من مفاسد التربح المادي بالدين
حسن عبدالحي
الدُّعاة إلى الله - تعالى - والعامِلُون لهذا الدِّين بَشَرٌ، يَحتاجُون إلى ما يَحتاجُه سائرُ النَّاس من دخل ماديٍّ يُغَطُّون به حاجات أنفسهم وأهليهم ومَن يَعُولُونهم، بالإضافة إلى الدَّعْمِ الماليِّ لدعوتهم، والانشِغالُ بالتكسُّب عادَةً ما يَعُوقهم عن دعوتهم أو عن بعض مهامِّهم الدعويَّة، وقد فقَدَت الدَّعوة إلى الله - عزَّ وجلَّ - بشكلٍ كبيرٍ المؤسسةَ الماليَّة الكبرى القائمة على شؤون الدعوة والدُّعاة؛ كبيتِ مال المسلمين، أو الجمعياتِ البديلة عنها القائمة بأعمالها.
كلُّ هذا فرَض على الدُّعاة إلى الله، الحريصين على دعوتهم، المُحتاجِين للدَّعم المالي، فرَض عليهم التحرُّكَ بأنفُسِهم لإيجاد المَخْرَج والسَّبيل، فلَجَأ طائفةٌ كبيرة من العاملين للتربُّح بالدِّين ذاته؛ لسدِّ حاجتهم وحاجات دعوتهم.
وقد تنوَّعت صُوَرُ التربُّح المادي بدين الله - تعالى - لا سيَّما بعدما دخلت الدعوة أطوارًا جديدة؛ مثل: الفضائيَّات، وشبكة (الإنترنت)، وغير ذلك.
فكِتابَة بعض المقالات في جريدةٍ أو موقع (إنترنت)، أو إلقاء بعض المُحاضَرات والخُطَب في المسجد، أو الظهور الإعلاميِّ للدُّعاة في الفضائيَّات، أو حقوق ونشر الكُتُب والبُحُوث، أو تحفيظ القرآن وتعليمه، أو المُعالَجة من المسِّ والسِّحر بالقرآن والرُّقَى الشرعيَّة، أو غير ذلك من صُوَر التربُّح المادي، أصبح بجانِب كونِه دعوةً إلى الله -تعالى- موردًا ربحيًّا للدُّعاة إلى الله - عزَّ وجلَّ.
هذا، بالإضافة إلى الخدمات المُحاطَة بالعمل الدعويِّ، والتي هي في الحقيقة جزءٌ من العمل الدعويِّ، وهي كثيرة جدًّا.
لكن كون التربُّح بالدِّين حاجة مُلِحَّة لكثيرٍ من العامِلين لهذا الدِّين، من دُعاة وغيرهم، وشيئًا مشروعًا في الجملة في شرع الله - تعالى - وعمِل به خِيارٌ من هذه الأمَّة، كلُّ هذا لا يمنعنا من إظهار ومعالجة بعض السلبيَّات أو المفاسد الواقعة جرَّاء ذلك.
وقد وقَع بالتكسُّب والتربُّح بالدِّين بعضُ المفاسِد؛ بل كثيرٌ من المَفاسِد، ربَّما لأنَّ المال ابتِداءً فتنةٌ؛ بل فتنة هذه الأمَّة، كما في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن لكلِّ أمَّة فتنة، وإنَّ فتنة أمَّتي في المال))[1]، وربَّما لأنَّ من النَّاس مَن تعمَّد محض التكسُّب والتربُّح بالدِّين، بعيدًا عن كلِّ المقاصد الدعوية من وراء مشاركتهم في الدعوة، لا سيَّما بعدما ظهر للجميع ما تُدرُّه بعض الأعمال الدعويَّة أحيانًا من أرباح ماليَّة عالية.
ومن أعظم مَفاسِد التربُّح الماديِّ بالدِّين:
أولاً: إفساد النيَّات الحسنة؛ فبعد أن كان همُّ العامِل لهذا الدِّين نشرَ دعوته في الآفاق ابتِغاءَ نُصْرَةِ دِين الله - تعالى - تراجَعَتِ المَقاصِدُ الطيِّبة يومًا بعد آخَر في ظلِّ وجود المُقابِل الدنيويِّ، حتى لربِّما نَسِي البعضُ أنَّه ما تحرَّك ابتِداءً إلا لله - تعالى - وراح يُساوِم على عمله الدعويِّ بالدِّينار والدرهم وحُطام الدنيا الزائل، يَقول - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن غزا في سبيل الله ولم يَنْوِ إلا عِقالاً، فله ما نوى))[2].
وفي الحديث المشهور عن عمر - رضِي الله عنه - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنَّما الأعمال بالنيَّات، وإنَّما لكلِّ امرئٍ ما نوى، فمَن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومَن كانت هجرته إلى دنيا يُصِيبها أو امرأةٍ يَنكِحها، فهجرته إلى ما هاجَر إليه))[3]؛ فمَن كان يَأخُذ ليَستَعِين على العمل، فهو على خير، ومَن كان يعمَل فقط ليَأخُذ، فليُراجِع نفسَه، ولا يُؤثِر الأجر الدنيويَّ على الأخرويِّ، وجميعُنا يقع في نيَّته الشيءُ والآخَر من الدُّنيا؛ لذا وجب علينا مُراجَعة نيَّاتنا الفَيْنَة بعد الأخرى؛ لتَصفِيَتِها من شوائبها.
ثانيًا: الوقوع في كثيرٍ من المحرَّمات؛ كالغشِّ والتدليس والكَذِب، والسرقة والخداع، وعدم النصيحة، وحبِّ الدنيا، فالذي يملأ الكتاب بالحواشي بلا فائدة - وهو يعلم - لتَزداد صفحاته ويَربَح أكثرَ، غاشٌّ للمسلمين غير ناصِح لهم، والذي يَسرِق جهودَ إخوانه وينسبها إلى نفسه سارِقٌ مُعتَدٍ، والذي يُغالِي في طلباته الماديَّة للعلاج الشرعي بالقرآن والرُّقَى أو تعليم العلوم الشرعية، مُؤْثِرٌ للدنيا مُضَيِّع لحقوق الأخوة الإسلاميَّة، وكلُّ هذا وغيره واقعٌ مَلْمُوس، نَراه كثيرًا في التربُّح بدين الله - تعالى.
يقول -صلى الله عليه وسلم-: ((ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تُبسَط الدنيا عليكم كما بُسِطَتْ على مَن كان قبلَكم، فتَنافَسُوها كما تَنافَسُوها، فتُهلِكَكُم كما أهلكَتْهم))[4].
ثالثًا: إساءة ظنِّ الناس بأهل الدَّعوة والعامِلين لهذا الدين؛ وهذا راجِعٌ بالفعل للتصرُّفات السيِّئة من بعض أهل الدِّين - كما سبق في النقطة السابقة - كما يَرجِع لِجَهْلِ كثيرٍ من النَّاس بمشروعيَّة أخْذ الجُعْلِ على العمل الدَّعوي، وجهلهم بحاجة الدُّعاة إلى الله للمال، المُكمِّل في الحقيقة لعملهم الدعويِّ.
ولا شكَّ أنَّ مُراعَاة أحوال الناس، والحِفاظ على حبِّهم وقُرْبِهم من الدُّعاة إلى الله، وتوقيرهم لهم - مصلحة شرعيَّة كبيرة، ولو أنَّ النَّاس فقدوا الثقةَ في أهل الدِّين لم يبقَ لهم إلا الرُّوَيْبِضَةُ من أشباه المثقَّفين، وأصحاب التوجُّهات الفكريَّة الضالَّة، فيقع ما لا تُحمَد عُقبَاه، ولهذا يُشَنِّع العلمانيُّون وجهَلةُ الإعلاميِّين على أهل الدِّين في هذه المسألة خاصَّة تشنيعًا كبيرًا جدًّا، ويُظهِرونهم على أنَّهم أهل دنيا وملذَّات.
وقد كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُراعِي أحوال الناس ودينهم؛ فلا يقتل بعض المنافقين؛ حتى لا يُقال: إنَّ محمدًا يقتل أصحابه، كما لا يَهدِم الكعبة ويَبنِيها على قَواعِد إبراهيم، فيَقَع في قلوب أهل مكَّة شيءٌ وهم حَدِيثُو عهدٍ بكفر، وهكذا يحفَظ ويخشَى الداعية إلى الله على إيمان الناس أكثر منهم أنفسهم.
رابعًا: من المفاسد كذلك: ترك العمل التطوُّعي، أو تقليلُه من أجل التفرُّغ للأعمال التي تدرُّ الرِّبح والمال، على أنَّ الأصل الصحيح في هذا: تقديم أولويَّات الدعوة، لا تقديم رغبات الداعية أو العامل لله، مع ما يُوافِق ضروريَّات الداعية المُلِحَّة، ومن مَظاهِر ترك الأعمال الدعويَّة التطوعيَّة عدم المُبالاة بها والاهتِمام والتفاعُل معها، شأنها شأن العمل الدعوي الرِّبحي.
ومن صُوَرِ هذه المفسدة في الواقع تركُ كثيرٍ من الدُّعاة للمساجد، وعدم الاهتِمام بخُطَبِ الجمعة بشكل وافٍ، وكثرة الإصدارات المؤلَّفة، وقلَّة التحرُّك الميداني بين الناس... وهكذا.
فالواجب على أهل الدِّين أن يتَّقُوا الله - تعالى - في دعوتهم، وألاَّ يَنشَغِلوا عنها بالتربُّح بها، وأن يجعلوها الغايَة لنَجاتِهم في الدنيا والآخِرة، لا الوسيلة للتكسُّب ومُضاهَاة أهلِ الدنيا في ترَفِهم ورغَدِهم.
وآخِر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلِّ اللهمَّ وسلِّم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه، ومَن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.
[1] رواه الترمذي والحاكم من حديث كعب بن عِياض، وصحَّحه الحاكم ووافَقَه الذهبي، وصحَّحه الألباني كما في "الصحيحة".
[2] رواه أحمد والنسائي والحاكم من حديث عُبادة بن الصامت، وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع".
[3] متفق عليه.
[4] أخرجه البخاري ومسلم من حديث عمرو بن عوف الأنصاري.