى، يعتقدون أن تنفع بنفسها استقلالًا أو تقدر على الإجابة استقلالًا؟!
إنهم كانوا يعلمون أنها حجارة وعجوة، لا تجيب استقلالًا، بدليل أنهم عند الشدة كانوا يلجؤون إلى الله وحده دونها، وعند الرَّخاء صرَّحوا بأن هذه الأصنام ما هي إلا واسطة تقرِّبهم إلى الله زلفى؛ قال تعالى: "فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ"، وهذا بيان أنهم كانوا يعلمون أن النفع في مواطن الشدة لا يملكه على الحقيقة إلا الله عز وجل؛ ولذا توجهوا له وحده بالاستغاثة والدعاء، "فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ"، وقال سبحانه: "وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى"، وهذا بيان أنهم كانوا يدعونها كواسطة بينهم وبين الله، وليس على أنها تنفع استقلالًا بنفسها، وبذا يبطل زعم المبطلين المزينين للشرك وطرائقه، وهو المعنى الذي أكَّد عليه الرازي شيخ الأشاعرة المتأخرين عند تفسيره لقوله تعالى: "أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ . قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ"، حيث قال: "وَاعْلَمْ أَنَّ الْكُفَّارَ أَوْرَدُوا عَلَى هَذَا الْكَلَامِ سُؤَالًا، فَقَالُوا: نَحْنُ لَا نَعْبُدُ هَذِهِ الْأَصْنَامَ لِاعْتِقَادِ أَنَّهَا آلِهَةٌ تَضُرُّ وَتَنْفَعُ، وَإِنَّمَا نَعْبُدُهَا لِأَجْلِ أَنَّهَا تَمَاثِيلُ لِأَشْخَاصٍ كَانُوا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، فَنَحْنُ نَعْبُدُهَا لِأَجْلِ أَنْ يَصِيرَ أُولَئِكَ الْأَكَابِرُ شُفَعَاءَ لَنَا عِنْدَ اللَّهِ، فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ قَالَ: "أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ"، وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ؛ إِمَّا أَنْ يَطْمَعُوا بِتِلْكَ الشَّفَاعَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَامِ أَوْ مِنْ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءِ وَالزُّهَّادِ الَّذِينَ جُعِلَتْ هَذِهِ الْأَصْنَامُ تَمَاثِيلَ لَهَا، وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْجَمَادَاتِ -وَهِيَ الْأَصْنَامُ- لَا تَمْلِكُ شَيْئًا، وَلَا تَعْقِلُ شَيْئًا؛ فكيف يعقل صُدور الشَّفاعة عنها؟!
وَالثَّانِي: بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ شَيْئًا، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى الشَّفَاعَةِ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، فَيَكُونُ الشَّفِيعُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهَ الَّذِي يَأْذَنُ فِي تِلْكَ الشَّفَاعَةِ، فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِعِبَادَتِهِ أَوْلَى مِنَ الِاشْتِغَالِ بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: "قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعًا"، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا مُلْكَ لِأَحَدٍ غَيْرُ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: "لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" (انتهى).
وقال الله سبحانه وتعالى: "وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ".
قال الصنعاني في تطهير الاعتقاد: "ولفظ الشريك يشعر بالإقرار بالله تعالى"، وقال في المقدمة: "الحمد لله الذي لا يقبل توحيد ربوبيته من العباد حتى يُفردوه بتوحيد العبادة كلَّ الإفراد؛ فلا يتَّخذون له ندًّا، ولا يَدْعون معه أحدًا، ولا يتَّكلون إلا عليه، ولا يَفزعون في كلِّ حال إلا إليه، ولا يَدعونه بغير أسمائه الحسنى، ولا يتوصَّلون إليه بالشفعاء".
ثم إن في هذه الآيات مَلْمَح آخر مهم، وهو: أن العِبْرةَ ليست فيما يحمله اللفظ من معانٍ صحيحة؛ فهذا وحده ليس كافيًا في جواز إطلاق الألفاظ، بل العبرة والحكم في الجواز وعدمه مبني -في الحقيقة- على ما يوهمه اللفظ من معانٍ شركية أو مذمومة، وإن لم تكن مقصودة للمتكلم، وهذا ظاهر في نهي نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجاريةَ التي قالت: "وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ!"، فقال: "لاَ تَقُولِي هَكَذَا"، وفي رواية ابن ماجه والطبراني: "فَقَالَ: أَمَّا هَذَا فَلَا تَقُولُوهُ، مَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللَّهُ"، فنهاها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن اللفظ مع كونه يحمل تأويلًا صحيحًا؛ فقد أخبر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمور مستقبلية كعلامات الساعة ونحوها، وعلمه بذلك لا شك أنه مما علَّمه الله، فكلام الجارية يحتمل معنى صحيحًا، لكنه في نفس الوقت يحمل في ظاهره معنى باطلًا؛ مقتضاه جعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شريكًا لله في علمه بالغيب، فنهاها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهذا المعنى الباطل الموهوم، وإن لم يكن مقصودًا.
ولما سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا قال: "مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ"، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ عَدْلًا -أو قال: ندًّا-؟! بَلْ شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ".
ولا ريب أن الرجل لم يكن يقصد جعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ندًّا لله عز وجل، لكن لمّا كان اللفظ في ظاهره موهمًا لهذا المعنى الباطل؛ بطل هذا اللفظ، وسارع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ردِّه ومنعه؛ لأن العقيدة الصافية الخالصة لا تصلح فيها مثل تلك الألفاظ الموهمات، فلا داعي لتأويلات أبطل الشرع جميع طرائقها، وهدم عليها سراديبها، وجعل إطلاقها من الشركيات التي تعكِّر صفاء التوحيد ونقائه، وتذهب بحقيقته ومنافعه.
وللحديث بقية إن شاء الله.