الإمام ابن عبد البر.. محطة سلفية
كتبه/ معتز رضا
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
توطئة:
فلا يزال علماء أهل السنة والجماعة في كل عَصر ومِصر متمسكين بكتاب ربهم -تعالى- وسنة نبيهم -صلى الله عليه وسلم-، آمرين باتباع السلف الصالح -رضوان الله عليهم-.
سُئل الإمام أبو حنيفة -رحمه الله- (توفي عام 150): ما تقول فيما أحدث الناس من الكلام في الأعراض والأجسام؟ فقال: "مقالات الفلاسفة! عليك بالأثر وطريقة السلف، وإياك وكل محدثة فإنها بدعة" "ذم الكلام وأهله (5/207)".
وقال الإمام الأوزاعي -رحمه الله- (توفي 157): "عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوها لك بالقول" "الشريعة ص67".
وقال -رحمه الله-: "اصبر نفسك على السنة، وقِفْ حيث وقف القوم، وقل فيما قالوا، وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفِك الصالح، فإنه يسعُك ما وسِعهم" "ذم الكلام وأهله، (5/117)".
ويقول الإمام القاسم بن سلام -رحمه الله- (توفي 224) متعجبًا: "أي شيء يُتبَع بعد كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ومنهاج السلف بعده الذين هم موضع القدوة والإمامة؟!" الإيمان (ص19).
ويقول الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- (توفي 241): "ولا نتعدى الأثر والاتباع؛ فالاتباع لرسول الله ومِن بعدَه لأصحابه.. فعلينا الاتباع لما مضى عليه سلفنا ونقتدي بهم" السنة للخلال (2/402).
وقال الإمام أبو داود السجستاني -رحمه الله- (توفي 275): "أسأل الله أن يمن علينا وعليكم بلزوم السنة والاقتداء بالسلف الصالح" السنة للخلال (1/263).
وذكر الإمام أبو بكر الخلال -رحمه الله- (توفي 311) نصيحة شيوخه ببغداد وفيها: "اتقى رجل ربه ونظر لنفسه فأحسن لها الاختيار -إذ كانت أعز النفوس عليه وأولاها منه بذلك- بلزوم الاتباع لصالح سلفه من أهل العلم والدين والورع؛ فاقتدى بفعالهم وجعلهم حجة بينه وبين الله -عز وجل-، وقلدهم من دينه ما تحملوا له من ذلك" السنة (1/226).
وقال الإمام الآجرِّي -رحمه الله- (توفي 360): "نأمر بحفظ السنن عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وسنن أصحابه -رضي الله عنهم-، والتابعين لهم بإحسان، وقول أئمة المسلمين مثل: مالك بن أنس والأوزاعي وسفيان الثوري وابن المبارك وأمثالهم، والشافعي وأحمد بن حنبل والقاسم بن سلام، ومن كان على طريقة هؤلاء من العلماء -رضي الله عنهم-، وننبذ مَن سواهم... هكذا أدبنا من مضى من سلفنا" الشريعة ص71.
وقال -رحمه الله-: "اسلكوا طريق مَن سلف مِن أئمتكم يستقم لكم الأمر الرشيد، وتكونوا على المحجة الواضحة -إن شاء الله تعالى-" (الشريعة ص83). وغير ذلك الكثير..
ومن العلماء الأجلاء الذين ساروا على درب التمسك بالقرآن والسنة والاقتداء بالسلف الصالح: الإمام ابن عبد البر -رحمه الله-.
ترجمته:
يحدثنا الإمام الذهبي -رحمه الله- عن الإمام ابن عبد البر قائلاً: "هو الإمام العلامة، حافظ المغرب، شيخ الإسلام، أبو عمر، يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النَّمَري، الأندلسي، القرطبي، المالكي، صاحب التصانيف الفائقة، مولده في سنة ثمان وستين وثلاثمائة في شهر ربيع الآخر، وقيل: في جُمادى الأولى؛ فاختلفت الروايات في الشهر عنه، وطلبَ العلمَ بعد التسعين وثلاثمائة ، وأدرك الكبار، وطال عمره، وعلا سنده، وتكاثر عليه الطلبة، وجمع وصنف، ووثق وضعف، وسارت بتصانيفه الرُّكبان، وخضع لعلمه علماء الزمان...".
ثم ذكر الذهبي شيوخه ورحلاته في طلب العلم وأشياء أخرى عنه ثم قال عنه: "كان إماما ديِّنًا، ثقة، متقنًا، علامة، متبحرًا، صاحب سنة واتباع".
وقال: "وكان في أصول الديانة على مذهب السلف، لم يدخل في علم الكلام؛ بل قفا آثار مشايخه -رحمهم الله-".
ويقصد الذهبي بكون ابن عبد البر على مذهب السلف في أصول الديانة: أنه كان في الأمور العقدية على ما كان عليه الصحابة -رضي الله عنهم-، والتابعون لهم بإحسان، وأتباعهم ومَن شُهد لهم بالإمامة؛ كالأئمة الأربعة وسفيان الثوري والليث بن سعد وابن المبارك والنخعي والبخاري ومسلم، وغيرهم..
ومِن أشهر مصنفات ابن عبد البر -رحمه الله-: التمهيد، والاستذكار، والاستيعاب، وجامع بيان العلم وفضله، وله مصنفات أخرى كثيرة..
وتوفي -رحمه الله- في ربيع الآخر سنة 463 وعمره خمسة وتسعين عامًا؛ فرحمه الله رحمة واسعة. "انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء 18/153 وما بعدها".
وقد قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: إنه "إمام المغرب" "مجموع الفتاوى 5/59".
وقال عن كتاب التمهيد -وهو شرح ابن عبد البر لموطأ مالك-: "الشرح الذي لم يَشرح أحدٌ مثلَه" "الفتاوى الكبرى 6/613".
وقال: "وهو أجلّ ما صُنف في فنه" "مجموع الفتاوى 3/263".
وقال: "وهو أشرف كتاب صُنف في فنه" مجموع الفتاوى (3/220).
وقال عنه ابن تيمية أيضًا: إنه "من أعلم الناس بالآثار والتمييز بين صحيحها وسقيمها" "درء التعارض 7/157".
وقال عنه الإمام ابن القيم -رحمه الله-: إنه "إمام أهل السنة في زمانه" "اجتماع الجيوش ص76".
وقال عنه الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-: إنه "إليه المرجع في كلام الله وكلام رسوله وكلام السلف" "مؤلفات الإمام محمد بن عبد الوهاب ص258".
وفيما يلي نتعرض لبعض المسائل التي تعرض لها الإمام ابن عبد البر -رحمه الله- وقوله فيها، والذي يدل على شدة تمسكه بالكتاب والسنة، واتباع السلف الصالح -رضوان الله عليهم-.
مصدر تلقي الأمور العقدية عند الإمام ابن عبد البر:
يقرر الإمام ابن عبد البر إن مصدر تلقي الأمور العقدية هو الوحي بقسميه: القرآن والسنة، ونقل اتفاق المسلمين على ذلك؛ يقول -رحمه الله-: "واتفق أهل الإسلام أن الدين تكون معرفته على ثلاثة أقسام: أولها معرفة خاصة الإيمان والإسلام، وذلك معرفة التوحيد والإخلاص ولا يوصل إلى علم ذلك إلا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فهو المؤدي عن الله والمبين لمراده، وبما في القرآن من الأمر بالاعتبار في خلق الله بالدلائل من آثار صنعته في بريته على توحيده وأزليته -سبحانه-، والإقرار والتصديق بكل ما في القرآن وبملائكة الله وكتبه ورسله.. " جامع بيان العلم 2/39 وما بعده".
منهجه في باب الأسماء والصفات:
يقول -رحمه الله- مبينًا كيفية معرفة أسماء الله وصفاته: "ليس في الاعتقاد كله في صفات الله وأسمائه إلا ما جاء منصوصًا في كتاب الله أو صحّ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو أجمعت عليه الأمة، وما جاء من أخبار الآحاد في ذلك -كله أو نحوه- يُسَلَّم له ولا يُناظَر فيه" جامع بيان العلم (2/96).
وقد قال -رحمه الله- ذلك القول السابق بعد أن نقل عن أبي عبد الله محمد بن أحمد بن إسحاق بن خويز منداد أنه قال -في شرح قول مالك لا تجوز شهادة أهل البدع وأهل الأهواء-: "أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام؛ فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع أشعريًّا كان أو غير أشعري، ولا تـُقبَل له شهادة في الإسلام أبدًا ويُهجَر ويؤدَّب على بدعته؛ فإن تمادى عليها استتيب منها".
وقد أورد كلامَ ابنِ عبد البر ابنُ تيمية مستدلاً به في "الفتاوى الكبرى (6/559)، ودرء التعارض (7/158).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-: "لا نسميه ولا نصفه ولا نطلق عليه إلا ما سمى ووصف به نفسه لا شريك له، ولا ندفع ما وصف به نفسه؛ لأنه دفع للقرآن" التمهيد (7/137).
ويقول أيضًا ابن عبد البر -مبينًا المعنى السابق مع نقله الإجماع على حمل الصفات على الحقيقة مع عدم تكييفها ورده على من اتهم أهل السنة أنهم مُشبهة-: "فلا يصفه ذوو العقول إلا بخبر، ولا خبر في صفات الله إلا ما وصف نفسه به في كتابه أو على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ فلا نتعدى ذلك إلى تشبيه أو قياس أو تمثيل أو تنظير؛ فإنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يُكيفون شيئًا من ذلك ولا يحدون فيه صفة محصورة، وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئًا منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقرّ بها مُشبه، وهم عند مَن أثبتها نافون للمعبود، والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله، وهم أئمة الجماعة. والحمد لله" التمهيد (7/145).
ويقول -حاثًا على ترك الجدال المذموم في أسماء الله -تعالى- وصفاته-: "ونهى السلف -رحمهم الله- عن الجدال في الله جل ثناؤه في صفاته وأسمائه، وأما الفقه فأجمعوا على الجدال فيه والتناظر؛ لأنه علم يُحتاج فيه إلى رد الفروع على الأصول للحاجة إلى ذلك وليس الاعتقادات كذلك؛ لأن الله -عز وجل- لا يوصف عند الجماعة أهل السنة إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو أجمعت الأمة عليه، وليس كمثله شيء فيدرك بقياس أو بإمعان نظر، وقد نهينا عن التفكر في الله وأمِرنا بالتفكر في خلقه الدال عليه" جامع بيان العلم (2/92).
وذكر ابن عبد البر بإسناده عن سحنون بن منصور أنه قال: قلت لأحمد بن حنبل: ينزل ربنا -تبارك وتعالى- كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر إلى السماء الدنيا، أليس تقول بهذه الأحاديث، ويرى أهل الجنة ربهم، وبحديث لا تقبحوا الوجوه، وإن الله خلق آدم على صورته، واشتكت النار إلى ربها حتى يضع الله فيها قدمه، وأن موسى -عليه السلام- لطم ملك الموت -صلوات الله عليه-؟ قال أحمد: كل هذا صحيح، وقال إسحاق كل هذا صحيح، ولا يدعه إلا مبتدع أو ضعيف الرأي.
ثم قال أبو عمر ابن عبد البر: "الذي عليه أهل السنة وأئمة الفقه والأثر في هذه المسألة وما أشبهها: الإيمان بما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها والتصديق بذلك، وترك التحديد والكيفية في شيء منه".
ثم نقل عن سفيان بن عيينة أنه قال: "هذه الأحاديث نرويها ونقر بها كما جاءت، بلا كيف".
ثم نقل عن الوليد بن مسلم أنه قال: سألت الأوزاعي وسفيان الثوري ومالك بن أنس والليث بن سعد عن هذه الأحاديث التي جاءت في الصفات فقالوا: "أمِرُّوهَا كما جاءت بلا كيف".
ثم ذكر نحو هذا عن يحيى بن معين ووكيع بن الجراح وإسماعيل بن أبي خالد وسفيان ومسعر وعباس بن محمد الدوري وأبي عبيد القاسم بن سلام.
ثم قال أبو عمر ابن عبد البر: "الذي أقول: إنه من نظر إلى إسلام أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وسعد وعبد الرحمن وسائر المهاجرين والأنصار، وجميع الوفود الذين دخلوا في دين الله أفواجًا علم أن الله -عز وجل- لم يعرفه واحد منهم إلا بتصديق النبيين بأعلام النبوة ودلائل الرسالة لا من قِبل حركة ولا من باب الكل والبعض، ولا من باب كان ويكون، ولو كان النظر في الحركة والسكون عليهم واجبًا، وفي الجسم ونفيه والتشبيه ونفيه لازمًا ما أضاعوه، ولو أضاعوا الواجب ما نطق القرآن بتزكيتهم وتقديمهم، ولا أطنب في مدحهم وتعظيمهم، ولو كان ذلك مِن عملهم مشهورًا أو من أخلاقهم معروفـًا لاستفاض عنهم ولشُهروا به كما شُهروا بالقرآن والروايات، وقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا) (متفق عليه)، عندهم مثل قول الله -عز وجل-: (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) (الأعراف:143)، ومثل قوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) (الفجر:22)، كلهم يقول: ينزل ويتجلى ويجيء بلا كيف، لا يقولون: كيف يجيء وكيف يتجلى وكيف ينزل ولا من أين جاء ولا من أين تجلى ولا من أين ينزل؛ لأنه ليس كشيء من خلقه، وتعالى عن الأشياء، ولا شريك له" "التمهيد (7/147) وما بعدها"، ونقله ابن تيمية باختصار في مجموع الفتاوى (5/86 - الحموية).
ويرد مرةً أخرى على مَن يتهمون متبعي هذا المنهج بأنهم مُشبهة فيقول: "ومحال أن يكون من قال عن الله ما هو في كتابه منصوصا مشبهًا إذا لم يكيف شيئًا وأقر أنه ليس كمثله شيء" "الاستذكار 2/528".
ويقول -رحمه الله-: "الله -عز وجل- في السماء على العرش فوق سبع سموات كما قالت الجماعة خلافًا للمعتزلة والجهمية في قولهم: إن الله -عز وجل- في كل مكان، وليس على العرش. وأما ادعاؤهم المجاز في الاستواء، وقولهم في تأويل استوى: استولى فلا معنى له؛ لأنه غير ظاهر في اللغة، ومعنى الاستيلاء في اللغة المغالبة، والله لا يغالبه ولا يعلوه أحد، وهو الواحد الصمد.
ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز؛ إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا إلا على ذلك، وإنما يوجه كلام الله -عز وجل- إلى الأشهر والأظهر من وجوهه ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التسليم، ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع ما ثبت شيء من العبارات، وجل الله -عز وجل- عن أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب في معهود مخاطباتها مما يصح معناه عند السامعين. والاستواء معلوم في اللغة ومفهوم، وهو العلو والارتفاع على الشيء والاستقرار والتمكن فيه" "التمهيد (7/129) وما بعدها، باختصار"، ونقله مختصرًا شيخُ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (5/86)، (5/193)، (3/220)، (3/263).
وقال -رحمه الله-: "الله -عز وجل- في السماء على العرش من فوق سبع سماوات، وعلمه في كل مكان؛ كما قالت الجماعة أهل السنة أهل الفقه والأثر" "الاستذكار (2/527)".
وقال: "وأما قوله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث: (يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا.. )، فقد أكثر الناس التنازع فيه والذي عليه جمهور أئمة أهل السنة أنهم يقولون: ينزل كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويصدقون بهذا الحديث ولا يكيفون، والقول في كيفية النزول كالقول في كيفية الاستواء والمجيء، والحجة في ذلك واحدة" "التمهيد 7/143".
وقال -رحمه الله- مقررًا أن القرآن كلام الله: "والذي عليه جماعة أهل السنة أنه لم يزل بصفاته وأسمائه، ليس لأوليته ابتداء ولا لآخريته انقضاء، وهو على العرش استوى، والشهادة بأن محمدًا عبده ورسوله وخاتم أنبيائه حق، وأن البعث بعد الموت للمجازاة بالأعمال والخلود في الآخرة لأهل السعادة بالإيمان والطاعة في الجنة ولأهل الشقاوة بالكفر والجحود في السعير حق، وأن القرآن كلام الله، وما فيه حق من عند الله يجب الإيمان بجميعه واستعمال محكمه" "جامع بيان العلم وفضله 1/10-11".
قال الإمام ابن عبد البر تعليقـًا على حديث: "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق": "وفي الاستعاذة بكلمات الله أبيَن دليل على أن كلام الله منه -تبارك اسمه- وصفة من صفاته، ليس بمخلوق؛ لأنه محال أن يُستعاذ بمخلوق، وعلى هذا جماعة أهل السنة والحمد لله" "التمهيد 24/186".
وقال: "وفي هذا الحديث دليل على أن كلام الله -عز وجل- غير مخلوق؛ لأنه لا يستعاذ بمخلوق" "التمهيد 24/110".
وقال: "وفيه دليل على أن كلمات الله غير مخلوقة؛ لأنه لا يستعاذ بمخلوق، والقرآن كلامه -جل جلاله-" "الاستذكار 8/444".
ابن عبد البر والإجماع على حجية خبر الآحاد في أصول الدين وفروعه:
يقول ابن عبد البر -رحمه الله- بالعمل بخبر الواحد في الأصول والفروع وقبوله -متى صحّ-، وانتصر لهذا القول وكتب فيه كثيرًا؛ وله فيه كتاب مستقل، اسمه: "الشواهد في إثبات خبر الواحد" كما ذكر الذهبي في ترجمته، ونقل الإجماع على ذلك.
قال ابن عبد البر -رحمه الله-: "وأجمع أهل العلم من أهل الفقه والأثر في جميع الأمصار -فيما علمتُ- على قبول خبر الواحد العدل وإيجاب العمل به إذا ثبت ولم ينسخْه غيرُه مِن أثر أو أجماع، على هذا جميع الفقهاء في كل عصر من لدن الصحابة إلى يومنا هذا، إلا الخوارج وطوائف من أهل البدع، شرذمة لا تعد خلافـًا" التمهيد (1/2).
وقال -رحمه الله-: "استعمال خبر الواحد وقبوله وإيجاب العمل به أوضح وأقوى ما نرى من جهة الآثار في قبول خبر الواحد؛ فالقول بأن الواحد لا يجب قبول خبره وإنما يجب قبول خبر الكافة قول ما أعظم ضلال من قال به، والله -عز وجل- يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) (الحجرات:6)، وقـُرئتْ: (فتثبتوا)، فلو كان العدل إذا جاء بنبأ يتثبت في خبره ولم ينفذ لاستوى الفاسق والعدل، وهذا خلاف القرآن" "التمهيد (8/370) بتصرف".
وقال -رحمه الله-: "أهل الفقه والأثر كلهم يدين بخبر الواحدِ العدلِ في الاعتقادات، ويعادي ويوالي عليها، ويجعلها شرعًا ودينًا في معتقده؛ على ذلك جماعة أهل السنة" "التمهيد 1/8".
تعريف ابن عبد البر للبدعة وذمه لها وللمبتدِعة وأمره بهجر أهل البدع:
يقول -رحمه الله-: "البدعة في لسان العرب اختراع ما لم يكن وابتداؤه؛ فما كان من ذلك في الدين خلافًا للسنة التي مضى عليها العمل؛ فتلك بدعة لا خير فيها، وواجب ذمها والنهي عنها والأمر باجتنابها وهجران مبتدعها إذا تبين له سوء مذهبه، وما كان من بدعة لا تخالف أصل الشريعة والسنة؛ فتلك نعمت البدعة كما قال عمر؛ لأن أصل ما فعله سنة. وأما ابتداع الأشياء من أعمال الدنيا؛ فهذا لا حرج فيه ولا عيب على فاعله" "الاستذكار (2/67)".
وتعليقًا على حديث كعب بن مالك -رضي الله عنه- المشهور حول غزوة تبوك والتخلف عنها، وأمرِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهجر مَن تخلفوا حتى أنزل الله توبتهم لصدقهم، يقول ابن عبد البر: "وهذا أصل عند العلماء في مجانبة مَن ابتدعَ، وهجرتِه، وقطع الكلام معه" "التمهيد 4/87".
موقف ابن عبد البر من أهل الكلام وإخراجه لهم من طبقة العلماء وبيانه مَن هم العلماء:
يقول أبو عمر ابن عبد البر: "أجمع أهل الفقه والآثار من جميع الأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ، ولا يُعَدُّون عند الجميع في جميع الأمصار في طبقات العلماء، وإنما العلماء أهل الأثر والتفقه فيه ويتفاضلون فيه بالإتقان والميز والفهم" "جامع بيان العلم (2/95)".
كلام ابن عبد البر من اتخاذ القبور مساجد ومحبة النبي مخالفة بالكفار:
تعليقًا على قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ) (متفق عليه)، يقول ابن عبد البر -رحمه الله-: "في هذا الحديث إباحة الدعاء على أهل الكفر، وتحريم السجود على قبور الأنبياء، وفي معنى هذا أنه لا يحل السجود لغير الله -عز وجل-، ويحتمل الحديث أن لا تـُجعَل قبور الأنبياء قبلة يُصلى إليها، وكل ما أحتمله الحديث في اللسان العربي فممنوع منه؛ لأنه إنما دعا على اليهود محذرًا لأمته -عليه السلام- من أن يفعلوا فعلهم" "التمهيد (6/383)".
وتعليقـًا على قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبَد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) (رواه مالك مرسلاً، وصححه الألباني)، يقول ابن عبد البر: "وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحذر أصحابه وسائر أمته من سوء صنيع الأمم قبله الذين صلوا إلى قبور أنبيائهم واتخذوها قبلة ومسجدًا كما صنعت الوثنية بالأوثان التي كانوا يسجدون إليها ويعظمونها وذلك الشرك الأكبر؛ فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخبرهم بما في ذلك من سخط الله وغضبه وأنه مما لا يرضاه خشية عليهم امتثال طرقهم، وكان -صلى الله عليه وسلم- يحب مخالفة أهل الكتاب وسائر الكفار، وكان يخاف على أمته اتباعهم؛ ألا ترى إلى قوله -صلى الله عليه وسلم- على جهة التعيير والتوبيخ: (لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ) (رواه البخاري ومسلم)؟" التمهيد (5/45).
وقال -رحمه الله-: "يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء والصالحين مساجد" "التمهيد 1/168".
خلق الله -تعالى- للخير والشر:
يقول ابن عبد البر -رحمه الله-: "الشر والخير كل من عند الله وهو خالقهما لا شريك له ولا إله غيره" "التمهيد 6/63".
نقل ابن عبد البر الإجماع على أن الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية:
يقول ابن عبد البر -رحمه الله-: "أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل، ولا عمل إلا بنية، والإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والطاعات كلها عندهم إيمان" "التمهيد 9/238".
وقال: "سائر الفقهاء من أهل الرأي والآثار بالحجاز والعراق والشام ومصر، منهم مالك بن أنس والليث بن سعد وسفيان الثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد القاسم بن سلام وداود بن علي وأبو جعفر الطبري، ومن سلك سبيلهم قالوا: الإيمان قول وعمل؛ قول باللسان وهو الإقرار، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح، مع الإخلاص بالنية الصادقة؛ قالوا وكل ما يطاع الله -عز وجل- به من فريضة ونافلة فهو من الإيمان، والإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي" "التمهيد (9/243)، ونقله عنه ابن تيمية في مجموع الفتاوى (7/330)".
حكم مرتكب الكبيرة:
قال -رحمه الله-: "فإن مات صاحب الكبيرة فمصيره إلى الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه؛ فإن عذبه فبجرمه، وإن عفا عنه فهو أهل العفو وأهل المغفرة، وان تاب قبل الموت وقبل حضوره ومعاينته وندم واعتقد أن لا يعود واستغفر ووجل كان كمن لم يذنب" التمهيد (4/49).
عدالة الصحابة:
يقول ابن عبد البر: "لا فرق بين أن يُسمي التابعُ الصاحبَ الذي حدّثه أو لا يسميه في وجوب العمل بحديثه؛ لأن الصحابة كلهم عدول مرضيون ثقات أثبات، وهذا أمر مجتمع عليه عند أهل العلم بالحديث" التمهيد (22/47).
رد ابن عبد البر على من زعم خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- من قبره وكلامه له:
قال -رحمه الله-: "ويحك أترى هذا أفضل من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار؟ فهل في هؤلاء من سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد الموت وأجابه؟ وقد تنازع الصحابة في أشياء، فهلا سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- فأجابهم؟! وهذه ابنته فاطمة تنازع في ميراثه فهلا سألته فأجابها؟!".
قال -رحمه الله- ذلك لمن يظن أنه حين يأتي إلي قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- يخرج من قبره في صورته فيكلمه، وظن هذا من كراماته! مجموع الفتاوى 10/407".
وفي ذلك كفاية لمعرفة منهج هذا العام الفذ؛ رحمة الله -تعالى- على علمائنا الأطهار الأبرار، ورحمة الله -تعالى- عليك يا ابن عبد البر.
وصلِّ اللهم وسلمْ وبارك على نبينا محمد وصحبه وآل بيته، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مراجع تم الاستفادة منها:
الإيمان، للقاسم بن سلام، ط المكتب الإسلامي، ط2.
اجتماع الجيوش الإسلامية، لابن القيم، ط دار الكتب العلمية، ط1.
الاستذكار، لابن عبد البر، ط دار الكتب العلمية، ط1
التمهيد، لابن عبد البر، ط وزارة الأوقاف – المغرب.
جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، ط دار الكتب العلمية.
درء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية، دار الكتب العلمية.
ذم الكلام وأهله، لأبي إسماعيل الهروي، ط العلوم والحكم.
سير أعلام النبلاء، للذهبي، ط الرسالة، ط9.
السنة، لأبي بكر الخلال، ط دار الراية.
الشريعة، للآجرّي، ط دار الكتاب العربي، ط1.
عقيدة الإمام ابن عبد البر في التوحيد والإيمان، د سليمان الغصن، ط دار العاصمة، ط1.
الفتاوى الكبرى، لابن تيمية، ط دار المعرفة، ط1.
مؤلفات الإمام محمد بن عبد الوهاب، ط جامعة الإمام.
مجموع الفتاوى، لابن تيمية، ط ابن قاسم.