وليطوفوا بالبيت العتيق
قال تعالى: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}.
قد لا نكون بحاجة إلى التذكير، بدور العبادات في بناء الشخصية المسلمة، وكيف أن لكل عبادة من العبادات، التي شرعها الإسلام، حكمة خاصة بها، وأداء معينا، بحيث لا تغني في ذلك عبادة عن أخرى، فيما بني عليه الإسلام، من العبادات، بعد أن تتحرر النية، وتلغى العبوديات لغير الله بأداء شهادة ألا إله إلا الله، التي بها ينتقل الإنسان إلى الإسلام، ويحقق انعتاقه من العبوديات لغير الله. وتؤدي العبادات المتنوعة، من صلاة وصيام وحج وزكاة دورها في حماية الشخصية المسلمة من السقوط، وتضمن لها ديمومة تغلب دوافع الخير على نوازع الشر، فهي أشبه بمحطات، يتزود منها الإنسان بالطاقة والعطاء والإيجابية، وتجديد المعاني التي تكاد تغيب من نفسه، في زحمة الممارسات اليومية، والتدافع البشري.
وقد تكون مشكلتنا، في عدم الإحساس بأثر العبادة، وحكمتها وعطائها، وروائها، ومعانيها، لأنها تحولت عند الكثير منا، إلى لون من الآلية والتكرار، والألف، بمعنى أنها تحولت من نطاق العبادة وعطائها إلى رتابة العادة وآليتها، إلى درجة لم نعد نحس معها بالفارق المطلوب، بين حالنا قبل أداء العبادة، وحالنا المفترض بعدها، مما جعل الكثير منا، بدأ يشعر بأن بعض العبادات لا معنى لها، لأنها ممارسات حركية عضلية، مقطوعة عن فكرتها وحكمتها.
ولعل عبادة الحج، والتوجه صوب البيت، الذي بني على التوحيد، تشكل عبادة موصولة ومستمرة، في حياة المسلم، بشكل أو بآخر، حتى ولو لم يمتلك الاستطاعة، من الزاد والراحلة، للذهاب إلى هناك، والتي لو امتلكها، لوجب عليه الحج مرة في العمر، يذهب فيها ليشاهد عيانا منزل الوحي، ويلغي بهذه الرحلة، التاريخ والجغرافيا على سواء، ويصوب المنطلق، ويترسم خطوات النبوة، ويعيش مرابعها ومراحلها، ليولد من جديد، «من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» (متفق عليه).
إنها رحلة التجدد والاتصال بالجذور، والعب من الينابيع الأولى، بعد أن امتلك المسلم القدرة على تجاوز الزمان والمكان، ليلتقي بجذور النبوة الأولى ويجدد الانتساب إليها؛ ذلك أنه بحجه إلى البيت الحرام، وطوافه حول البيت العتيق، لا يقتصر على أن يكون تاريخه ممتدا إلى نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، وإنما يتوغل في تاريخ النبوة، إلى أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام، الذي وضع القواعد من البيت على التوحيد، وجعله رمزا للتحرر والتحرير، من العبوديات لغير الله، وطهره من الأوثان، وسائر الشركيات، ودعا ربه هناك، مع ولده إسماعيل: {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا} [البقرة:128] إنه البيت العتيق.
وسواء قلنا بأن العتيق هنا، هو القديم، الضارب في القدم، في التاريخ، الذي يتوجه إليه الإنسان المسلم يوميا خمس مرات، ويحجه في العمر مرة، حيث يدخل في قافلة الخلود، المستمرة العطاء والأداء، ذلك أن المسلم بالتوجه إلى البيت العتيق والطواف بالبيت العتيق، يضيف تاريخا إلى تاريخه، وعطاء إلى عطائه، وينضم إلى قافلة النبوة، ويرتبط بمعانيها، فهو أحد أبناء سيدنا إبراهيم، الذي حرر البشرية ووضع لها رمز التحرير، لنتوجه إليه يوميا، ونحاول الوصول إليه، لنتمحور حوله، ونؤكد عملية الانتساب إليه بشكل عملي مادي، ولا نقتصر على الارتباط النفسي.
هذا إذا قلنا بأن البيت العتيق يعني البيت القديم، الذي بني على التوحيد، وكان رمزا له، وهو معنى كبير، وكبير جدا، يستدعي التوجه اليومي، ويقتضي المجاهدة، لطي مسافة الزمان والمكان، للوصول إليه، إنه التوجه اليومي خمس مرات، الذي يبدأ الإنسان فيه يومه، وينهي فيه نهاره، ويوجه إليه حال موته وفي قبره.
وإذا قلنا: بأن العتيق هنا، يعني الذي لا سلطان، ولا تسلط لأحد عليه لأنه رمز الحرية والانعتاق من سائر العبوديات والشركيات والطواغيت، والذي يعني التوجه إليه والوصول بالحج إليه، التخلص والخلاص من أسر المعاناة والعبودية، فإن الحج إليه والتمحور حوله، والطواف بساحته، وإدراك معانيه، هي بلا شك استرداد لإنسانية الإنسان، واسترداد لكراماته المفقودة، وحقوقه المهدورة.
إن التوجه صوب البيت العتيق، خمس مرات يوميا، حيث يفتتح المسلم يومه بالتوجه ويختتم يومه بالتوجه، ويملأ يومه بالتوجه معناه الإصرار على استرداد المعاني النبوية الغائبة عن حياة الإنسان التي يحمل دلالاتها البيت العتيق، إنه التوجه صوب مطلع النور، وأرض النبوة والتحرير، والسلام والأمان، ذلك أن هذه القبلة أو الوجهة، تعني التوجه صوب هذه المعاني الكبيرة، ومحاولة إبصارها ورؤيتها، والإصرار عليها، والاستمساك بها، مهما كانت الظروف، والتي تمثل المساجد المنتشرة على أرض الدنيا كلها، مواضع لاستقبالها.
فإذا استطاع المسلم وامتلك الزاد والراحلة، فما عليه إلا الذهاب للوصول إلى المشاهدة بعد الشهود، والمعايشة اليومية، لمواقع النبوة ومراحلها ومرابعها، بعد دراستها وسماع أخبارها، فإذا وصل مكة، بدأ بالطواف حول البيت العتيق، وقام مصليا عند مقام إبراهيم عليه السلام، وإذا أدى المناسك، عاد إلى الطواف، قبل المغادرة، وإذا دخل المسجد الحرام، فلا بد له من الطواف في كل دخلة، فتحية المسجد الحرام الطواف، وحاول في كل طوافه، إن استطاع، أن يقبل الحجر، وتلمس شفتاه ملمس شفاه النبوة، ليؤكد وحدة المورد، ووحدة المصدر، ووحدة المنطلق، ويستذكر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (والله إني أعلم أنك حجر، لا تضر، ولا تنفع، ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك).
إن سيدنا عمر تجاوز الشكل إلى المعنى، والمضمون، الذي يعني فيما يعني الالتزام حركيا، وليس فكريا وعقيديا فقط، السير على قدم النبوة وحسن الاقتداء بها.
إن المسلم يذهب إلى الحج، ويطوف بالبيت، بعكس عقارب الساعة، إنه يطوف باتجاه الماضي، ليصل تاريخه بالنبوة الخالدة، التي لا تقتصر على النبوة الخاتمة، ويعود من الحج مرتكزا إلى تاريخ النبوة الطويل، بعد أن تأهل ليكون أحد أفراده وصناعه ليبدأ حياته من جديد، جديدا متجددا، خاليا من الذنوب والخطايا، مستأنفا رحلة الحياة، بطهر، ونظافة، وتاريخ مضيء، فـ [من حج لله، فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه](البخاري وأحمد والنسائي).
إنها رحلة باتجاه تصويب الماضي، والتزود بالتقوى، إلى حسن صناعة المستقبل، قال تعالى عن رحلة الحج: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى}(البقرة:197 ) إنها الوقاية النفسية والحضارية، والسلوكية، والفكرية، التي تمنحها فريضة الحج، ويمنحها الطواف حول البيت العتيق، ليعود الإنسان خلقا آخر، يقوم بأداء الرسالة ويحقق العمران البشري، وإنه الإصرار اليومي على استرداد المعاني المفقودة، من حياة المسلم، التي يمنحها البيت، وإنه الانسلاك في قافلة الخير والنور والخلود، والماضي والمستقبل، فليس المسلم عرضا زائلا، وإنما هو خيار الخلود.
من هنا نقول: إن اختزال الإسلام، في موقف، أو جماعة، أو تنظيم، أو قوم، أو جنس، أو عصر، أو معركة، أو نظام، أو حاكم، أو شعب، والخروج به من خلوده الحضاري، والتاريخي، والمستقبلي، هو نوع من القصور في الإدراك للمعاني الكبيرة، التي يحملها الإسلام، وتقاصر عن إدراك أبعاد الأمانة والعبادة.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــ
من كتاب "في رحاب الحرم"
اسم الكاتب: أ. د. عمر عبيد حسنة
منقول