سؤالان لمجوزي الاستغاثة بالأموات
د. علي حسن الروبي
الحمد لله وحده، وصلاة وسلامًا على محمد وآله وصحبه؛ أما بعد:
ففي هذه المقالة إيرادان مهمان - أحسب أنهما جديران بالتأمل - على تقريرات القائلين بتجويز الاستغاثة بالأموات وندائهم، واللَّهج بأسمائهم لدفع النقمات، وكشف البليات، أو لقضاء الحاجات، وتحقيق الأمنيات.
أما الأول:
فبيانه أن مجوزي الاستغاثة بالأموات من الأولياء والصالحين وطلب الحاجات منهم يُقررون أن ذلك كائن من فاعليه على جهة الاستشفاع والتوسل، لا على جهة الطلب الحقيقي، وأن ما يقع من نداء العامة لأولئك الأموات بتفريج الكربات ورفع الشدائد وقضاء الحاجات - هو من المجاز العقلي، وحقيقته توسيط للصالح الميت أن يدعو الله للمنادي، أو يشفع له عند الله في قضاء حوائجه، وأن شيئًا من ذلك لا يكون شركًا، إلا إذا اعتقد المنادي استقلال ذلك الميت الصالح أو الولي بالتأثير في الكون، وفعل تلك المطلوبات وإيجادها من جهة نفسه استقلالًا، لا أن الله هو الذي يفرج الكرب، ويرفع الشدة، ويقضي الحاجة، فعند ذلك - أي: اعتقاد استقلال الولي أو الصالح بالتأثير والإيجاد بعيدًا عن الله - يكون النداء شركًا، والاستغاثة كفرًا، وإلا فهي التوسل والتشفع الجائزان.
فيقال:
إذا كانت كل الإشكالية ومناط الإشراك هو في اعتقاد الاستقلال بالتأثير، والفعل من دون الله، فلماذا لم يلجأ نبي الله نوح عليه السلام إلى استعمال تلك الطريقة في دعوته لقومه بتصحيح اعتقادهم في (ودٍّ وسواع ويغوث ويعوق ونَسْر)، ويكون ذلك حلًّا وسطًا، وهو أقرب إلى استمالة قلوبهم؟
فإن تلك الأصنام التي كان يعبدها قوم نوح - كما روى البخاري وغيره عن ابن عباس - هي "أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أنِ انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تُعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم، عُبدت).
فعِوضًا عن مطالبة نوح عليه السلام لقومه بالكفر التام بمعبوداتهم - وفيه ما فيه من التنفير لهم - كان الأولَى به مطالبته لهم بالاعتقاد الصحيح في أولئك الصالحين، بأن يقول لهم: اذبحوا لهم، وانذروا واستغيثوا بهم، لكن على جهة الاستشفاع والتوسل بهم عند الله، وليس على سبيل اعتقاد استقلالهم بالفعل من دون الله، وأنكم إذا ناديتم (ودًّا أو سواعًا... إلخ)، طالبين منهم إنزال الغيث أو شفاء مريض لكم، فافعلوا ذلك متوسلين بهم ومستشفعين عند الله؛ لِما لهم عنده من جاه ومنزلة وصلاح، فذلك أقرب لإجابة طلبكم وإعطائكم سؤلكم، لكن لا تعتقدوا أنهم قادرون على إنزال المطر وإشفاء المريض استقلالًا دون إذن الله؛ لأن ذلك شرك بالله وكفر به.
ألم تكن تلك الطريقة أجدى في دعوة نوح قومه، وأقرب لقبول قومه دعوته؟!
وكذلك لماذا لم يلجأ إليها النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته لمشركي قريش الذين كانوا -كما أخبر القرآن الكريم عنهم - يُقرون بأن الله وحده خالق السماوات والأرض، وموجدهما، وخالق البشر، ومنزل المطر؛ قال تعالى: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [العنكبوت: 61].
وقال تعالى: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [العنكبوت: 63].
وقال تعالى: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [الزخرف: 87].
وإنما كان توجههم بالقرابين والاستغاثة والطلب من آلهتهم المتخذة؛ لمعنى الاستشفاع بها عند الله تعالى، والتزلُّف إليه عن طريقها؛ فقد قال تعالى عنهم: ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾ [الزمر: 3].
ولا يظن ظانٌّ، ولا يحسبن حاسب أنهم كانوا يعتقدون أن نفس الحجر أو الصنم الذي يتوجهون إليه هو الذي خلقهم، أو خلق السماوات والأرض؛ وفي هذا يقول الشهرستاني في الملل والنحل (3/ 104):
"وبالجملة وضع الأصنام حيث ما قدروه إنما هو على معبود غائب، حتى يكون الصنم المعمول على صورته وشكله وهيأته نائبًا منابه، وقائمًا مقامه، وإلا فنعلم قطعًا أن عاقلًا ما لا ينحت جسمًا بيده، ويصوره صورةً، ثم يعتقد أنه إلهه وخالقه، وإله الكل وخالق الكل؛ إذ كان وجوده مسبوقًا بوجود صانعه، وشكله يحدث بصنعة ناحته.
لكن القوم لما عكفوا على التوجه إليها، كان عكوفهم ذلك عبادةً، وطلبهم الحوائج منها إثبات إلهية لها؛ وعن هذا كانوا يقولون: ﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾ [الزمر: 3]، فلو كانوا مقتصرين على صورها في اعتقاد الربوبية والإلهية لَما تعدوا عنها إلى رب الأرباب"؛ [انتهى كلام الشهرستاني].
فلماذا لم ينطلق النبي صلى الله عليه وسلم من ذلكم المنطلَق، ويقول لجميع أولئك الذين يعبدون الأصنام أو الملائكة أو عيسى عليه السلام: ابقُوا على ما أنتم عليه من التوجه بالدعاء والاستغاثة وتقديم النذور والقرابين، لكن بشرطين: أولهما: أن تفعلوا ذلك على وجه التوسل والتشفع بهم عند الله، فالملائكة وعيسى والصالحون الذين تصورنهم على صورة أصنام هم شفعاء مقربون عند الله، ولن تكونوا كافرين بالله مشركين به، إلا إذا اعتقدتم انفراد هؤلاء الشفعاء بالتأثير والخلق والإيجاد من دون الله، معتقدين أنهم أرباب مساوون لله في القدرة والخلق والتأثير، وإنكم مهما نذرتم إليهم من نذر، أو قدمتم لهم من قربان، أو هتفتم باسمهم ضارعين صارخين لرفع ضرٍّ أو جلب نفع، فلستم مشركين إن كانت نيتكم في ذلك الاستشفاع والتوسل بهم، لا الاعتقاد بأنهم أرباب مساوون لله، مؤثرون من دونه؟!
وأما ثاني الشرطين: فأن تتخلوا عن تسمية ما تفعلونه عبادة، بل سموه توسلًا واستشفاعًا لا عبادة؛ فإن العبادة لا تصرف إلا الله، وإذا سميتم ما تفعلونه توسلًا واستشفاعًا، لا عبادة خرجتم بذلك عن الشرك والإشراك، والكفر والكفران.
ألم يكن الأسهل والأيسر للنبي صلى الله عليه وسلم أن يطالب الناس بتصحيح اعتقادهم عند توجههم إلى تلك المعبودات، لا مطالبتهم بالكفر التام بها، وخلعها، وتسفيه أحلام المتوجهين لها المنادين بأسمائها؟!
أمَا كان ذلك أحرى وأقرب لقبولهم دعوته؛ حيث إنهم لن يهجروا التوجه لتلك المعبودات، وفي الوقت ذاته يحصل المقصود العقدي عندما يقرون بإفراد الله بالخالقية والتأثير، وأن أولئك المهتوف بأسمائهم عند الشدائد المقدَّم لهم النذور والقرابين، ما هم إلا شفعاء ووسائل ووسائط بين الناس وربهم؛ لِما لهم عنده من منزلة ومكانة، وأن ما يفعلونه ليس عبادة لأولئك الشفعاء، بل استشفاعٌ وجريٌ على أمر الله تعالى لعباده في كتابه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ﴾ [المائدة: 35]؟
تأمل كيف ظل النبي صلى الله عليه وسلم سنوات طويلةً بمكة يعرض نفسه وأتباعه للتلف والهلاك، ويترك ذلكم "الحل الوسط"، الذي كان يمكنه به استمالة القرشيين وغيرهم من العرب إلى دينه، بما لا يعسر عليهم قبوله؟!
لماذا كانت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم هي قطع كل أشكال التوجهات لأولئك الأموات، وإفراد الله تعالى بالقصود والتوجهات، والنذور والقرابين، والنداءات والاستغاثات، لا العمل على تصحيح نية الناذرين والمنادين والمستغيثين، ولا مطالبتهم بتغيير تسمية ما يفعلونه من عبادة إلى توسل واستشفاع؟!
في الحقيقة، لا عجب فيما به جاء النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فإن قطب رحى دعوته وأساسها وجوهرها، وأساس وجوهر دعوة جميع الرسل والأنبياء من قبله هو إفراد الله تعالى بالتوجه والقصد، والدعاء والنداء في الشدائد والملمَّات، وكذلك إفراده بسائر التعبدات والتقربات، وأن يكون الدين خالصًا له من كل شوائب الإشراك؛ ظاهرة كانت أو باطنة، حقيقية كانت أو صورية؛ ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162، 163].
وأما السؤال الثاني فهو:
إذا كانت الاستغاثة بالميت، وسؤاله الرزقَ والولد، ودفع المكروه، وجلب المحبوب - هي مجرد توسل واستشفاع سائغ وجائز، ما دام فاعله هو المسلم الذي يفرد الله بالخلق والتأثير، فما بال الصحابة عدلوا عن فعل هذا الجائز السائغ، وأطبقوا على تركه مع قيام المقتضِي له؟
لماذا لم نَرَهم غادين رائحين إلى القبر الشريف يسألون النبي صلى الله عليه وسلم قضاء حوائجهم، وإنجاح مطالبهم، وشفاء أمراضهم وأمراض أبنائهم وزوجاتهم وأقربائهم؟! أو حتى فاعلين له وهم في أماكنهم، وحيث تنزل بهم المصائب والبلايا، فيُهرعون إلى الطلب من النبي صلى الله عليه وسلم، وسؤاله أن يكشف ما ينزل بهم، على نحو ما يفعله العوام الآن في المشارق والمغارب من الهتاف بأسماء الأولياء والصالحين عند حلول النوائب، ونزول المصائب، وإحاطة الكوارث بهم، ويسوِّغه المسوغون لهم على أنه استشفاع وتوسل جائز؟!
هل تراهم - أعني: الصحابة الكرام - كانوا يجهلون ما علمه عباقرة المتأخرين من كون نداء الميت وسؤاله ليس سؤالًا حقيقيًّا، بل هو من المجاز العقلي؟!
أتراهم - أعني الصحابة - جهِلوا هذه (اللفتة) اللغوية الشرعية التي توصل إليها مجوزو الاستغاثة، وعجزوا عن فهمها واستساغتها، كما عجز عن فهمها (التيمية) و(الوهابية)؟!
لماذا لا نجد شيئًا من تلك النداءات الصريحة والاستغاثات الواضحة الجليَّة عنهم في صحاح كتب السنة وأمهاتها؟ ولماذا لا يملك مجوزو الاستغاثة عنهم في تلك المسألة إلا ما هو إما عن حكاية عن مجهول، أو أثرًا لا يدل على المطلوب في المسألة، إلا بالتكلف والتمحُّك، وليِّ أعناق الكلام، وجرِّه إلى مراد المستدِّل قهرًا وقسرًا؟!
ألسنا أمام أمر تعُمُّ به البلوى؟ إذ ما ينفك الناس عن حلول المصائب، ونزول النكبات والبليات، ووجود حاجات ومطلوبات لهم، ومن ثم يلجؤون إلى دفع تلك المكروهات، وطلب تلك الحاجات، بكل ما يظنون أنه مساعد على ذلك وناجع في حصوله؟!
ألسنا أمام أمر تتوافر الدواعي على نقله أيما توافر؟ إذ هو واقع على خلاف ظواهر القرآن، وظواهر كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فما كان أجدره بالنقل؛ ليعلم الناس أنه سائغ وجائز، وأنه ليس داخلًا تحت النهي القرآني عن اللجوء لغير الله في كشف الضراء، أو الاعتماد على غيره حال الكروب والملمات، وأنه لا يقاس على فعل المشركين مع آلهتهم التي ينادونها ويهتفون بها! فما كان أشد الحاجة إلى بيان أن فعل المسلم وسؤاله للميت قضاء الحاجات وكشف الكربات مغايرٌ كل المغايرة لفعل المشركين الذين كانوا يسألون آلهتهم ذلك!
ولقد ثبت في الصحيحين أن الصحابي الجليل جابر بن عبدالله رضي الله عنهما صلى في إزار ربطه إلى قفاه، وثيابه معلقة على المشجب، ولما سأله التابعي محمد بن المنكدر علل له صنيعه هذا قائلًا: ((صنعت ذلك ليراني أحمق مثلك، وأينا كان له ثوبان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟))، فقد أراد جابر رضي الله عنه بهذا الصنيع بيان الجواز ونقله إلى الأمة، وأمثلة ذلك كثيرة متناثرة في كتب الحديث.
أليس ما يتعلق بالتوحيد كان أولى بأن يبرزه الصحابة من إبرازهم جواز الصلاة في ثوب واحد، وما شابهها من المسائل الفقهية والفرعية؟
لقد انتشر الصحابة في الأرض المفتوحة وانتقلوا عليها، ألم يكن جديرًا بهم أن يفعلوا هذا النوع من الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو بكبار الصحابة كأبي بكر وعمر بعد موتهما، يفعلوا تلك الاستغاثة مرات ومرات؛ لينقلوا ذلك إلى التابعين الذين هم من طرائق قدد وبيئات شتى، ويرشدوهم إلى ذلك السبيل الناجع لقضاء الحاجات وكشف الكربات، على النحو الذي انتشر وساد في أعصار المتأخرين، وكثر وقوعه في كل يوم بل في كل ساعة، وأضحى - لعموم البلوى بحصوله وانتشاره في أقطار المسلمين - ينتصب من ينتصب لتجويزه وسواغيته، ويدافع عنه، ويشنِّع على المانعين، ويرميهم بمخالفة الإجماع وعمل المسلمين في المشارق والمغارب!
وبعدُ:
فإن نداء الأموات من الأولياء والصالحين إن لم يكن شركًا في الحقيقة، فهو شرك في الصورة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه المسلمين الموحدين الذين هم خيرة الخلق بعد الأنبياء: ((لا تحلفوا بآبائكم، من حلَف بشيء دون الله فقد أشرك))، وقال صلى الله عليه وسلم لرجل كلمه فقال: ما شاء الله وشئت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أجعلتني لله عِدلًا؟ قل: ما شاء الله وحده)).
فلينظر الموفق إلى حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تعليق القلوب بالله وحده في يسير الأمور وجليلها، وعلى رعاية التوحيد حتى في الصورة والمظهر دون سؤال القائل عن مقصوده القلبي، وإرادته ونيته، واعتقاده الداخلي، وهل اعتقد التأثير والتسوية بين الله وبين خلقه عند قوله ولفظه أم لا؟
وهكذا ينبغي أن يكون شأن المسلم المقتدي برسوله صلى الله عليه وسلم، فهو حريص على أن يكون قلبه وقالبه جاريين على التوحيد، وكذلك نيته ومنطقه، ولا يرضى أن يكون قالبه ومنطقه على صورة الشرك، ويعتذر عن ذلك بأن قلبه ونيته على صورة التوحيد، وأن ذلك لا يضره.