بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على المبعوث رحمة للعالمين محمد بن عبد الله، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وعلى صحابته الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد شاع بين جماعة من أهل العلم وطلبته أن ينسبوا إلى ابن عباس رضي الله عنه أنه فسر قول الله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) قائلا: "هو كفر دون كفر"
فرأيت أن أجمع طرق هذا الخبر، مع دراسة أسانيده من أجل البحث في مدى صحة نسبة هذا القول إلى ابن عباس رضي الله عنه.
أقول - والله المستعان:
هذا الأثر أخرجه سعيد بن منصور في سننه، وأبو بكر بن الخلال في كتاب السنة، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في السنن الكبرى، وابن بطة في الإبانة من طريق سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حُجَيْرٍ، عَنْ طَاوُسٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: " (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) قَالَ: "لَيْسَ بِالْكُفْرِ الَّذِي تَذْهَبُونَ إِلَيْهِ"
واللفظ لفظ سعيد بن منصور
وقال الحاكم: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ
قلت: بل هو إسناد ضعيف، فهشام بن حجير لا يُحتج به.
قال أبو حاتم: يُكتب حديثه
وضعفه يحيى بن معين، ويحيى بن سعيد القطان
ووثقه العجلي، وابن سعد، وذكره ابن حبان في الثقات
وقال زكريا بن يحيى الساجي: صدوق
وقد حرر ابن حجر هذه الأقوال، فقال -كما في التقريب: صدوق له أوهام.
وقد وقع اختلاف في لفظ الحديث، فرواه الحاكم بلفظ:" إِنَّهُ لَيْسَ بِالْكُفْرِ الَّذِي يَذْهَبُونَ إِلَيْهِ، إِنَّهُ لَيْسَ كُفْرًا يَنْقِلُ عَنِ الْمِلَّةِ (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ" . وروى نحوه البيهقي
قلت وهو خطأ، بل قوله: "إِنَّهُ لَيْسَ كُفْرًا يَنْقِلُ عَنِ الْمِلَّةِ" مدرج من قول سفيان، كما يظهر في رواية أبي بكر بن الخلال وابن بطة إذ روياه من طريق أحمد بم حنبل، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حُجَيْرٍ، عَنْ طَاوُسٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "لَيْسَ بِالْكُفْرِ الَّذِي تَذْهَبُونَ إِلَيْهِ" .
قَالَ سُفْيَانُ: أَيْ لَيْسَ كُفْرًا يَنْقُلُ عَنْ مِلَّةٍ، (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)
قلت: وهو الصواب، وإنما اقتصرت على إيراد لفظ سعيد بن منصور لهذا السبب.
وأخرجه الطبري في تفسيره، وأبو بكر بن الخلال في كتاب السنة، ومحمد بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة، وابن بطة في الإبانة الكبرى من طريق وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) قَالَ: هِيَ بِهِ كُفْرٌ، وَلَيْسَ كَمَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ " واللفظ لفظ أبي بكر
قلت: هذا خبر
ظاهره الصحة، ورجاله ثقات
وأخرج نحوه الطحاوي في مشكل الآثار من طريق سفيان عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ طَاوُسٍ، قَالَ:قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ: وذكر الحديث....
وأخرجه عبدالرزاق في تفسيره، وجماعة، منهم: الطبري في تفسيره، وأبو بكر بن الخلال في كتاب السنة، ومحمد بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة، وابن بطة في الإبانة ، كلهم يروونه من طريق عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)، قَالَ: " هِيَ كُفْرٌ "،
قَالَ ابْنُ طَاوُسٍ: " وَلَيْسَ كَمَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَرُسُلِهِ "
قلت: هذا إسناد ثابت، وزاد عبد الرزاق أن جعل العبارة في آخر الخبر من قول ابن طاوس، لا ابن عباس.
وهذه الزيادة منه مقبوله، إذ هو إمام حجة. وقد وعّر في هذا الخبر، فقد كان أيسر له لو روى الحديث كله على أنه من كلام ابن عباس. فتفريقه بين قول ابن عباس وابن طاوس يدل على ضبطه لهذا الخبر.
فقوله "وَلَيْسَ كَمَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ" في رواية وكيع، عن سفيان، عن معمر، عن ابن طوس، عن أبيه عن ابن عباس....
مدرجٌ من كلام ابن طاوس.
قلت: ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره من طريق الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الرَّبِيعِ، قال: ثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، ثنا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) ، قال: " هِيَ كَبِيرَةٌ "، قَالَ ابْنُ طَاوُسٍ: " وَلَيْسَ كَمَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ "
قلت: وهو منكر، فقد خالف الحسن هذا جماعة من أصحاب عبد الرزاق فيما رووه عنه، كمحمد بن رافع ومحمد بن يحيى -كما في رواية المروزي، وأحمد بن حنبل -كما في رواية أبي بكر بن الخلال ، وأحمد بن منصور الرامادي -ما في رواية ابن بطة.
والحسن بن أبي الربيع ليس له أن يتفرد بمخالفة الثقات أصلًا:
قال أبو حاتم الرازي: شيخ
وقال ابن أبي حاتم: صدوق
وذكره ابن حبان في الثقات
فمخالفة مثل هذا لكبار الثقات عن عبد الرزاق لا تُحتمل، وهي منكرة.
وأما ما رواه الطبري في تفسيره، قال: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)، قَالَ: مَنْ جَحَدَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ أَقَرَّ بِهِ وَلَمْ يَحْكُمْ فَهُوَ ظَالِمٌ فَاسِقٌ.
فلا يثبت، فالمثنى بن إبراهيم -شيخ الطبري- مجهول لم يرد في جرح ولا تعديل من قبل الائمة.
- وعبد الله بن صالح المصري متكلم فيه، كثير الغلط.
- وعلي بن أبي طلحة - على ضعفه اليسير- لم يلق ابن عباس؛ قال ابن حجر: أرسل عن ابن عباس ولم يره من السادسة، صدوق قد يخطىء
فلا يصح الاحتجاج بمثل هذا الخبر
وفي الختام أقول: أصح ما ورد في هذا الباب عن ابن عباس هو ما اخرجه عبد الرزاق في تفسيره - ومن طريقه جماعة - بإسناده إلى طاوس، قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)، قَالَ: "
هِيَ كُفْرٌ "
وأما ما نُسب إلى ابن عباس أنه فرق بين هذا الكفر وبين الكفر المخرج من الملة، فلا يثبت.
وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر