التربية الصالحة للأولاد
محمود الدوسري
نحن في زمَنٍ انتشرتْ فيه وسائِلُ الفساد، وعمَّتْ وطمَّتْ، وتكالَبَ فيه أعداءُ الإسلامِ على أهله، وكَشَّرَ الشَّرُّ عن أنيابه، فكان لِزامًا علينا أنْ نَهْتَمَّ بتربية الأولاد، ونقومَ بهذه المسؤولية العظمى. واللهُ تعالى أمَرَنا بتأديبِهم وتربيتِهم، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6].
وقد حُمِّلَ الأبوان المسؤوليةَ في التَّنْشِئَةِ والتَّربية؛ يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ؛ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ» (رواه البخاري). فالنَّشْأةُ الصالحةُ مِنْ صلاح المنشأ، فإنْ أدَّى الوالِدان ما عليهما، وكان الأمْرُ خلافَ ما سَعَيَا له، فقد بَرِأَتْ منهم الذِّمَّةُ، واللهُ تعالى يَهدي مَنْ يشاء ويُضِلُّ مَنْ يشاء؛ ولكن السَّذاجة فِيمَنْ هَيَّأَ لأولاده – ذكورًا وإناثًا – سُبُلَ الغِوايةِ والضَّلال، ثم هو يَتَعَلَّلُ بالقَدَر!
ومن مسؤولية الوالد تُجاهَ ولَدِه: غَرْسُ العقيدةِ الصحيحة، وغَرْسُ الإيمانِ في قلبه، وأنْ يتعاهَدَ ذلك بالسَّقي والرِّعاية، ويُعَلمهم الصَّلاةَ، ويُرَغبهم فيها، ويُشَجِّعهم عليها، ويُتابِعهم - في شأن الصلاة - كما يُتابِعهم في الدِّراسة؛ بل وأكثر من ذلك، فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم أرْشَدَنا إلى ذلك بقوله: «مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ» (حسن – رواه أبو داود).
ويَغْرِسُ الأبُ في نفوس أولادِه الأخلاقَ الكريمة؛ كالصِّدق، والوفاءِ، وحُسْنِ الخُلُق، وطِيبِ المَعْشَرِ، ومَحَبَّةِ العلم وأهلِه، والصبر والحِلم، وغيرها من الصِّفات الحميدة، فالطِّفْلُ منذ نُعومةِ أظفاره جَوهَرَةٌ لامِعَةٌ، فمتى حَرَصْتَ على هذه الجوهرة بَقِيَتْ غاليةً وثَمِينةً، ومتى أهْمَلْتَها فَقَدْتَ قِيمَتَها ولَمَعانَها، وأصْبَحَ من الصَّعْبِ إعادتُها إلى ما كانت عليه.
ويُنَشِّئُهم على الآدابِ الإسلامية، ويُدَرِّبُهم عليها؛ كآداب الأكل، الشُّرب، والنَّوم، والضِّيافة، وآداب المَجْلِس، والسَّلام، والجِوار، وآداب قضاء الحاجة، وتشميت العاطس، وغير ذلك، فمتى اعْتادَها في الصِّغَر نَشَأَ عليها في الكِبَر، وسَهُلَ عليه القيام بها، وأثنى الناسُ على حُسْنِ تربيَتِه.
إذاً؛ فهي مسؤوليةٌ عظيمةٌ، وأمانةٌ كبيرةٌ سَيُسْألُ عنها الأبوان؛ كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا» (رواه البخاري ومسلم).
قال ابنُ القيِّم رحمه الله: (إِنَّ الله سُبْحَانَهُ يَسْأَل الوَالِدَ عَن وَلَدِه يَوْمَ الْقِيَامَة قبل أَن يسْأَلَ الوَلَدَ عَن وَالِده؛ فإنه كَمَا أَنَّ للْأَب على ابنه حَقًّا، فللابن على أَبِيه حَقٌّ... فَمن أهْمَلَ تَعْلِيمَ وَلَده مَا يَنْفَعُهُ، وَتَرَكَه سُدًى؛ فقد أَسَاءَ إِلَيْهِ غَايَةَ الإِسَاءَة. وَأكْثَرُ الأَوْلَادِ إِنَّمَا جَاءَ فسادُهم من قِبَلِ الآبَاء وإهمالِهم لَهُم، وَتَرْكِ تعليمِهم فَرَائِضَ الدِّينِ وسُنَنَه، فأضاعُوهُمْ صِغَارًا، فَلم يَنْتَفِعوا بِأَنْفسِهِم، وَلم يَنْفَعوا آبَاءَهُم كِبارًا، كَمَا عَاتَبَ بَعضَهم وَلَدُه على العقوق؛ فَقَالَ: "يَا أَبَتِ! إِنَّك عَقَقْتَنِي صَغِيرًا فَعَقَقْتُكَ كَبِيرًا، وأضَعْتَنِي وَلِيدًا فأَضَعْتُكَ شَيْخًا").
وأسلافُنا الصَّالِحون هم الأُسْوَةُ الحَسَنَةُ، والقدوة في تربيتهم لأولادهم، وتَنْشِئَتِهم النَّشْأَةَ الصالحة؛ بترسيخ العقيدة الصحيحة في نفوسهم، وتعليمِ أُمورِ الدِّين، وتصحيحِ العبادات عندهم، وخَيرُ مِثالٍ لذلك؛ قول ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا فَقَالَ: «يَا غُلاَمُ! إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ...» (صحيح – رواه الترمذي). فمَنْ مِنَ الآباء يُرَسِّخ في نَفْسِ ابنِه أمثالَ تلك المعاني العظمية؟ بل إنَّ منهم مَنْ إذا عُلِّمَ ابنُه أمورَ الحلال والحرام؛ قال: "لا تُعَقِّدوه، فإنه صغير، ولا يَحْتَمِلُ هذا!".
وكَمْ يحكي لنا التاريخُ صُوَرًا من حياة أولادٍ، أحْسَنَ أهلُوهم تربيتَهم فأفلحوا، وصاروا رُموزًا على جَبِينِ التاريخ؛ عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ دِيْنَارٍ، قَالَ: (خَرَجْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما إِلَى مَكَّةَ، فَعرَّسْنَا، فَانحدَرَ عَلَيْنَا رَاعٍ مِنْ جَبلٍ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: أَرَاعٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: بِعْنِي شَاةً مِنَ الغَنَمِ. قَالَ: إِنِّي مَمْلُوْكٌ. قَالَ: قُلْ لِسَيِّدِكَ: أَكَلَهَا الذِّئْبُ. قَالَ: فَأَيْنَ اللهُ؟ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَأَيْنَ اللهُ! ثُمَّ بَكَى، ثُمَّ اشْترَاهُ بَعْدُ، فَأَعتَقَهُ).
أيها الآباء الكرام.. إنَّ أولادَكم الصالحين هم الثَّروَةُ الباقية؛ فإنَّ اللهَ تعالى يرفع الآباءَ والأُمَّهاتِ - بعدَ موتِهم - في درجاتِ النَّعيمِ بِدَعوات أولادِهم؛ ذكورًا كانوا أو إناثًا، فقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، وَعِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَوَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» (صحيح - رواه الترمذي).
الحمد لله... أيها المسلمون.. ومِنْ أَهَمِّ الأُمورِ التي تُعِينُ على صلاح الأولاد: أنْ يَجْلِسَ وَلِيُّ الأمْرِ معهم يستمع إليهم، ويُكَلِّمهم ويتقرَّب إليهم، ويُرشِدهم إلى ما فيه الخير، ويُحَذِّرهم من الشر، ويُشْعِرهم بِعَطْفِه واهتمامه، ويفتح لهم صَدْرَه، أمَّا أنْ يَنْشَغِلَ عن أولاده فلا يراهم، ولا يرونه فهذا خطأٌ كبير.
ومِنْ أهَمِّ الأُمور التي تُعِيُن على تربية الأولاد: سؤالُ اللهِ الذُّريةَ الصالحة؛ كما سأَلَها إبراهيُم عليه السلام فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100]، وكما سأَلَها زكريا عليه السلام فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران: 38]. ومن صِفات عِبادِ الرَّحمنِ أنهم يقولون: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَ ا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74].
ومن الأهمية بمكان: أن يكون الوالدان قُدْوَةً صالِحَةً لأولادهم في الصِّدْقِ والاستقامةِ وجَمِيعِ شؤونهم، وأنْ يَعْمَلاَ بما يَقُولانه. ومن الأمور المُسْتَحْسَنَة ِ في ذلك: أنْ يُصَلِّيا أمام الأولاد؛ وهذا مِنَ الحِكَمِ التي شُرِعَتْ لأجلها صلاةُ النافلة في البيت.
وينبغي الحِرْصُ على استعمال العِبارات المَقْبولةِ الطَّيِّبةِ مع الأولاد، والبُعد عن العبارات المَرْذولَةِ السَّيِّئَةِ، وكذلك الحِرْصُ على تعليمهم كتابَ الله تعالى، وإبعادِهم عن المُنكرات، وحمايتهم منها، والجلوس معهم في المنزل، ومؤانستهم، وتسليتهم، وتعليمهم ما يحتاجون إليه؛ لأنَّ اقتراب الولد من أبَوَيهِ في غاية الأهمية، وله آثاره الواضحة، في استقرار أحوال الأولاد، وهدوءِ نفوسهم، واستقامَةِ طِباعِهم.
وعدمُ استعجالِ النتائج في التربية؛ بل على الوالدين الصَّبرُ والمُصابرة، والاستمرارُ في التربية الصالحة، والدُّعاءُ والحرص عليه؛ فلَرُبَّما استجاب الولَدُ بَعْدَ حِينٍ، وادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ.
ولا بد من استشارةِ ذَوِي الخِبْرة التربوية؛ من العلماءِ والدُّعاةِ والمُعَلِّمين والمُرَبِّين، مِمَّنْ يَعْرِفُ أحولَ الشَّباب، ويَتَفَهَّمُ أوضاعَهم، وما يُحِيطُ بهم، وما يدور في أذهانِهم، فهو أَمْرٌ يٌعِينُ على تربية الأولاد.
ومن الأمور المُهِمَّة: أنْ يَتَعَرَّفَ الوالدان على أصدقاءِ أولادهم، فالطُّيور على أشْكالِها تَقَعُ. وخَيرٌ منه قَولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ» حسن - رواه أبو داود. فمَنْ صاحَبَ الأخيارَ كان منهم، ومَنْ صاحَبَ الأشرارَ صار منهم.
فعلينا أنْ نُشَجِّعَ أولادَنا على مُصاحبة الأخيار، ونُحَذِّرَهم من رُفْقَةِ السُّوء، فالجَلِيسُ الصَّالِحُ خَيرُ مُعِينٍ لَكَ على تربية ابْنِكَ؛ لأنه لا يأمره إلاَّ بما فيه خَير، ولا يَنْهاه إلاَّ عن شَرٍّ.