أما بعد : إن الابتعاد عن أهواء النفس ووسوسة الشيطان يمثل الصيام رافداً هاماً من أهم روافد الطاقة الروحية ؛ لما فيه من وقف لعادة النفس وانطلاقها في ملذاتها ، وفيه تحقيق لمعنى مجاهدة النفس والانتصار عليها وفي الأثر: " أن جهاد النفس هو الجهاد الأكبر " ؛ لأن من لم ينتصر على نفسه لا يستطيع الانتصار على عدوه والمهزوم نفسيا مهزوم قتالياً قبل دخول المعركة . أن أهم الانتصارات الإيمانية تمت في شهر الصيام حيث الصفاء القلبي بعد الانتصار على النفس الأمارة بالسوء . والإنسان بطبيعة تكوينه مجبول على عنصري الخير والشر والطاعة والمعصية بمثل ما هو مجبول على النوم واليقظة والصحة والمرض وهذا موطن الفتنة والاختبار يقول الله عز وجل : { ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها } فإما أن يرقى المؤمن بتزكية نفسه إلى المعارج الروحية العليا فيكون ممن : { قد افلح من زكاها } ، وإما أن يغلب عليه جانب الفجور فيكون ممن : { وقد خاب من دساها } ولننظر إلى صيام الصالحين الذين اتخذوا من الصيام ملاذا لتهذيب النفس وتزكيتها ، وتقوية الجانب الروحي ، إخوَّة الإسلام: وإذا كان رمضان شهر التقوى والصيام، وشهر الصبر وتلاوة القرآن، وشهر النفقة والإحسان، إلى غير ذلك من مزايا وفضائل شهر الصيام، فرمضان كذلك شهرُ الانتصار.
وانتصاراتنا في رمضان في أكثر من مجال، لا تحد بزمان ولا يخص بها أجيال دون أجيال، وليست قصرًا على الانتصارات العسكرية، بل ثمة انتصارات آخرى؛ ففي شهر رمضان ينتصر الصائم على دواعي الشهوة -وإن كانت مباحة-؛ إذ تصوم البطون عن الأكل والشراب، وإن كانت حلالاً، وتصوم الفروجُ عن الشهوة وإن كانت غير ملومةٍ مع الأزواج أو ما ملكت الأيمان، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. وينتصر الصائم على الشهوة المحرمة كشرب الدخان، أو ما يدخل في بابه -بل وأعظم-، كالمخدرات والمسكرات ونحوها، فثمة نفرٌ من المسلمين بُلوا بهذه الأدواء المهلكة، لكنهم في شهر الصيام يهجرونها -ولو على الأقل في نهار رمضان- وهم خليقون بهجرها على الدوام، وعسى الله أن يجعل من شهر الصيام فرصةً لهم على التوبة النصوح والانتصار على دواعي الشهوة التي تورث الذلة والمهانة. أيها الصائمون: والصائم الموفق والحافظ لصيامه ينتصر على شهوة النظر المحرمة، وشهوة السمع الآثمة، رمضان انتصار على النفس فلا هزيمة وكسل ونوم طويل تضيع به الصلوات رمضان انتصار تحبس به اللسان عن الغيبة والنميمة والكذب وعن السهر الطويل فيما لا فائدة فيه بل قيام لله وندم واستغفار وطلب العفو منه سبحانه
لابد أن ننتصر على أنفسنا، حتى يتحقق الانتصار على أعدائنا، ولذا كان شهر رمضان عند أهل الإيمان شهر الانتصارات، وشهر تحقيق أعظم الفتوحات بفضل الله سبحانه وتعالى ففي رمضان ولد الإسلام وظهر نوره وبعث الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق بعثه الله في أرض تموج بالفتن والشرك والضلال يفتك الأقوياء بالضعفاء ويتعالى الأغنياء على الفقراء لادين يحكمهم ولاعقيدة تعصمهم ولاشريعة تؤلف بينهم يعبدون الأصنام ويقتلون النساء وكان الفرس والروم يتحكمون في مصائرهم يبتزون أموالهم ويستنزفون دماءهم فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبادة الله وحده دعاهم إلى الحق فأبى أكثرهم وآذوه وجحدوا رسالته وأخرجوه من بلده فهاجر لينشر الإسلام في بقعة أخرى ، ولم ينقطع العداء ولم ينتهي الصراع بين الحق والباطل .فالتقى الرسول الكريم وصحبه مع المشركين في بدر في هذا الشهر المبارك في اليوم السابع عشر يوم فرق الله بين الحق والباطل ، يوم خرج فيه الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه لايملكون عدة ولاعدد ( ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة ) .نصرهم الله لما كان أرواحهم المعنوية يثبتها الإيمان ويقوي عزائمهم الرغبة في الشهادة . قالوا لنبيهم صلى الله عليه وسلم أمضي لما أمرك الله فنحن معك والله لانقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ولكنا نقول لك اذهب أنت وربك فقاتلا فإنا معكما مقاتلون .وقال سعد بن معاذ أمضي لما أردت فنحن معك فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ماتخلف منا رجل واحد ، ومانكره أن تلقى بنا عدون غدا إنا لصبر في الحرب صدق عند اللقاء ولعل الله أن يريك منا ماتقر به عينك فسر بنا على بركة الله .بهذه الروح القوية وبهذا الإيمان الصادق أستحق المسلمون النصر في أول معركة في تاريخ الإسلام أرئيتم إلى رمضان كيف كان مولدا للإسلام وعزا ومجدا للمسلمين ففيه انتصروا على عدوهم وهزموا الطغاة والجبابرة وأذلوا المشركين وأنقذوا الضعفاء والمشردين والمضطهدين تلك والله صفحات ناصعة في جبين الأمة المسلمة صفحات رجال أبطال سطروها بدمائهم لم يخافوا من الباطل لم يركعوا لكافر ولامشرك ، ولم يذلوا يوما أنفسهم لايرون العزة إلا في الإسلام وإن العزة بغيره ذل ومهانة .لم تخدعهم المظاهر والشكليات ولم يوالوا يوما يهوديا ولانصرانيا . يرون الإسلام هداية للبشرية وإنقاذ لها من ظلمات الكفر وضلال الوثنية . والخير في هذه الأمة إلى قيام الساعة ، ولاتزال طائفة من الأمة المحمدية ناجية منصورة إلى قيام الساعة لايضرها من خالفها . وفي رمضان من السنة الثامنة من الهجرة كان فتح مكة الذي بشر الله به محمداً وقال -ممتناً عليه-: )إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا * وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا( الفتح ففتح الله لرسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم- القلوب بنزول القرآن في رمضان، وفتح له مكة بالجهاد في رمضان، وفي هذه الغزوة انتصر الإيمان، وعلا القرآن، وفاز حزب الرحمن، ودحر الطغيان، وكسرت الأوثان، وخاب حزب الشيطان.وفي رمضان أيضاً كانت معركة عين جالوت التي أعز الله فيها المسلمين بقيادة الملك المظفر قطز، وأخزى التتر الملحدين بقيادة هولاكو المغولي، وكسر شوكتهم، ولم تقم لهم بعدها قائمة. وذلك في يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر رمضان عام (658هـ) أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم.
.الحمد لله نصر دينه وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : أيها الصائمون العابدون ها هو رمضان تعيشه أمة الإسلام ومجازر المسلمين في كل مكان أتغيّر رمضان أم نحن الذين تغيرنا . أهو رمضان بدر والفتح وعين جالوت ، أم ماذا ...نعيش رمضان ونحن في ضعف ، نعيش رمضان ونحن منهزمون أمام أنفسنا وأعدائنا أصبنا بخيبة الأمل وضعف النفس . وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ) ( إن الله لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) . أيها الصائمون المصلون إن الصائم والمصلي هو المعتز بدينه وعقيدته وشريعته ، يتعلق قلبه بربه جلّ وعلا فيثق بنصره ووعده .. عباد الله: إن كان النصر قد تأخر فذلك لتأخرنا عن ديننا، فإنه لا محالة سيتحقق -إن شاء الله- ؛ قال -تعالى-: )أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ( إن النصر مع الصبر، وحين يصدق المسلمون يمدهم الله بجند من عنده) ونصرة الله هي نصر الحق وأهله ( إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ، وانتصار النفس على شهواتها وملذاتها وتقديم أوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم ، تحقيق للعبودية لله سبحانه وتعالى لكن ذلك لايتأتى إلا بعزائم صادقة وقلوب راسخة بالإيمان ( كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز ) ( وإن جندنا لهم الغالبون ) .أيها المؤمنون الصائمون إن هذا الصراع القائم بين الحق والباطل هو سنة الله التي لاتتغير ولاتتبدل . وإن مايدبره أعداء الإسلام من اليهود والنصارى والروافض ضد المسلمين إنما هو خوف من الإسلام فسعوا إلى تخدير الشعوب وإضلالها عن حقيقة الإسلام وإشغالهم بالشهوات والملذات وبإثارة الفتن . فحسبنا الله ونعم الوكيل .ثم صلوا ..