رسالة إلى صديق هجرني
أ. حنافي جواد
كنتُ أعرفهم بسطاء متواضعين مجتمعيين، لكن سرعان ما تغيروا؛ إنْ على مستوى الهيئةِ أو السُّلوك، إن على مستوى الظَّاهر أو الباطن، هل يمكن فهم ما جرى لهم في سياقِ الذات الموظفة (الذات الوظيفية)، أو في سياقِ الذَّاتِ العارفة العاقلة، أو في سياق الجهل، أو في سياق الأنانية والمرض.
إنَّ ما جرى لهؤلاء يجري على أكثرِنا، ولا يجري على أصحابِ الوعي الذاتي والغيري منا، الذين يدركون من أنفسِهم الكثير، ويحسنون التموقع في المواضعِ اللائقة بهم وبغيرهم، فيتموضعون حيث ينبغي لهم التموضع، وهذا هو التواضع.
من الجهلِ أن ننظرَ إلى الحياةِ نظرةً جامدة، وأن نطلبَ منها أن تتوقَّفَ ليحلو لنا المنظر، أو نتمتع بالمشاهدِ القديمة والأشكال التليدة، إنَّ هذا غير ممكن.
إنَّ الذي نتحدثُ عنه هو التغير القبيح، من الأحسنِ إلى الحسن، أو من الرديء إلى الأردأ، أو من الحسنِ إلى القبيح المشين، إنَّ التغيرَ المذموم هو التغير الذي تحكمُ به العقول السوية، لا المعتلة، وَفْقًا لسنةٍ بعيدة عن الأنانيةِ التي يمكن أن تجعلَ من المرء الحاكم محورَ العالم، فيقيس ما يراه ويسمعُه ويحسه إلى ما يعرفُه هو فقط، وهذا خطلٌ فاحش؛ سقطَ ويسقطُ في مستنقعِه العددُ الكثير زَرافاتٍ ووحدانًا.
عاملُ التغيير هذا، هل كان بذرةً قديمة كامنة في المرءِ، أم هو سلوك جديد وليد الذات الوظيفية والثقافة التي تحيطُ بها؟ إنه بذرةٌ قديمة كامنة، فلو كان المرءُ متسلحًا بالوعي القوي لَمَا أصابَه ما أصابه بسببِ المال، وقد يُراودُنا أن يكونَ السَّببُ جديدًا وليدَ الذَّاتِ الوظيفية إذا سلطنا نظرَنا على الوضعيةِ الجديدة التي يعيشُها المرء المدروس، أمَّا إذا تخلَّصنا من الأحكامِ الجزئية، ونظرنا إلى المسألةِ نظرةً كلية، فسنسجلُ أنَّ للإرادةِ الذاتية سلطةً كبيرة، ومن الممكنِ أن تفوقَ سلطةَ المجتمعِ وثقافاته، إذا خاضت تداريبَ مكثفة لترويضِ الذات على مواجهاتِ الكثرة، والقدرة على قولِ "لا" في وسطِ الجماعات الكثيرات والحشود العريضات.
يا صديقي:
إنَّ ما رأيته منك لا ينبغي أن يصدرَ من أضرابك، بل لا ينبغي أن يصدرَ من عاقلٍ، بل إنسان، بل من حيوان، بل من جماد، لقد تأسفتُ كثيرًا مما صدرَ عنك، ولم أخبر قط بخبرك، لم أروِه شاكيًا، وذرفتْ عيني بسببه باكية، باكية، باكية، أمَّا ما بقلبي فلم أسجل له حراكًا.