أيها الحاج
أيُّها الحاجُّ القادم إلى بيت الله الحرام، المرتحل من خلف السُّهُوبِ والجبال والأنهار، القادم من وراء الصحراء الشاسعة، والأصقاع النائية، والبُلدان البعيدة- أَعْطِ نفسك أوَيْقاتًا من الأمل الهادئ، والتفكير الدقيق، والنظر الصادق، تغوص فيها على ما تقوم به من شعائر ومناسك.
وفي البداية لا بد لك من صدق النية، وإخلاص القلب، وصحة العمل والتوجُّه المنيب إلى الله عز وجل، عسى أن تُكتَب في أولئك الذين يَحُفُّهم الرِّضوان، وتشملهم الرحمة، وتباركهم بُشْريات القَبول والإجابة، ولا يَغِبْ عنك ما الذي يدِّخره الله تعالى من أجر عظيم لك ولإخوانك الحُجَّاج ما صلحت النية، وصحَّ العمل، واستقام المنهج.
إنك حين تخرج إلى بيت الله الحرام، سيكون لك بكل خطوة حَسَنةٌ تُكتَب، وسيئةٌ تُمحَى، وأما ركعتاك بعد الطواف فهما كعتق رقبةٍ من بني إسماعيل عليه السلام، وأما سعيُك بين الصَّفا والمروة فهو كعتقِ سبعينَ رقبةً، وأما وقوفُكَ عشيةَ عرفة فإن الله عز وجل يهبط إلى سماء الدنيا فيُباهي بهم الملائكة، يقول: عبادي جاؤوني شُعْثًا من كل فَجٍّ عميقٍ يرجون رحمتي، فلو كانت ذنوبهم عدد الرمل، أو كقَطْر المطر، أو كزَبَدِ البحر لغفرتُها، أفيضوا عبادي مغفورًا لكم ولمن شفعتم له.
وأما رميُك الجِمار فلك بكل حَصاةٍ رميتَها تكفيرُ كبيرةٍ من الموبِقات، وأما نحْرُك فمَذْخُور لك عند ربك، وأما حِلاقُكَ رأسَكَ فلك بكل شعرة حلقتها حسنةٌ، ويُمحى عنك بها خطيئةٌ، وأما طوافُكَ بالبيت بعد ذلك فإنك تطوف ولا ذنب لك، يأتي مَلَكٌ يضع يديه بين كتفيك فيقول: اعمل فيما تستقبل فقد غُفِر لك ما مضى.
وقلْ مثل ذلك عن صلاتك وتلبيتك، وشربك من زمزم، وتقبيلك الحَجَرَ الأسودَ، ووقوفك بالمُلْتَزَم، وذكرك وتلاوتك وتسبيحك واستغفارك، وصدقتك وعطائك، والجهد الذي تبذل، والمشقة التي تحتمل، والدعاء الذي ترفع وتضرع، والنجوى التي تدعو بها وتُخبِت وتُنيب.
أيُّها الحاجُّ! لا يغِبْ عنك ذلك، ولا يَغِب عنك بعد إذ تكتمل حجتُك، أنك تبدأ في حياتك صفحةً جديدةً، فحَذارِ أن تشوبها المعاصي والآثام، فالأجَلُ طارقٌ بابَ كلِّ إنسان، ولا يدري أحدنا متى سيطرق بابه، وَلْتَعُدْ أيُّها الحاجُّ إلى بلدك وأنت أكثرُ صفاءً وصدقًا واستجابة للطاعات، وقربًا من الخير، ونَأْيًا عن الشر.
لا يَغِبْ عنك أن المسلم الذي يحيا في مناخ الحج الطاهر العاطر، ويُصْقَل فيه صقلًا عظيمًا، ويُقوَّم فيه تقويمًا كريمًا، في ظلال الأوامر والنواهي، وفي أفياء الشعائر العظيمة المباركة، ينبغي أن يصبح أقدرَ على أخذ مكانه في الصفِّ المسلم، يخدم أمته، ويحمي ذِمارَه، ويجاهد بصدق ومَضاء، وينشر كلمة الله في الأرض ويعليها، ويحارب كلمة الباطل ويتصدى لها، ويسقي شجرة الإيمان، ويجتثُّ شجرةَ الشيطان، ليكون بذلك جنديَّ صِدْقٍ من جنود الرسالة الخالدة، أولئك الجُنْد الأطهار الأبرار الذين يُشكِّلون خير الأمم: ? {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} ? [آل عمران: 110] أولئك الجند الذي سيظلون متمسِّكين بالإسلام، عاضِّين عليه بالنواجذ، عاملين لإعلاء كلمته، يمنحون جميع ولائهم له وحده، مهما فسد الزمان، وتبدَّلت الدنيا، وغُيِّر الناس، مصدِّقين بموقفهم هذا قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (( «لا تزالُ طائفةٌ من أُمَّتي ظاهرينَ على الحَقِّ لا يَضُرُّهم مَنْ خَذَلهم ولا مَنْ خالفَهم حتى يأتيَ اللهُ بأمْرِهِ وهم ظاهِرونَ» )).
وَلْتَكُنْ على يقين راسخ لا حدَّ له، أن الإسلام سينتصر بإذن الله في يومٍ لا ريبَ فيه، سينتصر في يومٍ قادمٍ، يصنعه الله عز وجل بأيدي المؤمنين المجاهدين، فسارع وكنْ منهم، وبادر إلى الإيمان والجهاد، فموكب المؤمنين المجاهدين أكرمُ المواكب وأطهرُها، وأحبُّها إلى الله عز وجل، فأكْرِمْ نفسَك، وأعْلِ منزلتها بالانتساب إليه.
وإنَّ دينك العظيم منتصرٌ ذاتَ يومٍ اللهُ أعلمُ بموعده، منتصرٌ نصرًا عظيمًا، سوف يُمكِّن الله به للحق، ويبدل به الخوفَ أمْنًا، والضعفَ قوةً، والتفرقةَ وحدةً، والجُبْنَ بُطُولةً، فانتسب إلى موكب الإيمان والجهاد، وابذل جهدك كلَّه في سبيل انتصار الإسلام وغلبته، وإعلاء رايته ومجده.
ولا يَغِبْ عنك أيُّها الحاجُّ الكريم، أن الله عز وجل أكْرَمُ من أن يرُدَّ حُجَّاجَ بيته إذا دعَوه، وأن يُعْرِض عنهم إذا أقبلوا عليه، فهو الجواد العظيم الذي لا ساحلَ لجوده وكرمه، ولا نفاد لخزائنه جل شأنه، لا يَغِبْ عنك ذلك، ولا يَغِبْ عنك أن تكون الأكُفُّ الضارعةُ صورةً صادقةً أمينةً لقلوبٍ أيقنَتْ بالإجابة، ونفوسٍ أخذت بالأسباب، وجانبت التواكل، واستغرقت كل طاقاتها وإمكاناتها في خدمة دينها العظيم والولاء له وحده، وامتلكتها الحرقة الصادقة، وتجافَتْ عن المضاجع، وهَزِئَتْ بالراحة، واستعلت على طلب العافية أيًّا كانت، وإيثار السلامة ولو على حساب الحق، وثبتت على الدَّرْب، وأصرَّت على مواصلة السُّرى مهما تكن الصِّعاب، وعزمت على الاستمرار في خدمة دين الله والولاء التام له وحده، حتى يكون له الظهور، أو تنفرد منها السوالف، وأعلنت ذلك دون مواربة ولا دوران، ولا محاورة ولا مناورة، وارتفعت على نوازع الطمع والجشع، والمال والمنصب، والمغنم والجاه، وحب الإخلاد والقعود، واستعصت أن تقع صريعةَ الخوف والهلع، والرعب والجزع، والتحديات الكبيرة، والعقبات المرة الكَؤُود، وقررت أن تحيا للإسلام، دينًا ودولة، ومنهاج حياة وطريق سعادة كريمة في الدنيا والآخرة، بذلك تؤمن، ومن أجله تعمل، وعليه تموت.
______________________________ _______________
الكاتب: د. حيدر الغدير