تفسير قوله تعالى: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء.....}.
الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم
تفسير قوله تعالى:
﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ.... ﴾ [آل عمران: 26].
قوله تعالى: ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 26].
في هذه الآية بيان عظمة الله - عز وجل - وكمال ملكه، وتمام قدرته، كما أن فيها تعريضًا بأهل الكتاب، وأن إعراضهم إنما هو حسد على زوال النبوة منهم وانقراض ملكهم، وإبطالًا لزعمهم أنهم لن تمسهم النار إلا أيامًا معدودة.
قوله: ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ ﴾: الخطاب والأمر للنبي صلى الله عليه وسلم، أي: قُل يا محمد مُعَظِّمًا لربك ومتوكلًا علىه وشاكرًا له ومفوضًا إليه، وهو خطاب له ولمن تبِعه.
﴿ اللَّهُمَّ﴾: أصلها «يا الله» مُنادى حُذِفت منه ياء النداء.
قال ابن القيم[1]: «لا خلاف أن لفظ «اللهم» معناها: (يا الله)؛ ولهذا لا تُستعمل إلا في الطلب، فلا يُقال: (اللهم الغفور الرحيم)، بل يقول: (الله اغفر لي وارحمني)».
واختلفوا في الميم المشددة من آخر الاسم (اللهمَّ) فقيل: زيدت عِوضًا عن حرف النداء؛ ولهذا لا يُجمع بينهما في الشعر، كما قال ابن مالك[2]:
وشذ يا اللهم في قريض
ومن هذا قول الشاعر:
إني إذا ما حدث ألمَّا
أقول يا اللهمَّ يا اللهمَّ[3]
وقيل: زيدت الميم للتعظيم والتفخيم كزيادتها في (زرقم) لشديد الزرقة، وفي (ابنم) في (ابن).
قال ابن القيم بعد أن ذكر هذا[4]: «وهذا القول صحيح لكن يحتاج إلى تتمة، وقائله لحظ معنى صحيحًا لابد من بيانه، وهو أن الميم تدل على الجمع وتقتضيه، ومخرجها يقتضي ذلك، وهذا مُطرد على أصل من أثبت المناسبة بين اللفظ والمعني، كما هو مذهب أساطين العربية».
إلى أن قال: «وإذا علم هذا من شأن الميم، فهم قد ألحقوها في آخر هذا الاسم (اللهم) الذي يسأل العبد به ربه سبحانه في كل حاجة وكل حال، إيذانًا بجمع أسمائه تعالى وصفاته، فإذا قال السائل: (اللهم إني أسألك) كأنه قال: أدعو الله الذي له الأسماء الحسنى والصفات العُلى بأسمائه وصفاته، فأتى بالميم المؤذنة بالجمع في آخر هذا الاسم إيذانًا بسؤاله تعالى بأسمائه كلها.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «مَا أَصَابَ عبدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ...» وذكر الحديث بطوله.
إلى أن قال: «وهذا القول الذي اخترناه قد جاء عن غير واحد من السلف، قال الحسن البصري: «اللهم»: مجمع الدعاء، وقال أبو رجاء العطاردي: إن الميم في قوله «اللهم» فيها تسعة وتسعون اسمًا من أسماء الله تعالى، وقال النضر بن شُميل: من قال «اللهم» فقد دعا الله بجميع أسمائه».
﴿ مَالِكَ الْمُلْكِ ﴾: بدل من قوله «اللهم»، أو منادى ثانٍ، أي: يا مالك الملك.
ومعنى ﴿ مَالِكَ الْمُلْكِ ﴾؛ أي: لك الملك، أي: أنت المالك لكل شيء، المتصرف فيه، و(ال) في الملك هنا وفي الموضع بعده للجنس؛ أي: لك الملك كله؛ كما قال تعالى: ﴿ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [المائدة: 120]، وقال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [المائدة: 17]، وقال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾ [المائدة: 18].
﴿ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ ﴾: جملة استئنافية فيها مع ما عطف علىها، ومع قوله: ﴿ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ ﴾ الآية بيان تمام ملكه، وكمال تصرفه.
و﴿ مَن ﴾: اسم موصول في محل نصب مفعول ثانٍ لـ ﴿ تُؤْتِي﴾؛ أي: تُعطي الملك الذي تشاء، أي: الذي تريد كونًا إعطاءه إيَّاه لحكمة تعلمها.
وهو مُلك نسبي كمًّا؛ لأن من أعطاه الله الملك لا يملك إلا مملكته التي أعطاها الله إيَّاها دون غيرها.
وهو مُلك نسبي كيفًا؛ لأن من أتاه الله الملك إنما يجوز له التصرف في ملكه وفق ما شرع الله، وليس له التصرف المطلق.
﴿ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ ﴾: نزع الملك أخذه ومنعه، وفي التعبير بـ«تنزع» إشارة إلى تشبث الملوك بملكهم.
و«ما»: موصولة، أي: وتأخذ الملك من الذي تريد أخذ الملك منه بعد تمليكه، وتمنع الملك ممن تريد فلا يحصل على الملك أصلًا، كل ذلك لحكمة تعلمها.
﴿ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ﴾؛ أي: وتقوي وتنصُر وتؤيد الذي تريد نصره، فتكون له العزة والنصر والغلبة.
﴿ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾؛ أي: وتذل الذي تريد إذلاله، فيكون ضعيفًا ذليلًا.
والإعزاز قد يكون كونيًا فقط لحكمة وأسباب مادية، بأن يجعل الله تعالى القوة والغلبة لطائفة ولو كانت كافرة على طائفة أخرى، فيعز هذه الطائفة ويذل الأخرى وهذا في الدنيا.
وقد يكون الإعزاز كونيًا شرعيًا؛ بأن يوفق الله الإنسان لأسباب العزة الحقيقية وهي الإيمان بالله تعالى وطاعته والتقرب إليه؛ فهذه هي العزة حقًّا في الدنيا والآخرة. قال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [المنافقون: 8].
وبها تحصل الغلبة والنصر مع توافُر أسبابه المادية؛ كما قال تعالى: ﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [المجادلة: 21].
كما أن الإذلال قد يكون كونيًّا فقط لحكمة وأسباب مادية، وقد يكون كونيًّا شرعيًّا، بأن يُخذل الإنسان ويُبتلى بأسباب الذل وهي الكفر والمعاصي؛ وهذا هو الذل حقًّا، كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾ [الحج: 18].
فالعز كل العز بالإيمان بالله تعالى وطاعته، والذل كل الذل بالكفر بالله ومعصيته، ولهذا قال تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 9، 10]، وقال صلى الله عليه وسلم: «كل الناس يغدو فمعتق نفسه أو موبقها»[5].
﴿ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ﴾: قدَّم الخبر للتخصيص، أي: بيدك وحدك الخير كله. خير الدين، وخير الدنيا، وخير الآخرة، أي: كل ما فيه نفع ومصلحة، دينية أو دنيوية أو أُخروية من التوفيق للإيمان والعلم النافع والعمل الصالح، وأسباب العزة الحقيقية، والنصر على الأعداء، والأمن في الأوطان، والصحة في الأبدان، والرزق الحلال، وغير ذلك؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ﴾ [النحل: 53]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّا ﴾ [إبراهيم: 34].
وفي الحديث: «اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك»[6]، وقال صلى الله عليه وسلم: «يده ملأى سحاء الليل والنهار»[7].
﴿ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾: الجملة تعليل لما قبلها، أي: لأنك على كل شيءٍ قدير. «إنَّ»: حرف توكيد، ﴿ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ﴾: متعلق بــ«قدير»، وقُدِّم عليه لتأكيد عموم قدرته على كل شيء أيًّا كان صغيرًا أو كبيرًا، قليلًا أو كثيرًا.
و«القدرة»: فعل الشيء بدون عجز، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ﴾ [فاطر: 44].
فالقدرة ضدها العجز، كما أن القوة ضدها الضعف، والقدرة يوصف بها فقط ذوو الإدراك، أما القوة فيوصف بها ذوو الإدراك وغيرهم، فيُقال: فلان قوي، كما يُقال: الحديد قوي.
قوله تعالى: ﴿ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 27].
دلَّل عز وجل في الآية السابقة على عظمة ملكه، وتمام قدرته بكونه يؤتي الملك من يشاء، وينزعه عمن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، ثم دلَّل لذلك في هذه الآية بمداولته الليالي والأيام والتصرف بالزمان.
قوله: ﴿ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ ﴾: أي وتُدخِل الليل في النهار، فيطول الليل ويزيد على النهار.
﴿ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ﴾: أي وتُدخِل النهار في الليل، فيطول النهار ويزيد على الليل.
قال ابن كثير[8]: «أي: تأخذ من طول هذا فتزيده في قصر هذا، فيعتدلان، ثم تأخذ من هذا في هذا فيتفاوتان، ثم يعتدلان، وهكذا في فصول السنة: ربيعًا وصيفًا وخريفًا وشتاءً».
فإذا طال الليل- وذلك في الشتاء- مال الجو إلى البرودة حتى تصل البرودة ذروتها لقلة زمن وجود الشمس على سطح الأرض وكون شعاعها غير عمودي، وإذا طال النهار- وذلك في الصيف- مال الجو إلى الحرارة حتى تصل الحرارة ذروتها، وذلك لطول زمن وجود الشمس على سطح الأرض وكون شعاعها عموديًّا.
ومن حكمة الله تعالى ورحمته كون هذا التداخل بين الليل والنهار تدريجيًّا؛ حتى لا يؤثِّر ذلك على الكائنات والنبات ونظام الحياة؛ ولهذا كانت فصول السنة أربعة فصول: فصل الشتاء، وفصل الصيف، وفصلان انتقالان بينهما وهما: فصل الربيع، وفصل الخريف.
وفي هذا كله من المنافع والمصالح للإنسان والحيوان والنبات وغير ذلك ما لا يُحصى، فيحصل كل نوع من الكائنات الحية والنباتات على ما يناسبه، فبعض الكائنات والنباتات تحتاج إلى البرودة، وبعضها يحتاج إلى الحرارة، وبعضها يحتاج إلى الأمرين، وبعضها يحتاج إلى الاعتدال.
﴿ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ﴾: قرأ ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم، وأبو عمرو، وابن عامر «الميْت» بالتخفيف، وقرأ الباقون ﴿ الْمَيِّتِ﴾بالتشديد.
و«الميْت» بالتخفيف: الذي قد مات دون الذي لم يَمُت، و«الميِّت» بالتشديد الذي قد مات والذي لم يَمُت وسيموت، قال تعالى: ﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ﴾ [الزمر: 30].
قال الشاعر:
ليس من مات فاستراح بمَيْتٍ
إنما المَيْتُ مَيِّتُ الأحياءِ[9]
أي: ﴿ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ ﴾حياة حسيَّة ﴿ مِنَ الْمَيِّتِ﴾موتًا حسيًّا، ومن ذلك أن الله - عز وجل - خلق آدم وأوجده وأحياه من التراب والطين الذي هو جماد لا حياة فيه، وخلق كل واحد من ذريته من نطفة وهي ميتة إلى نفخ الروح فيه بعد تمام مراحل تكوينه، كما قال تعالى: ﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 28].
ومن ذلك إخراج الدجاجة من البيضة، وإخراج الزرع من الحبة، والنخلة من النواة، كما قال تعالى: ﴿ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ [الروم: 50]، ومن ذلك أن تموت الأم ويخرج ما في بطنها حيًّا.
وأيضًا ﴿ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ ﴾؛ أي: الولد المؤمن الحيّ حياة معنوية قلبية ﴿ مِنَ الْمَيِّتِ﴾؛ أي: من الوالد الكافر الميت موتًا معنويًّا قلبيًّا، أي: يخرج الولد المؤمن من الوالد الكافر، وهذا أعظم وأهم؛ كما قال تعالى: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 122].
﴿ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ﴾: أي: وتخرج المولود الميت موتًا حسيًّا إنسانًا كان أو حيوانًا ﴿ مِنَ الْحَيِّ ﴾ من الوالد الحيّ حياة حسية إنسانًا كان أو حيوانًا، فتلد الأنثى من الإنسان أو الحيوان وتُسقِط مولودًا ميتًا، ومن ذلك إخراج البيضة من الدجاجة.
وأيضًا ﴿ وَتُخْرِجُ﴾ الولد الكافر الميت موتًا معنويًّا قلبيًّا ﴿ مِنَ الْحَيِّ ﴾؛ أي: من الوالد المؤمن الحيّ حياة معنوية قلبية، أي: وتُخرِج الولد الكافر من الوالد المؤمن.
فهو سبحانه الذي يُخرِج المتضادات بعضها من بعض، وقد انقادت له جميع العناصر، كما قال الشاعر:
من ظاهر النِّعم الكبرى وباطنها
هذا السحاب به ماءٌ به نار
لا ينكر الله إلا جاهل نَزِقٌ
غِرٌّ بليد سفيه الرأي ختّار[10]
﴿ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾: (الرزق): العطاء، ويشمل رزق الدنيا والآخرة. ورزق الدنيا نوعان: رزق به قوام الأبدان من المآكل والمشارب والمساكن والمراكب.. ونحو ذلك، وهذا يُعطيه الله لجميع الخلق المؤمن والكافر، والبر والفاجر حتى البهائم؛ كما قال تعالى: ﴿ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾ [الإسراء: 20].
ورزق به قوام القلوب والأرواح من الإيمان والعلم النافع والعمل الصالح، وهذا خاص بمن وفَّقهم الله لذلك، نسأل الله من فضله.
أما رزق الآخرة فهو ما أعدهُ الله لأهل الجنة من الثواب العظيم والنعيم المقيم؛ كما قال تعالى: ﴿ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [غافر: 40]، وقال تعالى: ﴿ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ﴾ [مريم: 62].
والمعني: وتعطي الذي تريد من الخلق حسب ما اقتضته حكمتك ﴿ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، وحذف مفعول «ترزق»، ليعم كل رزق من رزق الدين والدنيا والآخرة.
﴿ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾؛ أي: من غير أن تُحصي عليهم ما أعطيتهم وتحده بحد، بل تُعطي العطاء الجزيل بلا حد.
وليس معنى هذا أن الأرزاق غير مقدرة، بل كل شيء مقدر عند الله - عز وجل - كما قال الله تعالى: ﴿ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ ﴾ [الرعد: 8]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ﴾ [الحجر: 21].
كما أنه سبحانه يُعطي العطاء الجزيل، ولا يخاف أن ينفد ما عنده، ويعطي تفضلًا منه وكرمًا بغير عوض.
[1] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 483).
[2] انظر: «ألفيته» (50).
[3] البيت لأبي خراش الهذلي، ويقال: لأمية بن أبي الصلت؛ انظر: «المقتضب» (4/ 242).
[4] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 487).
[5] سبق تخريجه.
[6] أخرجه أبو داود في «الطب» (3919)، من حديث عروة بن عامر رضي الله عنه.
[7] سبق تخريجه.
[8] في «تفسيره» (2/ 23).
[9] البيت لعدي بن الرعلاء الغساني، والرعلاء أمه. انظر: «معاني القرآن وإعرابه» للزجَّاج (2/ 157)، و«لسان العرب» مادة: (موت).
[10] البيتان للشاعر وليد الأعظمي؛ انظر: «المجموعة الكاملة» (ص135).
الألوكة
...................